الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يحيي حقي بين المواجهة والمصالحة

صالح سليمان عبدالعظيم

2006 / 12 / 16
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


حلت في التاسع من ديسمبر الذكرى السنوية لوفاة الأديب العملاق يحيي حقي صاحب "قنديل أم هاشم"، الرواية صغيرة الحجم، عظيمة الدلالات، بديعة الصياغات والتشكيلات اللغوية. ورغم أن حقي ذاته كثيراً ما كان يشكو من طغيان هذه الرواية على باقي أعماله الأخرى، وبشكلٍ خاص تلك الخاصة بالقصة القصيرة، فإننا نستميحه عذراً في التركيز على هذه الرواية نظراً لما تطرحه من اشكاليات ما زالت تواجهنا بشكلٍ عام، وتواجه المثقف العربي بشكلٍ خاص. كتب حقي هذه الرواية ذات الصفحات الثلاث والستين من القطع الصغير مابين 1939- 1940، حيث نُشرت لأول مرة في سلسلة إقرأ في شهر يونيو عام 1944، الأمر الذي يعني أن تلك الرواية تندرج ضمن بواكير الأعمال الروائية التي ظهرت في مصر، وبالتالي في المنطقة العربية.

تتناول الرواية قصة شاب من حى السيدة زينب الشعبي في مصر، يسافر إلى انجلترا لدراسة الطب، حيث يعود بعد غياب سبع سنوات، متخصصاً في طب العيون ليواجه بالبنية الاجتماعية المتخلفة التي ما زالت تستخدم زيت قنديل أم هاشم، الناتج عن الشموع التي يوقدها من يتبركوا بضريح السيدة زينب، في علاج العيون والتبرك به. يصطدم اسماعيل بطل الرواية بأسرته أولاً حينما يجد أمه تستخدم هذا الزيت في علاج ابنة عمه، كما يصطدم بعد ذلك بقنديل أم هاشم ذاته، حينما يندفع في ثورة غضبه ليكسر القنديل لينقذه إمام المسجد من بين أيدي المرتادين المؤمنين ببركات أم هاشم.

يحاول اسماعيل بعد ذلك أن يعالج عيون ابنة عمه معتمداً على معرفته العلمية الرفيعة لكنه يجد أن حالتها تسوء يوماً بعد يوم، إلى أن يجد حلاً توفيقيا يقوم على إقناع ابنة عمه بأنه يعالجها بزيت القنديل بينما هو في الحقيقة يعالجها بالطرق الحديثة، حيث ينجح هذا العلاج، لتشفى ابنة عمه، ويتزوجها اسماعيل. تنتهي الرواية باسماعيل وقد افتتح عيادة شعبية من أجل الفقراء في منطقة السيدة زينب، جامعاً في علاجهم بين إيهامهم بأهمية زيت القنديل، وببركات أم هاشم، وبين استخدام طرقه الحديثة في العلاج.

تندرج الرواية ضمن سلسلة الأعمال الروائية العربية التي تقيم المقارنات العريضة بين الشرق المتخلف، وبين الغرب المتقدم، مثل رواية عودة الروح لتوفيق الحكيم. فبمجرد عودة اسماعيل من انجلترا تشتعل نفسه بجملة مقارنات بين أوضاع الحياة المتقدمة في الغرب، وبين هؤلاء المصريين الذين مازالوا يرزحون تحت نير الجهل والفقر والتخلف، إلى الحد الذي جعله يفكر كثيراً في العودة للعمل في انجلترا مرةً أخرى، والهرب من براثن هذا التخلف. ورغم كبر حجم المساحة التي تحتلها هذه المقارنة بين الشرق والغرب في الرواية الصغيرة الحجم، إلا أنها لم تكن القضية الأساسيية في الرواية؛ فمن وراء هذه المقارنة، ومن خلال هذه الأوضاع الاجتماعية المحبطة كانت الاشكالية الجوهرية التي هدف إليها يحيي حقي من وراء كتابة هذا العمل ألا وهى تحديد موقف اسماعيل طبيب العيون نحو تلك المقارنات بين الشرق والغرب، والتي لن تأتي في صالح الشرق بأى حال من الأحوال.

هل سوف يرتد اسماعيل عائداً إلى انجلترا، أم سوف يبقي في مصر؟ هل سوف يرتكن إلى ما تعلمه في انجلترا فقط وينسي أو يتجاهل زيت القنديل ومدلولاته المقدسة رغم عدم نفعه، أم هل سوف يجمع بين الإثنين، العلم من جانب وزيت القنديل ومدلولاته من جانب آخر؟ هل سوف يواجه أهله وقومه وعشيرته بالعلم فقط حيث يواجههم ويجابههم ويشدهم إليه، أم يستكين ويخضع لمحددات البنية وأطرها المفروضة مسبقاً على كل من تسول له نفسه العبث بقداسة زيت القنديل، وكرامات مقام أم هاشم؟

لم يرض يحيي حقي لإسماعيل أن يترك مصر ويعود مرة اخرى إلى انجلترا، كما لم يستطع أن يجعله مواجهاً ومجابهاً للبنية الاجتماعية الجاثمة على نفوس الجميع. ففي اللحظة التي سمح فيها لبطله اسماعيل أن يواجه البنية ويجابهها جعله يبدو عصبياً مندفعاً مغامراً، بدون أن يتحلى بالصبر والتفكير والحنكة، أما حينما تهادن مع البنية فإنه بدا حكيماً وقادراً على التأثير، بحيث بدت البنية قدراً مسلطاً على رقاب الجميع، فالويل لمن تسول له نفسه الخروج على نواميسها، وأعرافها، ومقدساتها. يقول اسماعيل موجهاً كلامه لأبناء حيه
" تعالوا جميعاً إلي ! فيكم من آذاني، ومن كذب علي، ومن غشّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم، فأنتم منّي وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي، أنا ابن هذا الميدان، لقد جار عليكم الزمان، وكلّما جار واستبّد، كان إعزازي لكم أقوي وأشّد."

ورغم ما حملته صيغة يحيي حقي التوفيقية بين العلم والإيمان من جوانب انسانية راقية، ربما تتفق وشخصية الرجل ذاته وسماته، فإنها استمرت في العمل من خلال شروط البنية وقوانينها. وبدون أن يغير اسماعيل منها شيئاً، اللهم إلا ما وضعه لنفسه من تصالح يجمع بين معرفته العلمية وبين أكثر جوانب هذه البنية تخلفاً وانحطاطاً. الأمر الذي انتهي به إلى أن يصبح "ضخم الجثة، أكرش، أكولاً نهماً، كثير الضحك والمزاح والمرح، ملابسه مهملة، تتبعثر على أكمامه وبنطلونه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية، وأصيب بالربو فاحتقن وجهه، وتندى العرق على جبينه، وانقلب تنفسه إلى نوع من الموسيقى، وأصبح من يشاهده لا يدري أهو متعب أم مستريح."

هذه هى الصورة التي رسمها حقي لإسماعيل وهو ينهي بها روايته. ورغم جو المصالحة الذي يهيمن على أجواء الرواية، فإن هذه النهاية تشير من طرف خفي إلى المخاطر التي يواجهها المثقف منذ زمن كتابة الرواية في الأربعينيات وحتى الآن، سواء من خلال المواجهة المباشرة مع البنيات الاجتماعية، أو من خلال أجواء المصالحة التوفيقية مع هذه البنيات وقوانينها المفروضة سلفاً علينا.

لم يستطع يحيي حقي أن يدفع ببطل روايته نحو منتهى المواجهة، كما لم يستطع أن يرسم له إطاراً مبهجاً يختتم به صفحات روايته. وكأن لسان حاله يقول لنا، نعم لقد اخترت التوفيق والمصالحة، اخترت الالتقاء بالجماهير البسطاء الفقراء والمحرومين، لكنني لم أنس الثمن الباهظ الذي دفعه اسماعيل من خلال انغماسه التام بالجماهير، وما اتخذه من حلول توفيقية.

لقد أجبر وفرض يحيي حقي نموذجه الانساني التوفيقي على بطل روايته من أجل اشباع متطلبات بنيوية متخلفة، ترسخت واستمرت من جراء هذه النوعية من التوفيق والمصالحة، الأمر الذي يطرح تساؤلات أخرى من خلال قراءة هذا العمل الفذ بعد ست وستين عاماًً على كتابته، ماذا لو أصر اسماعيل، وغيره من المثقفين والمتعلمين الآخرين، على عدم مهادنة البنيات المتخلفة؟ ماذا لو أصروا على المواجهة والمجابهة وتحدي الأطر الاجتماعية الخانقة؟ هل كانت أحوالنا الآن سوف تكون أفضل، أم أن الحال سوف ينتهي بهؤلاء المثقفين وهم تحت أقدام المتبركين بقنديل أم هاشم.!! تحية إلى يحيي حقي وإلى قنديله في ذكراه السنوية الرابعة عشر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد