الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غسان كنفاني: رحلة من الوجع إلى الخلود

خالد خليل

2024 / 7 / 9
الادب والفن


في أزقة عكا الضيقة، حيث تتعانق الأزمنة وتتناثر الحكايات كفتات الخبز على مائدة الفقراء، وُلد غسان كنفاني. كان ميلاده مقدمة لملحمة إنسانية، تُكتب بريشة الحزن وألوان الوجع. بدأ كنفاني مسيرته كلاجئ، هاربًا من شبح النكبة الذي لاحقه كظلٍّ لا يفارقه، وبهذا الهروب بدأ رحلة البحث عن الهوية والكرامة التي كادت تُغتال تحت أقدام المحتل.

من "رجال في الشمس"، تلك الرواية التي قذف بها كنفاني وجه العالم ليُحطّم فيها الصمت المُطبق على معاناة الفلسطينيين. هنا، تحت شمس الصحراء الحارقة، جمع كنفاني شتات أرواح اللاجئين في شاحنة مهترئة، ليُرينا كيف يتحول الحلم إلى مقبرة، وكيف يصبح الأمل مطية للموت. لم تكن الشمس في هذه الرواية مجرد عنصر طبيعي، بل رمزاً لحقيقة الصراع بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم.

ثم جاءت "عائد إلى حيفا"، كصرخة في وجه الزمن، حاملة معها عبق العودة والذاكرة. في هذه الرواية، يقترب كنفاني من جروح النفس العميقة، تلك التي لا تندمل أبداً. هي قصة عائلة تبحث عن منزلها، عن ماضيها المسلوب، لتجد نفسها أمام مرآة تعكس وجوه الغرباء الذين استوطنوا مكانها. هنا، تتجلى عبقرية كنفاني في تسليط الضوء على التعقيد البشري، وكيف أن الهوية تتشكل وتتشظى في ذات اللحظة.

أما "أم سعد"، فهي لوحة مفعمة بالأمل والتحدي، ترسم صورة المرأة الفلسطينية بقوتها وصمودها. هي الأم التي تنجب الأبطال وتودعهم، لا تعرف الانكسار، بل تعيد تشكيل نفسها كطائر الفينيق، تنهض من رمادها لتواصل المسير. في أم سعد، نجد كنفاني الشاعر والمفكر، الذي يقدس الأرض والأمومة، ويضع المرأة في مكانتها الحقيقية كصانعة للتاريخ.

غسان كنفاني لم يكن مجرد كاتب، بل كان فيلسوفًا بعمق نظرته إلى الحياة والموت، النضال واليأس، الفقدان والأمل. كانت كلماته تماثيل من نور، تحطم ظلام الجهل والظلم، تُشعل نيران الوعي في عقول الأجيال. اختار أن يكون قلمه بندقية، وكلماته رصاصات، يصوبها نحو قلوب الظالمين.

ومن لجوئه القسري، انطلق كنفاني نحو العالمية، ليُسمع صوت فلسطين في كل ركن من أركان المعمورة. حاز على الاعتراف العالمي بفضل صدقه وعمقه الإنساني، ليصبح رمزاً للنضال والأدب المقاوم. أعماله ترجمت إلى لغات عديدة، لتصبح إرثاً عالمياً، تُدرس وتُقرأ في الجامعات والمراكز الثقافية، ويستلهم منها الأحرار.

في نهاية المطاف، اغتيل غسان كنفاني، لكن روحه لم تُغتل. بقي حياً في كلماته، في أبطاله، في كل سطر كتبه. كان جسده لقمة للموت، لكن فكره صار بذرةً للخلود. ترك لنا إرثًا لا يُقدّر بثمن، يُلهمنا للنضال، يعلمنا أن الحلم يستحق التضحيات، وأن الوطن، حتى وإن كان وهماً، يبقى حقيقة في قلوبنا.

إن غسان كنفاني ليس مجرد أديب فلسطيني، بل هو أسطورة تمتد من جرح فلسطين إلى ضمير الإنسانية، تروي لنا كيف يمكن للألم أن يصنع مجداً، وللحرمان أن يخلق إبداعاً، وللرجل المنفي أن يصبح رمزاً خالداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | روح أكتوبر حاضرة في أغاني النصر وسينما الحرب |


.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال




.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية


.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري




.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد