الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مطاردة من الماضي

فوز حمزة

2024 / 7 / 7
الادب والفن


وهو يضع فوق طاولتي كأس النبيذ، قرأت في عينيه شيئًا، وبالفعل، سألني النادل مشيرًا بجبهة رأسه المدور، الذي بدا كغطاء لإطار سيارة، وبهمس قال: أتعرف تلك السيدة؟
فالتفتُ بنصف غباء متتبعًا إشارة رأسه:
- ليتني أعرفها، من تكون؟.
- لا أدري، لقد سألتني عنك حال دخولها، وقد أخبرتها بقدومك في أي وقت.
- ألم تخبرك ماذا تريد؟.
- لم تفعل!.
فغادرني وهو يبتسم بمكر.
المساء كان في أوله حينما خطرت في بالي فكرة ارتياد المقهى المفضل لدي من بين العشرات من مقاهي باريس.
كنت قد اخترت الجلوس قرب الموقد لأدفن صقيع الثلج، الذي لازمني منذ قدومي لهذه البلاد.
لاحت مني نظرة ثانية نحوها، فرأيتها تحمل حقيبتها في اليد اليسرى بينما التفَ معطفها الأسود حول معصمها وقد اقتربت مما لاشك فيه نحوي!.
وبالفعل مدتْ يدًا رفيعة بيضاء، فمسكتْ بها أعلى الكرسي القابع أمامي وسحبته قائلة:
- أتسمح لي بمشاركتك الطاولة؟.
كل شيء بيّ قد أرتعد، لها صوت كدندنة أمي وهي تناغيني عندما كنت طفلاً... أشرتُ لها بالجلوس بينما حلقي قد جفَّ، ومن السخف أنها رأت محاولتي في ابتلاع ريقي، الذي غدا لا ريق له!.
جلستْ في هدوء عجيب!.
- شكرًا. لن آخذ من وقتك الكثير.
رفضتْ أن تختار شيئًا حين سألتها عن مشروبها المفضل.
بدتْ جميلة بعينيها العسليتين وشعرها الذّهبي وبشرتها البيضاء. كانت رشيقة وبسيطة إلى حد ملفت للنظر. تتدلى من عنقها سلسلة فضية معلق في وسطها صليب مرصع بقطع صغيرة من الألماس كنت قد أهديتُ شبيهه إلى امرأة تعرفت عليها في إحدى حانات باريس قبل عقودٍ من الزمن.
سألتني بصوت رقيق:
- ألا أذكّركَ بواحدة؟.
لم تدعْ لي فرصة الإجابة حينما عقبت بسرعة:
- أنا سوزان .. هل يعني لك هذا الاسم شيئًا؟.
صمتتْ لحظات ربما لتمنحني فرصة أستعيد فيها أنفاسي. أردفتْ وهي تشبك أصابع كفيها مع بعضها وتضعهما تحت ذقنها:
- ألم ترغب بتسمية المولود إن كانت بنتًا سوزان؟.
لاحظتْ ما اعتراني من توتر فقالت:
- أنا ابنتك!.
تولاني الذهول بذراعيه والدهشة بدتْ كبيرة في عينيّ،وكأنها فهمت ما دار بيني وبين نفسي فاستأنفت بسرعة:
- أنا ابنة ماضيك، ربما ظننت أن الهروب سينجيك منه!.
قلت لها وملامح الجدية ونفاد الصبر بانتْ تباشيرها على وجهي:
- ما الذي تشيرين إليه؟.
- أنا أتحدث معك بوضوح، لا أعتقد بوجود رجل ينسى امرأة، هرب منها وهي توشك على ولادة طفله، ثم سألتني بسخرية:
- هل تجدني قاسية؟!.
سؤالها أعادني لزمنٍ ظننتُ أني نسيته.
كانت لدي طموحات بقدر ما في قلبي الآن من مآسٍ وخيبات، كنت متفوقًا وأحلم بالمستقبل في بلدي. سألتها:
- كيف عثرتِ عليّ؟.
- أمي أخبرتني باسم المقهى، الذي تتردد عليه. لم أكن متأكدة من وجودك في باريس لأنكَ كما علمتُ من أمي، كنت تريد استكمال الحلم في بلدك.
صمتُّ مفكرًا في بلدي، الذي تحول إلى مقبرة لوأد الأحلام، شعرت بحاجتي للتحدث عن الأمر، لكني فضلتُ الصّمت لئلا تظن أنني أحاول تبرير ما فعلت.
قلت لها:
- تشبهينها كثيرًا!.
ابتسمتْ لترد بهدوء وكأنها لم تسمع ما قلته:
- ظلتْ محتفظة بصورك، وأشياء تركتها متعمدًا كي توهمها بعودتك!.
- الأمر ليس كذلك!.
- مهما يكن الأمر،لم يعد يهمني!.
كلماتها الأخيرة أحضرت الماضي بصورته البشعة. كنت أريد إخبارها بمدى غبائي حينما اتخذت قرار الانفصال عن المرأة الوحيدة التي أحببتها. حصلتُ على الدكتوراه راغبًا في العودة إلى بلدي، الذي منعتني الحرب من العودة إليه، والثمن كان العيش بقية عمري دون حب.
وقفتُ في المنتصف أتساءل: هل أعود لأكون كقطعة خشب يلقى بها في المحرقة، أم أعود للمرأة التي ما عادت تراني رجلًا؟.
لقد تزوجتُ مرتين، وعاشرتُ نساءً كثيرات، السرير لم يعد يتذكر ألوانهن أوأسماءهن. كنت أضاجع نساء تشبه الدمى أطفئ بها ظمأ جسدي حين يصرخ، لكن داخل رأسي ظل الندم يئن ملتاعًا!.
حينما أتذكر لحظة الهروب الغبية، بينما المطر المنهمر في الخارج تواطأ معي، ينتابني الحزن!.
مونيك، امرأة ذكراها حينما تمر يتبعها الشروق وقلبي.
قلت لها وكأني أحدث نفسي:
- ليت الحياة تمنحنا فرصة أخرى لترميم ما تهدم!.
قالت بنبرة فيها من الأسى الشيء الكثير وهي تنظر صوب النافذة:
- المواقف هي المرايا التي ننظر من خلالها لأنفسنا.
نظرتُ إلى سوزان، شعرت كأن عالمًا يفصلني عنها، عادت لتحرك الهواء الساكن حينما قالت:
- سأغادر الآن، لدي موعد مع زوجي لحضور حفلة موسيقية.
سألتها وشعرت بعدها بغباء سؤالي:
- هل لديكِ أولاد؟.
وهي تلبس القفاز بعد أن زررتْ معطفها، أجابتْ كمن يلقي حملًا ثقيلًا:
- لدي صبي في الرابعة من عمره.
هذه المرة خرج صوتي متوسلًا:
- هل سنتقابل ثانية؟.
ردّتْ:
- كانت لدي رغبة في رؤية الرجل، الذي كان سببًا لمجيئي للحياة، لا أدري إن كانت ستعاودني الرّغبة ثانية!.
- كيف هي مونيك؟.
سألتها بصوت خجول.
وهي تحاول لف الحزام حول خصرها.. قالت بهدوء:
- توفيتْ قبل شهر. وصيّتها ألّا أبحثُ عنك قبل موتها.
تتبعتها بنظراتي وهي تغادر. شعرت لحظتها بالجبن والعار والهزيمة. سنوات من الضّياع وها أنا كمسافر نزل من القطار يسأل عن المكان، الذي هو فيه.
أتاني النادل سائلًا بلهفة:
- هه .. هل عرفتَ من تكون؟!.
وأنا أحاول النظر إليها من خلال نافذة امتلأت بقطرات المطر، قلت له:
- إنها الفاتورة!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا