الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغرامشية اليمينية

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 7 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كان المجتمع السياسي في الأنظمة الديكتاتورية هو الذي يسيطر أيديولوجيا بشكل أساسي ويفرض الهيمنة الثقافية عن طريق القمع والمنع والرقابة وفرض أفكاره بالقوة والعنف، فإن المجتمع المدني في المجتمعات الغربية "الديمقراطية" هو الذي ينظم الهيمنة الثقافية بشكل أساسي نظرا لوجود مفهوم حرية الرأي والتعبير، نظريا على الأقل، ونظرا لأن المؤسسات التعليمية وألإعلامية والثقافية والفنية، كلها أو أغلبها مؤسسات رأسمالية تجري وراء الأرباح المادية بغض النظر عم المحتوى الفكري لما تنشرة وتدعو إليه. ولذلك، يجب أن يتم النضال الثقافي الطبقي أولا في إطاره المدني، وليس من خلال المواجهة المباشرة مع المجتمع السياسي. إذا اتبعنا جرامشي، فيجب علينا أولاً استخلاص الأفكار التقدمية وتوضيحها وتطويرها لتناسب المجتمع المعاصر، والعمل على الهوامش وفي الفجوات، والقيام بعمل "النمل الأبيض" لنخر جميع أسس المجتمع الرأسمالي التقليدي تدريجيًا لتقويض أسسه النظرية. والهدف هو محاربة مثقفي الطبقة الحاكمة والذين يروجون لأفكارها، وهي مهمة أوكلها غرامشي إلى المثقفين بالمعنى الواسع (أولئك الذين ينتجون الأفكار ويتلاعبون بها)، وعلى الأخص أولئك الذين يرتبطون عضويا بالعمال. للقيام بذلك، من الضروري اختراق وسائل الإعلام وإحتلال الفضاء الفكري، وغزو اللغة اليومية، أو حتى فرض موضوعاتها ومفاهيمها في النقاش الأكاديمي وساحة الرأي العام. على اليسار أن يقوم بعمل جبار للتشكيك في مبادئ ومفاهيم ومقدسات النيوليبرالية لتقويضها، ومن ناحية أخرى، فرض موضوعات ومصطلحات جديدة لصالح الطبقة العاملة. غير أن هذا البرنامج يحتاج لوسائل مادية وفكرية لتطبيقه، وهو ما تفتقر إليه الطبقة العاملة الغير منظمة.
غرامشي كان ماركسيا يؤمن بضرورة ما يسمى بالـ avanguardia أو الطليعة التي تقود الشعب والعمال نحو تنظيم نفسها في حزب طليعي يقودها إلى الإنتصار على البرجوازية الرأسمالية، وذلك عن طريق الإنتخابات البرلمانية للوصول إلى السلطة التنفيذية والتحكم في مؤسسات الدولة لتطويعها وجعلها تخدم مصالح الطبقة العاملة. ومن أجل ذلك يجب خوض معركة الهيمنة الثقافية أم كل المعارك السياسية حسب أنطونيو جرامشي. فالاستيلاء على السلطة يتطلب كسب المعركة الثقافية أولا لكسب رأي أغلبية المنتخبين، غير أن كسب هذه المعركة يتطلب الإستيلاء أولا على السلطة والتحكم في المؤسسات الثفافية والإعلامية والإيديولوجية التي تتحكم فيها الدولة والرأسمالية التابعة لها وذلك لتغيير الرأي العام، أنها في الحقيقة إشكالية البيضة والدجاجة .. المعركة الاستراتيجية في الوقت الراهن هي خوض معركتين في وقت واحد، إلا إذا أعتبرنا أن معركة الإنتخابات السياسية هي مجرد فخ تنصبه الرأسمالية العالمية للتحكم في مصير عبيد الرأسمالية في العالم. فإذا أعتبرنا أن المركز العصبي للاشتباكات الأيديولوجية الجديدة وأهم كل المعارك السياسية بين التقدميين والشعبويين والوطنيين والقوميين، سواء كان الأمر يتعلق بمسألة المناخ أو الهجرة أو الرواتب أو التقاعد، يجب على المرشح أو الحزب أو الحركة، للفوز في الانتخابات، أن يبدأ بالفوز في معركة الرأي، فإن ذلك يعني بكل بساطة أن اليمين سيسيطر إلى الأبد على رقاب المواطنين، نظرا لآن الدولة الرجوازية قد فُصّلت على مقاس البرجوازية، وحتى في حالة فوز اليسار، فإنه يحتم عليه أن يمارس سياسة يمينية، كما حدث في اليونان وإسبانيا وكما سيحدث في الأسابيع القادمة في فرنسا. ففي الأنظمة الرأسمالية البرلمانية، يبدو الباب مغلق تماما أمام اليسار الثوري. والأمر يختلف إختلافا جذريا مع اليمين المتطرف النازي أو الفاشي أو العنصري السلطوي ولذي يتمتع بإمكانية الذوبان والإنصهار مع اليمين البرلماني "الديموقراطي".
ومن المفارقات العجيبة أن هذه النظرية، التي أنتجها مناضل يساري حارب النظام الفاشي الموسولوني وذاق عذاب الإضطهاد والسجن لسنوات عديدة، يتبناها اليوم اليمين المتطرف لكسب معركة الرأي العام وكسب الإنتخابات البرلمانية. كما أعلن نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2007: “لقد اعتمدت في الأساس تحليل غرامشي: يتم اكتساب السلطة من خلال الأفكار، هذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها رجل يميني هذه المعركة". ولكن كما هي الحال غالبا مع هذا النوع من رجال السياسة، الكذب هو القاعدة الأساسية لكسب الرأي العام، فساركوزي قد سبقه في إستخدام نظرية الهيمنة الثقافية تيار يميني متطرف منذ االسبعينات من القرن الماضي والمعروف بـ" اليمين الجديد- Nouvelle Droite "، ففي عام 1981، كان آلان دي بينوا Alain de Benoist محرر مجلة "العناصر léments" قد تولى زمام المبادرة بخصوص موضوع الهيمنة الثقافية والفكر الذي يدافع عن الهوية الأوروبية. ووصف دفاعه الأيديولوجي عن الحضارة الأوروبية، بـ "الغرامشية اليمينية - gramscisme de droite"، والتي كان الهدف منها السماح بنشر "ثقافة جديدة" من خلال المنظور الغرامشي، أي الصراع الأيديولوجي من خلال التقليل من شأن الأفكار التقدمية وتفجير أسسها النظرية، وهو نوع من محاولة الاستيلاء على السلطة الإيديولوجية من خلال الثقافة قبل الشروع في الإستيلاء على السلطة السياسية. آلان دي بينوا وقادة اليمين الجديد العنصري، بعد أن اكتشفوا في الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي أهمية الصراع الثقافي في الاستيلاء على السلطة من قبل حزب سياسي، تخلوا عن السياسة المباشرة في نهاية الستينيات من أجل التفكير العقائدي والنضال الثقافي، وهو ما سمي بـ "ما وراء السياسة -  métapolitique" بمعنى اختراق الدوائر الثقافية، وإنشاء مجلات وجمعيات وحلقات دراسة ومحاضرات دورية تستهدف فئات اجتماعية ومهنية مختلفة، ونشر وتعويد الأشخاص المستهدفين على المحتويات المختلفة لـ "ثقافتهم الجديدة".
وفي فرنسا اليوم، تتبنّى ماريون ماريشال Marion Maréchal، وإيريك زمور Éric Zemmour وزمرتهم العنصرية فكرة الهيمنة الثقافية، حيث يعتقدون أنه قبل الترشح للانتخابات، يجب أن تكون المعركة "ميتاسياسية" أي "تتجاوز" "الشؤون العامة". وتقول ماريون مريشال بأنه يجب أن تتم المعركة في وسائل الإعلام والرأي العام من خلال إنشاء المدارس والصحف ومراكز التدريب، وبما أن أفكار اليسار قد تغلغلت عميقا في اليمين، وبما أن فكر مايو 68 اخترق جميع قطاعات المجتمع تقريبًا، فيجب الإطاحة بهذه الأفكار والإنتصار في معركة االرأي العام. وتؤكد في كلمة واحدة أنه "حان الوقت لتطبيق دروس أنطونيو غرامشي-« il est temps d’appliquer les leçons d’Antonio Gramsci »".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الم يكن كاوتسكي اكثر راديكالية من غرامشي؟
منير كريم ( 2024 / 7 / 11 - 00:52 )
الاستاذ الكاتب
لا اسبقية لغرامشي في فكرته
فكل الصراعات السياسية في العالم ان لم تكن في التاريخ هي تعبير عن صراعات ثقافية فكرية
وفي هذا الصدد الم يكن كاوتسكي اكثر راديكالية من غرامشي فلماذا التحامل على كاوتسكي عند الماركسيين وتمجيدهم غرامشي
شكرا لك


2 - غرامشي ليس ثوريا
سعود سالم ( 2024 / 7 / 11 - 10:44 )
السيد الكريم منير
لا أعتقد أنه هناك تمجيد لغرامشي في هذا النص، ربما الأمر هو بالعكس، حيث أن فكرة الهيمنة الثقافية فكرة يمكن توظيفها يمينا ويسارا. إن الخطأ المميت الذي أدى إلى هزيمة الفكر الثوري، في أوروبا وفي العالم الثالث، هو الإعتقاد بأن الإستيلاء على السلطة السياسية ( بواسطة حزب سياسي أو طليعة ثورية) وتكوين حكومة -ثورية- سيؤدي حتما إلى خلق مجتمع ثوري يسوده العدل والمساواة. إن دور الطليعة المثقفة ليس دفع الطبقة العمالية للمشاركة في اللعبة الديموقراطية والبرلمانية، وإنما مساعدته في إكتساب الوعي الطبقي وجعل العمال ينظمون أنفسهم بدون تدخل خارجي، ولا أحد يعرف مصلحة الناس أكثر من الناس أنفسهم.
وشكرا على القراءة والتعليق
ودمتم بخير


3 - لا إنفصال أبدا بين مستويات الصراع الطبقي
حميد فكري ( 2024 / 7 / 12 - 17:18 )
السيد سعود سالم تحياتي
غرامشي لم يأت شيئا جديدا خارج الماركسية، بل قام فقط بتفكيكها والأصح إنه قام بتوضيحها.
الماركسية تقول الصراع الطبقي هو محرك التاريخ .
فماهو الصراع الطبقي؟
إنه حركة توحيد تناقضات البنية الإجتماعية، بمستوياتها البنيوية الثلاث :التناقض السياسي ، التناقض الأيديولوجي ، والتناقض الإقتصادي.
ولا إنفصال أبدا بين تلك المستويات ، بل تداخل وتفاعل ، في إطار وحدة بنيوية شاملة ، هي وحدة البنية الإجتماعية نفسها.
هذا يعني أن لا وجود لتراتبية زمنية بين تلك التناقضات/المستويات . كالقول ، إن الصراع على المستوى، الثقافي/الايديولوجي يأتي أولا ، ثم الصراع على المستوى الإقتصادي ثانيا ، وثالثا ، الصراع على المستوى السياسي .
إنه صراع طبقي شامل ، يشمل كل تلك المستويات في نفس اللحظة الزمنية . صراع على الهيمنة الثقافية، وصراع على تغيير وتحسين الأوضاع الإقتصادية الإجتماعية ، ثم هو صراع يضع نصب عينيه الإستيلاء على السلطة السياسية(الدولة) .
ليس هناك تأجيل ، لأي شكل من أشكال هذه الصراعات. وهنا تكمن خطورة الإنزلاق سواء الى الإصلاحية ، أو الإرادوية المغامرة .ومن يحسن إدارة هذا الصراع يفوز.


4 - الثورة هي الحل
سعود سالم ( 2024 / 7 / 13 - 10:00 )
السيد حميد فكري
أتفق مع ما ذكرته في التعليق، بأن الصراع ضد الرأسمالية هو - صراع طبقي شامل ، يشمل كل تلك المستويات في نفس اللحظة الزمنية . صراع على الهيمنة الثقافية، وصراع على تغيير وتحسين الأوضاع الإقتصادية الإجتماعية ، ثم هو صراع يضع نصب عينيه الإستيلاء على السلطة السياسية(الدولة) . غير أن هذا كان صحيحا في نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، أما اليوم فقد حسم الصراع وانتصرت الرأسمالية بكل أشكالها وتنوعاتها، ربما نظرا للخطأ الذي وقع فيه ماركس ومن بعده لينين في إقصاء الطبقة العاملة من مهمة تنظيم نفسها والتركيز على الحزب الطليعي الذي قاد الشعب إلى الكارثة، وهو ما نبه إليه العديد من الشيوعيون اللاسلطويون منذ ذلك الوقت.
واليوم لم يبق أمام الطبقة العاملة والمهمشة سوى الثورة الشاملة، وهذا يتطلب فكر ثوري لا سلطوي، بمعنى أن هذه الثورة لن يقوم بها سوى الطبقة العاملة نفسها بدون تمثيل، لا برلماني ولا حزبي، وهو أمر لا يستطيع برمجته مقدما أي أحد على الإطلاق.

اخر الافلام

.. ما تأثير تحركات المعارضة الإسرائيلية بعد إقالة وزير الدفاع غ


.. بعد فوز ترمب.. ترصد الوضع داخل البيت الأبيض




.. هل توقف أميركا دعمها لأوكرانيا بعد فوز ترامب؟


.. 3 شهداء وإصابة آخرين بينهم أطفال إثر قصف الاحتلال منزلا بمخي




.. كاملا هاريس تقر بخسارتها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وت