الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بطاقة الهوية الطافية

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

2024 / 7 / 8
الادب والفن


فقدها وهو يتجوّل في سوق المدينة الكبير. أصابه الذعر فهو من دونها مجرد نكرة. غادر السوق مهموماً، ومشى نحو أقرب مركز شرطة وقدم بلاغاً عن فقدان محفظته التي كانت تضم نقوده ووثائقه الشخصية.
نصحه الشرطي الذي حرَّر الضبط بالبحث عنها في الطرف الغربي من السوق، حيث توجد حديقة عامة واسعة ممتدة على ضفة النهر. وأخبره أنّ النشالين وخاطفي الحقائب غالباً ما يتوجهون إلى هناك بعد زيارة السوق لفحص الغنائم. يتخيرون منها الأشياء الثمينة، ويتركون الأوراق والمستندات وكل ما لا يلزمهم.
ركب دراجته وقصد طريقاً محاذياً للنهر يقصده الزوّار دائماً. انتهى بحثه بالفشل. فجلس فوق مقعد خشبي مطل على الماء، يتاخم مرج أعشاب تلهو فوقه عدة إوزات صغيرة.
هدَّأ التأمل أعصابه المتوترة لدقائق. ثم عاد إلى اضطرابه حين اكتشف وجود محفظته الصغيرة مرمية قرب الضفة وهي فارغة من كل شيء، وانتبه إلى أن هويته تطفو بعيداً فوق المياه الهادئة.
كانت هويته دون شك، وكانت حافظتها البلاستيكية الزرقاء علامة فارقة لم يكن ليخطئها.
"كيف أصل إلى هويتي؟"
سأل نفسه، فرأى أنه بحاجة إلى قارب للوصول إليها. فمن أين يأتي بالقارب ؟
"ربما أصبح أنا قارباً، وأقطع المياه إليها".
توالت الأسئلة في رأسه، فكيف يتحوّل إلى قارب، وهو يعود في أصوله إلى جدٍّ كان صياداً برياً يصيد الحبارى ولم تكن لديه خبرة بشؤون الماء.
"إذا لأتحوَّل إلى طائر عقعق أطير إليها والتقطها بمنقاري وأعود بها إلى الضفة".
أعجبت الفكرة الجديدة والده الذي كان يعمل في تنجيد الوسائد المصنوعة من ريش الإوز. ولم تعجب والدته التي وصفت العقعق بطائر غريب لا يمكن الثقة به.
بدأ تيار النهر بالتسارع. ابتعدت الهوية الطافية، فنبذ الأفكار النظرية التي تراوده وقرر طلب المساعدة.
توجه إلى الأسماك التي كانت تسبح هانئة فاعتذرت منه، وأخبرته بأنها لا ترغب في إفساد حياتها الروتينية من أجل غريب ليس من بيئتها.
توجه إلى الضفادع الصغيرة القافزة بين أعشاب الضفة، فاعتذرت وأسرت له أنها تخشى على حياتها من لقلق عدو يترصدها دائماً.
نفدت منه الحلول، وقرر أخيراً العودة إلى المنزل، وترك الهوية لمصيرها، ما دام قادراً على الحصول على هوية بديلة خلال فترة قصيرة.
شعر بالرضا العميق، وما لبث أن تحول الرضا إلى قلق وخوف، فقد تساءل في نفسه، ما هي الهوية الجديدة التي سترضيه: إقامة مؤقتة، إقامة دائمة، جنسية؟ وماذا عن جواز سفره الذي فقده؟ وما هو البديل له، وهو هنا بعيد عن وطنه الأم؟
رفض عقله فكرة القبول بالهوية القديمة التي ستبدّلها الحكومة له. ووقع في ورطة أخرى، حول ماهية الهوية الجديدة التي يريدها.
غادر ضفة النهر وقد شعر بالتعب بعد هذه الجدالات. سلك مع دراجته مشياً ممر الدراجات المحاذي للضفة. فانتبه إلى غدير صغير يتبعه. كان الغدير قد انشق عن النهر حاملاً هويته الطافية.
شكر الغدير، وأمسك بهويته الضائعة من جديد وشعر بطاقة روحية دفعته لرميها من جديد صوب الماء. وتمنى لحظتها أن تذوب البطاقة في المياه. أن تصبح هي بدورها ماءً متدفقاً جارياً تحده الضفاف والأشجار والمدن القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | روح أكتوبر حاضرة في أغاني النصر وسينما الحرب |


.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال




.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية


.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري




.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد