الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة ضد الدكتاتورية

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إن تزايد شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، العنصرية والفاشية في أوروبا عموما، هو بطريقة ما صمام أمان لهذه المجتمعات ووسيلة للتمويه وإلهاء العناصر التي أصابها فيروس الرفض والتمرد، ورغم أنها تمثل في الظاهر حركة رفض لبعض قيم المجتمع الرأسمالي والليبرالي، فإنها لا تعيّن ولا ينظر إليها مطلقا كعدو للرأسمالية الليبرالية ولا تنعت بالسلبية أو بالتدميرية، ذلك أن أغلب قادتها ومنظريها ينتمون للبرجوازية ولا يطالبون إلا بإصلاحات وتغييرات جزئية في النظام.
الرأسمالية تمكنت من تطوير نفسها لتنهش حقوق العمال وتمكنت من قمع كل الثورات وتحويلها لصالحها وتمكنت من القضاء على كل فكر يناهضها وخلقت حولها فراغا سرمديا يبعث على اليأس وفقدان الأمل في كل فرصة لتحسين وضع الفقراء والمهمشين. الرأسمالية أصبحت اليوم هي القوة الوحيدة المسيطرة والمهيمنة على العالم بأسره، غير أن هذه الهيمنة واستعمار الكرة الأرضية من قبل الماكدونالدز والكوكاكولا ونيستلي ونايك وغوغول وميكروسوفت وأمازون وغيرهم من الشركات والمؤسسات الإستغلالية مصحوبة بحاملات الطائرات والقواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، هذه الهيمنة لم تتم بواسطة القوة والسلاح والصواريخ وحدها، كما أن هزيمة وتلاشي فكرة الثورة وتغييب فكرة الصراع الطبقي عن ساحة النضال الإجتماعي وإستبدالها بهذه القضايا الفرعية المبعثرة لم يتم بقوة الجيش والشرطة وأجهزة الإعلام وحدها، وإنما بمساعدة ومساندة جيش من المثقفين والفنانين وفيالق من علماء الإجتماع والفلاسفة والإخصائيين في السياسة والإقتصاد. منتجي الثقافة هؤلاء منذ أكثر من نصف قرن وهم يحطمون حجرا حجرا وفكرة فكرة كل الميراث الثوري وكل ما بناه النضال العمالي خلال قرنين من الزمان، ونظروا وروجوا لأولوية الحرية الفردية على العدالة الإجتماعية.
مع ملاحظة أن الثورات الإجتماعية التي وعدت بها الماركسية لم تحدث في المجتمعات الصناعية في عصر ماركس وذلك للأسباب التي ذكرناها سابقا. فإذا تمكنت السلطة البرجوازية من الصمود، فهذا ليس فقط من خلال القبضة الحديدية التي تمسك بها البروليتاريا، ولكن بشكل أساسي بفضل سيطرتها الكاملة على وسائل الإعلام والثقافة وسيطرتها على عقول الجماهير العمالية. هذه الهيمنة الثقافية تقود بطبيعة الحال إلى تبني الطبقات العمالية والشعبية للنظرة العالمية للمسيطرين على الصناعة الفكرية والثقافية والإعلامية وقبولها على أنها "بديهية" ضرورية ولا مفر منها، مثل الفكرة القائلة بإستحالة الثورة وبأن النظام الرأسمالي هو النظام الطبيعي الملائم لكل المجتمعات. وتتشكل هذه الهيمنة ويتم ينشرها والدعاية لها والحفاظ عليها من خلال نشر هذه المفاهيم والقيم داخل المدرسة والكنيسة والمسجد والأحزاب والمنظمات العمالية والمؤسسة العلمية والجامعية والفنية ووسائل الاتصال الجماهيري... لذا فإن العديد من المراكز الثقافية تنشر هذه الأفكار التي تغزو العقول تدريجياً وتجعل من الممكن الحصول على موافقة أكبر عدد ممكن من المواطنين. ولتغيير عقلية هؤلاء المواطنين ونشر الفكر النقدي ، فإن ذلك يجب أن يمر أولاً بعمل أيديولوجي وثقافي طويل الأمد، وإعداد بطيء للأرضية داخل المجتمع المدني لتقبل فكرة التغيير. يجب علينا، شيئاً فشيئاً، أن نعمل على فك الحصار العقلي، وتثبيت القيم التي ندافع عنها في المجال العام من أجل التخلص من الهيمنة الثقافية البرجوازية واليمينية والدينية وذلك بهدف التخلص والتحرر من السلطة. فالأيديولوجية النيوليبرالية التي أثبتت نفسها باعتبارها النظام الوحيد الممكن للتنظيم الاقتصادي، وذلك نتيجة عمل طويل الأمد تحت الأرض لغزو العقول تدريجيا والسيطرة على الفكر العام، بدءًا من مراكز أبحاث الاقتصاديين الأمريكيين والأوروبيين (مراكز الفكر) في الخمسينيات من القرن الماضي إلى الصحفيين وكبار موظفي الخدمة المدنية وقادة الرأي وجماعات الضغط والفنانين الذين يفرضون أفكارهم الرئيسية تدريجيًا في المجال الثقافي.
هذا هو مفهوم “الهيمنة الثقافية - “egemonia culturale”” الذي طوره الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci 1891 – 1937. عضو مؤسس للحزب الشيوعي الإيطالي الذي كان أمينًا عامًا له، ومفكرًا نشطًا، وصحفيًا، ومؤسس صحيفة يونيتا Unità، وكان أنطونيو جرامشي نائبًا عندما اعتقله الفاشيون في عام 1926 وأدين بالتآمر بعد عامين. وسينهي المدعي العام لموسوليني لائحة اتهامه بهذه الكلمات: "يجب أن نمنع هذا الدماغ من العمل". إنها خدعة من التاريخ، حيث شكل الاشتراكي الثوري أفكاره خلال هذا السجن الطويل، وأصبح أحد أكثر المنظرين أصالة في الماركسية، حيث قضى طوال أيامه في السجن في التفكير والكتابة، عمل ثري وضخم، ما يقرب من 3000 صفحة من دفاتر الملاحظات، تم تهريبها إلى خارج إيطاليا ونشرها أخيرًا تحت اسم دفاتر السجن Quaderni del carcere. تشكل هذه انعكاسًا عميقًا ورؤيويًا للتاريخ الإيطالي، والماركسية، والتعليم ، وعلى وجه الخصوص تعليم العمال والمجتمع المدني عموما. هناك خيط مشترك يمر عبرهذا العمل الكبير وهو إعتبار الثقافة، بالمعنى الواسع، مرتبطة "عضويًا" بالسلطة المهيمنة.
الهدف من النضال في نظر غرامشي هو مواجهة الثقافة المهيمنة في المجتمع المدني. بالنسبة لجرامشي، الدولة لا تقتصر على الحكومة وحدها، ويميز بين مجالين مختلفين للسلطة: من ناحية، "المجتمع السياسي" الذي يجمع بين المؤسسات السياسية، كالحكومة والوزارات والبرلمان والأجهزة القمعية التابعة لها كالشرطة والجيش والنظام القضائي. ومن ناحية أخرى، “المجتمع المدني” الذي يجمع المؤسسات الثقافية كالجامعات والمدارس، وكذلك المثقفين، والإعلاميين، والفنانين إلخ، والذي ينشر ويساهم في تطوير إيديولوجية الدولة بشكل علني أو مستتر، مباشر أو غير مباشر، بوعي أو بدون وعي من أجل الحصول على دعم أغلبية الشعب للأفكار المطروحة على الساحة الثقافية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?غرب وا?طرف الخناقات بين ا?شهر الكوبلز على السوشيال ميديا


.. عاجل | غارات إسرائيلية جديدة بالقرب من مطار رفيق الحريري الد




.. نقل جريحتين من موقع الهجوم على المحطة المركزية في بئر السبع


.. سياق | الانقسام السياسي الإسرائيلي بعد حرب 7 أكتوبر




.. تونس.. بدء التصويت لاختيار رئيس الدولة