الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
-ما هي الشيوعية؟- العدد الخامس كراسة البروليتاري
الشرارة
2024 / 7 / 12ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يقدم موقع الشرارة الماركسي ــ اللينيني العدد الخامس من "كراسة البروليتاري"، وهو بعنوان: "ما هي الشيوعية؟"، من إعداد وليد الزرقطوني.
ـــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
ما هي الشيوعية؟
أصدر كارل ماركس ( 1818 – 1883) و فردريك انجلز (1820 – 1893) كتابهما الشهير "بيان الحزب الشيوعي"، الذي طرحا فيه لأول مرة برنامجهما الشيوعي باسم تنظيم ثوري يضم مناضلين من أمم مختلفة اجتمعوا في لندن، و قرروا إصدار هذا البيان، الذي كلف كل من كارل ماركس و فردريك انجلز بصياغته، و آلت صياغته النهائية في بروكسل إلى كارل ماركس، بعدما غادر انجلز بروكسل إلى باريس في مهمة نضالية لحضور إحدى المناظرات الشهيرة و التي انتهت بانتصار الماركسية، و نشر الكتاب في فبراير 1848 قبيل اندلاع ثورات 1848 في أوروبا، و ذلك بالعديد من اللغات، منها الانجليزية و الفرنسية و الألمانية و الروسية و الإسبانية.
وبقدر ما كانت العصبة الشيوعية، التي انتمى إليها ماركس و انجلز بمثابة نواة لحزب بروليتاري، كما قال عنها لينين، بقدر ما أصبح البيان الشيوعي أول برنامج حزب لتنظيم شيوعي تم نشره قبيل اندلاع الثورات الأوروبية سنة 1848.
لا يمكن الحديث عن الشيوعية دون العودة إلى هذا الكتاب الهام في تاريخ الحركة الشيوعية العالمية. ولعل فقرته الأولى لذات أهمية، و راهنية دائمة، و تقول الفقرة:
"هناك شبح يجول في أوروبا، هو شبح الشيوعية. وقد اتحدت كل قوى أوروبا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه: من البابا والقيصر إلى مترنيخ و غيزو ...".
لقد مضت 176 سنة على صدور البيان، ولا زالت الشيوعية شبحا مخيفا ليس فقط في أوروبا، بل في كل بلدان العالم، و اتحد لمحاربتها و التضييق عليها كل من الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية و الجامعة العربية و منظمة المؤتمر الإسلامي و فلول التنظيمات الإرهابية المسماة إسلامية من قبيل تنظيم داعش و القاعدة و حركة الإخوان المسلمين العالمية، و تعرف نفس الدول، التي كانت تنتمي إلى ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، و الذي أسقطه الحلف المقدس بين التحريفية العالمية و الامبريالية العالمية و الكنيسة المسيحية و فلول الوهابية الإجرامية، التي أبرمت حلفا مقدسا مع الإمبريالية الأمريكية لمحارة الشيوعية و حركات التحرر الوطني في العالم العربي. و في العالم العربي نصبت شبكة الجزيرة القطرية نفسها أداة لمحاربة الشيوعية و تشويهها بالعديد من البرامج المستقاة من أجهزة المخابرات الإمبريالية البريطانية و الأمريكية، التي تبثها قناة ب ب س، و قد كان لهذا العمل المعادي للشيوعية أثر هام داخل بعض الأوساط البورجوازية الصغيرة، التي تتشكل من عناصر ارتبطت سطحيا بالفكر الماركسي، و لم تأخذ منه إلا القشور. و كجزء من طبقة أصبحت تعاني الأمرين أمام التطور الهائل للرأسمالية المعولمة، التفت هؤلاء إلى الوراء في محاولة لإيجاد توازن مفقود فوجدوا ضالتهم في فكر سلفي و ديني باحثين عن إلاه مفقود يخدم مصالحهم الضائعة، أو بالأحرى عن إلاه جديد يبنونه لأنفسهم، فقرروا أن يرتدوا عن قشورهم و يعلنوا انتصارهم على الماركسية، و بدأوا طريق الخلاص إلى قعر الجحيم لم يمنعهم من ذلك جرائم داعش و القاعدة و الإرهاب الإسلامي و الإخواني و لا جهاد النكاح و لا فتاوي استعمال المؤخرات لخدمة الجهاد في سوريا، و لا حتى تحولهم إلى مرتزقة في خدمة الإمبريالية العالمية بشكل واضح و فاضح ...
لكل هذه الأسباب وغيرها أضحى لازما تقديم تعريف ولو مبسط عن ما هي الشيوعية.
وبطبيعة الحال، وكما يخبرنا بذلك البيان الشيوعي:
ف "إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات"، و ما دام أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، فلن تتوقف السيرورة التاريخية المنشطرة باستمرار، ليتجلى الصراع الدائم بين الرأسمالية المهترئة و السائرة نحو فنائها و الشيوعية، التي تحافظ على ريعان شبابها، فقد قيل قديما: "إن الشيوعية هي شباب العالم"، و قد يعتقد البعض أن هذا مجرد إطلاق كلام على عواهنه لا يستند على أي حقيقة علمية أو تاريخية، و سنرى لاحقا كيف سيتم دحض مثل هذه الترهات.
إن الحديث عن الشيوعية، لا يمكن أن يتم بدون الحديث عن الشيوعيين اللذين يحملون لواءها، ومرة أخرى نعود إلى البيان الشيوعي الذي يعطينا فكرة عنهم.
من هم الشيوعيون؟
"إن الشيوعيين لا يؤلفون حزبا خاصا معارضا لأحزاب العمال الأخرى. وليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح البروليتاريا بمجموعها. وهم لا يدعون إلى مبادئ خاصة، يريدون تكييف الحركة البروليتارية في قالبها. إن الشيوعيين لا يتميزون عن بقية الأحزاب البروليتارية إلا في نقطتين:
1- في النضالات التي يقوم بها البروليتاريون من مختلف الأمم، يضع الشيوعيون في المقدمة ويبرزون المصالح المستقلة عن الجنسية والمشتركة لمجموع البروليتاريا.
2- في مختلف مراحل التطور التي يمر منها النضال، بين البروليتاريين والبورجوازيين، يمثل الشيوعيون دائما مصالح الحركة بكاملها.
3- وهم من الوجهة النظرية يمتازون عن بقية البروليتاريين بإدراك واضح لظروف حركة البروليتاريا وسيرها ونتائجها العامة ".
ما هو هدف الشيوعيين؟
يعرف البيان الشيوعي هدفهم، قائلا:
"أما هدف الشيوعيين المباشر فهو الهدف نفسه، الذي ترمي إليه جميع الأحزاب البروليتارية أي: تنظيم البروليتاريين في طبقة، وهدم سيادة البورجوازية، واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية".
ماهي المفاهيم النظرية للشيوعيين؟
عن مفاهيمهم النظرية، يقول البيان:
"ومفاهيم الشيوعيين النظرية لا ترتكز مطلقا على أفكار ومبادئ اكتشفها أو اخترعها مصلح من مصلحي العالم. فما هي سوى التعبير الإجمالي عن الظروف الواقعية لصراع طبقي موجود ولحركة تاريخية تتطور من ذاتها أمام عيوننا".
ويكثف البيان الشيوعي التعريف بالنظرية، قائلا:
"وعلى هذا، باستطاعة الشيوعيين أن يلخصوا نظريتهم بهذا الصدد في هذه الصيغة الوحيدة، وهي القضاء على الملكية الخاصة".
وقد وجه البيان الشيوعي نداءه الشهير إلى الطبقة العاملة:
"يا عمال العالم اتحدوا!".
يمكن الحديث عن الشيوعية بطريقتين مختلفتين انطلاقا من مجال عملها، فإن التطرق لها باعتبارها نظرية ثورية أطلق عليها انجلز: "الشيوعية هي علم ظروف تحرر البروليتاريا"، وفي ذلك إشارة واضحة على مشروع مجتمعي جديد، أو نظام اجتماعي جديد، أو التطرق إليها كتشكيل اجتماعي واقتصادي جديد، والمصطلح هنا يعني أننا نتحدث عن تشكيلة اجتماعية تقوم على أساس الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج والتبادل، وبالتالي انعدام الصراع الطبقي بين المالكين لوسائل الإنتاج والمنتجين المباشرين.
ولتقييم الفكرة بشكل جيد، علينا أن نرى أن مفهوم الشيوعية هو ذلك المفهوم، الذي عبره أصبح ممكنا القيام بتحليل مزدوج:
1- تحليل نظري معمق للتأثيرات المختلفة لمنطق ما، إنه منطق الرأسمال والقيمة التبادلية (انظر كراسة البروليتاري حول الاشتراكية ــ عدد 4).
2- تحليل سياسي للمجتمع الرأسمالي باعتباره يتشكل من صراع بين اتجاهين وهما:
ا- اتجاه نحو إعادة إنتاج الرأسمال (انظر قانون تراكم الرأسمال من خلال كتاب "الرأسمال" لكارل ماركس).
ب- اتجاه نحو الشيوعية تحتضنه الرأسمالية كافتراض ومقدمات تنبع من الأسس الموضوعية للإنتاج الرأسمالي (انظر الكتابات السياسية لكارل ماركس انطلاقا من "البيان الشيوعي" و "الصراعات الطبقية في فرنسا" و "الحرب الأهلية في فرنسا" ...
فيما يخص الماركسية عموما، فالسياسة تحظى بأهمية قصوى، لحد أن لينين قال قولته الشهيرة "السياسة تكثيف للاقتصاد" كما رفعت الثورة الثقافية الصينية شعار "السياسة في موقع القيادة"، ولهذا أهمية استراتيجية كبرى.
ومن باب التذكير، يمكن أن نذكر بقولة البيان الشيوعي "كل صراع طبقي هو صراع سياسي"، وكلمة سياسي وسياسة يجب أن تفهم بالمعنى الماركسي، لأن هناك سياستان بمعنيين مختلفين في المجتمع الطبقي عموما، والمجتمع الطبقي الرأسمالي خصوصا (انظر كتاب "ماركس ونقده للسياسة").
وفي رسالة شهيرة أرسلها ماركس إلى جوزيف فيديماير في 5 مارس 1852، وقام التحريفيون الألمان بإخفائها سنين طويلة:
" ... وفيما يخصني، ليس لي لا فضل اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع المعاصر، ولا فضل اكتشاف الصراع بينها، فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون بورجوازيون بسطوا التطور التاريخي لهذا الصراع بين الطبقات، واقتصاديون بورجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي، وأن الجديد الذي أعطيته يتلخص في إقامة البرهان على ما يأتي:
1- إن وجود الطبقات لا يقترن إلا بمراحل تاريخية معينة من الإنتاج
2- إن الصراع الطبقي يفضي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا
3- إن هذه الدكتاتورية نفسها لا تعني إلا الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات وإلى المجتمع الخالي من الطبقات ...".
وفي كتاب "نقد برنامج غوتا" (مطلع ماي 1875) يوضح ماركس فكرته، قائلا:
"بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثوريا إلى المجتمع الشيوعي، وهذه المرحلة تناسبها مرحلة انتقال سياسي، لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا".
إن سيرورة بناء المجتمع الشيوعي تمر بمرحلتين، أولاهما هي المرحلة الاشتراكية، تكون فيها السلطة السياسية للبروليتاريا وعموم الكادحين، وهو ما يطلق عليه بديكتاتورية البروليتاريا (دكتاتورية الأغلبية الساحقة ضد الأقلية التي تمثلها البورجوازية الرأسمالية وحلفاؤها الرجعيون.
لا يهمنا هنا المرحلة الاشتراكية (انظر كراس "الاشتراكية" سلسلة3 "البروليتاري")، وما يهمنا هنا هو التطرق للمرحلة الشيوعية.
إن الشيوعية تقوم على أساس العلم والمعرفة بقوانين التطور الاجتماعي والتاريخي (انظر كراسة "موضوعات حول المادية التاريخية" سلسلة كراسات "الشرارة")، وعلى هذا الأساس تعتبر الشيوعية العلمية مكونا من مكونات الماركسية، التي تتضمن أيضا الفلسفة الماركسية والاقتصاد السياسي الماركسي.
وموضوع بحث الشيوعية العلمية هو القوانين التي تحكم ميلاد وتطور النظام الاقتصادي والاجتماعي الشيوعي، وقد برهن ماركس عبر اكتشافه لعلم التاريخ (المادية التاريخية) على الضرورة التاريخية للشيوعية، وذلك انطلاقا من التطور المتعاقد المحكوم بالقانون الموضوعي لأنماط الإنتاج، نتيجة الصراع داخلها بين القوى الإنتاجية النامية وعلاقات الإنتاج القديمة، التي أصبحت تؤخر نموها.
من المعلوم أن مفهوم "التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية" بلورته الماركسية لأول مرة على يد كارل ماركس، وهو حجر الزاوية في الفهم المادي للتاريخ، وقد جعل بالإمكان:
1- تمييز فترة أو مرحلة من التاريخ عن أخرى، الشيء الذي يعني إمكانية دراسة الأحداث التاريخية داخل حدود وأنظمة محددة، بدل الحديث عن المجتمع بشكل عام.
2- تجميع النظم في بلاد مختلفة على مستوى واحد من الإنتاج، الشيء الذي أعطى للعلوم الاجتماعية معيارا علميا ونموذجا علميا يسمح ببحث المجتمع كمركب عضوي اجتماعي واحد، فأصبح ممكنا الحديث عن نمط تاريخي للمجتمع، يقوم على أسلوب أو نمط الإنتاج، أي أن كل الظواهر الاجتماعية تعالج في وحدتها وتفاعلها العضويين على أساس أسلوب الإنتاج.
وعلى أساس هذا التعريف، يمكن القول أن:
"الشيوعية هي نمط تنظيم اجتماعي (تشكيلة اجتماعية –اقتصادية) تقوم على أساس القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (الأدوات، المواد الخام، الآلات، البنايات) والتبادل، لصالح الملكية الجماعية، وإن الانتقال من النظام الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي اللاطبقي وبدون دولة، يلزم فترة انتقالية (الفترة الاشتراكية) تكون فيها السلطة السياسية هي سلطة البروليتاريا وعموم الكادحين".
وتشكل المطرقة والمنجل بالإضافة إلى العلم الأحمر رمزا للشيوعية، وتعني المطرقة والمنجل تحالف العمال والفلاحين المنتجين الأساسيين في المجتمع، والراية الحمراء ترمز إلى الثورة.
ويعرف فردريك انجلز هذا النظام الاجتماعي الجديد الذي تصبو إليه الشيوعية الثورية، وذلك في حديث له عن الكيفية التي سيتم بها الانتقال الاشتراكي (هو الانتقال بعد الثورة من الرأسمالية إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية).
يجب حسب انجلز:
" أن تنتزع ممارسة الصناعة وكل قطاعات الإنتاج بشكل عام، من الأفراد المنعزلين، اللذين ينافسون بعضهم البعض، وذلك لتسليمها إلى المجتمع بكامله، الشيء الذي يعني بأنها ستدار للحساب المشترك حسب مخطط مشترك، وبمشاركة كل أعضاء المجتمع. سيتم بالتالي القضاء على المنافسة وتعويضها بالشراكة، ومن جانب آخر، فممارسة الصناعة من طرف أفراد منعزلين تعني بالضرورة وجود الملكية الخاصة، وليست المنافسة سوى نمط نشاط الصناعة، حيث يديرها عدد من الأشخاص (الخواص). إن الملكية الخاصة غير منفصلة عن ممارسة الصناعة من طرف أفراد منعزلين، وكذلك عن المنافسة، فالملكية الخاصة إذن يجب كذلك إلغاؤها وتعويضها بالاستعمال الجماعي لكل وسائل الإنتاج والتوزيع لكل المنتجات، باتفاق مشترك، وهو ما نسميه بالخيرات المشتركة. إن إلغاء الملكية الخاصة هو الملخص الأكثر اختصارا والأكثر تمييزا لهذا التحول لكل المجتمع، الذي يجعله تطور الصناعة ضروريا.
ولهذا السبب يشكل، بالمعنى الصحيح، المطلب الرئيسي للشيوعيين" ("مبادئ الشيوعية" فردريك انجلز 1847).
ويتحدث البيان الشيوعي عن كيفية الانتقال على طريق الاشتراكية والشيوعية:
"و ما أن تختفي الفوارق الطبقية وتزول خلال سير التطور، ويصبح كل الإنتاج متمركزا في يد جمعية واسعة تشمل الأمة بأسرها، حتى تفقد السلطة العامة صيغتها السياسية، إذ أن السلطة السياسية بالمعنى الصحيح هي العنف المنظم لطبقة من أجل اضطهاد طبقة أخرى ... فإذا كانت البروليتاريا، في نضالها ضد البورجوازية، تبني نفسها حتما في طبقة، وإذا كانت تجعل نفسها بواسطة الثورة طبقة سائدة، ثم بصفتها طبقة سائدة، تهدم بالعنف والشدة علاقات الإنتاج القديمة، فإنها بهدمها علاقات الإنتاج القديمة تهدم في الوقت نفسه ظروف وجود التناقض والتناحر بين الطبقات، وتهدم الطبقات بصورة عامة، وبذلك تهدم أيضا سيادتها ذاتها من حيث هي طبقة. وعلى أنقاض المجتمع البورجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد تكون حرية التطور والتقدم لكل عضو فيه شرطا لحرية التطور والتقدم لجميع الأعضاء" ("البيان الشيوعي").
يقول ماركس في "الإيديولوجية الألمانية" ص 32، عن مآل الفرد و تحرره في المجتمع الشيوعي:
"في المجتمع الشيوعي، حيث كل شخص ليس له مجال نشاط حصري، بل بإمكانه أن يصبح أكثر كمالا في المجال الذي يعجبه، فالمجتمع ينظم الإنتاج العام، الشيء الذي يخلق لي القيام بشيء ما في هذا اليوم، وغدا شيئا آخرا، أن أقنص في الصباح وأن أصطاد بعد الزوال، وأن أمارس الرعي في المساء، وأن أقوم بالنقد بعد تناول الطعام حسب رغبتي، وذلك دون أن أصبح أبدا قناصا، صيادا، راعيا أو ناقدا".
إن الفقرة أعلاه، تكتسي أهمية قصوى في المشروع الشيوعي للتحرر الإنساني، ويفرق ماركس بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني (انظر في هذا السياق "في المسألة اليهودية"، كارل ماركس).
وفي هذا السياق، يقوم المجتمع الشيوعي الذي تشكل غايته خلق الإنسان الشامل المتعدد المواهب والطاقات، والمتحرر من الاضطهاد والاستغلال والاستيلاب وكل الأمراض التي يبثها المجتمع الرأسمالي من أنانية وفردانية وحب الذات والنفاق والبحث عن الخلاص الفردي والرواقية (نوع من القدرية) والعنصرية ومعاداة الإنسانية، والفتيشية ...، على مبدأ الجماعية كمبدأ أساسي من مبادئ الأخلاق الشيوعية، يؤطر العلاقة بين الإنسان والمجتمع وبين الفرد والجماعة، فالجماعية الاشتراكية تتناقض جذريا مع الفردانية البورجوازية، وهي تستند إلى الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وما يؤدي إليه ذلك من وحدة أهداف الناس و مصالحهم الجذرية.
"... إن غياب التناقضات التناحرية بين مصالح الناس في ظل الاشتراكية و وحدة أهدافهم الجذرية يساعدان على تطوير العلاقات الرفاقية والتعاون والنزاهة والصدق والثقة والاحترام بين الناس، وبشكل عام يعكس مبدأ الجماعية الطابع الإنساني الأصيل للعلاقات الاشتراكية، ويرتبط أوثق الارتباط بإنسانية الأخلاق الشيوعية ... ومع تطور مستوى الوعي الشيوعي لدى الناس تتعاظم درجة استقلالية كل فرد وحريته الشخصية في أدائه لواجبه الاجتماعي (راجع في هذا السياق كتاب "معجم علم الأخلاق" ص 169 ،170.
وفي مجال الأخلاق و علمها، تختلف الماركسية مع مجموعة من الفلسفات المثالية، ومن بينها الفلسفة الكانطية، التي تذهب إلى أن الخير هو ما يتفق مع القانون الأخلاقي، الذي هو كامن في كل كائن عقلي، ولا يتوقف على الظروف التي يعيش فيها الإنسان، ونفس الشيء بالنسبة لمبدأي الخير والشر في ما يخص المادية ما قبل الماركسية، التي ترى أن مصدر السلوك الأخلاقي للإنسان يكمن في الطبيعة الإنسانية"معجم علم الأخلاق" ص 277 – 278.
أما الماركسية فقد كرست كل ما كان قيما في النظريات الأخلاقية السابقة، وشكلت مرحلة جديدة في تطور علم الأخلاق، ولقد كانت المذاهب الأخلاقية السابقة عن الماركسية مثالية، وكان الفلاسفة القدامى يعتقدون أنه يكفي لرفع مستوى وعي الناس أو تنويرهم أو تغيير شكل الحكم إرساء أخلاقيات كانوا يبشرون ببذورها، ثم بين ماركس و انجلز أن الأخلاق يحددها النظام الاقتصادي والاجتماعي للأمة وأنها نتاج تاريخي، وقد رسم ماركس و انجلز في كتاباتهما (انظر "البيان الشيوعي" و "مبادئ الشيوعية") الدرب الصحيح للسعادة والعدالة والحرية.
وقد ساهم لينين و بليخانوف و كروبسكايا و لافارج و بيبل و ما كارنكو في إثراء علم الأخلاق الماركسي، وقد صاغ الحزب الشيوعي السوفياتي ما سمي ب: القانون الأخلاقي لبناء الشيوعية.
وهناك مبدأ آخر في علم الأخلاق الماركسي، وهو ما يسمى ب "تطور الشخصية المتكامل"، ومما جاء في "معجم علم الأخلاق" ص 143، 144، 145 أن:
"مبدأ الشيوعية الأساسي هو التطوير الكامل والحر لكل فرد. وبدلا من تضاد المتطلبات، والنزعات الأنانية، يحل وعي الذات البشري، الذي صار المسؤول عن كافة أمور المجتمع، باعثا ومقررا لتصرفاته".
"إن صيرورة الإنسان، المتطور تطورا منسجما ومتكاملا هي جوهر التربية الشيوعية، وأحد شروط بناء الشيوعية".
ويقوم المجتمع الشيوعي كذلك، على مبدأ الرفاقية، فبعد القضاء على قانون القيمة في المرحلة الاشتراكية، مما يتطلب، بل ويولد أخلاقا جديدة وإنسانا جديدا، والعلاقات الرفاقية هي:
"علاقات بين الناس تقوم على وحدة مصالحهم، وتتجلى في التعاون والتضامن والاحترام والثقة وحسن النية والمودة، وإن النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلى المنافسة يزرع في نفوس الناس العداوة والكراهية وعدم الثقة" ("معجم علم الأخلاق" ص 208).
إنه مجتمع أنا ومن بعدي الطوفان (راسي راسي)، بامتياز.
يقول ماركس عن الأممية الأولى:
"إن أحد الأهداف الجليلة للرفاقية هي التوصل بعمال مختلف البلدان، لئلا يحسوا فحسب، وبل وليفعلوا "كإخوة ورفاق يناضلون من أجل تحريرهم" (المجلد 16 من أعمال ماركس ص 195).
إن المجتمع الاشتراكي، هو مجتمع رفاق بامتياز ينعدم فيه الاضطهاد والاستغلال والاستيلاب والقمع والتمييز الجنسي. إنه المجتمع الذي سينقل الناس من مجتمع الضرورة إلى مجتمع الحرية، و "من كل حسب إمكانياته إلى كل حسب حاجته"، أي الانتقال إلى المجتمع الشيوعي المتخلص من الضرورة والمنفتح على آفاق الحرية الواسعة، وكذلك "من مجتمع حكم الأشخاص إلى مجتمع حكم الأشياء".
الاشتراكية، التناقضات والانتقال إلى الشيوعية:
لقد رأينا أعلاه، الفارق بين المرحلة الاشتراكية والمرحلة الشيوعية، كجزأين مختلفين من التشكيلة الاجتماعية الشيوعية":
فالاشتراكية هي المرحلة الأولى الأدنى والشيوعية هي المرحلة العليا، وما يبرر هذا التقسيم هو الاختلاف بينهما في درجة النضج الاقتصادي، رغم أن كلاهما لا توجد فيه أية ملكية خاصة لوسائل الإنتاج.
وفي ظل الاشتراكية، تنبثق الملكية العامة لوسائل الإنتاج في شكلين:
1- شكل ملكية الدولة (الملكية العامة) أي أن مجموعة من المعامل والمزارع هي في ملكية الدولة، مثال السوفخوزات في الاتحاد السوفياتي.
2- شكل المزرعة الجماعية القائمة على الملكية التعاونية مثال الكولخوزات في الاتحاد السوفياتي و الكومونات الشعبية في الصين.
ولا تعرف المرحلة الشيوعية إلا ملكية واحدة هي ملكية كل الشعب.
وفي المجتمع الاشتراكي الذي يقوم على حطام الرأسمالية تظهر هناك مجموعة من التناقضات والتعارضات بين الطبقة العاملة والفلاحين، بين الطبقة العاملة والفلاحين من جهة والمثقفين من جهة أخرى، وكذلك بين العمل اليدوي والعمل الفكري، إضافة إلى التناقض بين المدينة والبادية.
إن هذا الوضع يعود إلى مستوى تطور قوى الإنتاج الذي يحدد الاختلافات في أشكال التوزيع (الأجور) التي تقوم في ظل الاشتراكية، وفق مبدأ "لكل حسب كم وكيف عمله"، ولن يتغير هذا الوضع إلا في ظل المرحلة الشيوعية، حيث يطبق مبدأ "لكل حسب حاجته".
إن الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية يشكل مرحلة طويلة نسبيا تكون فيها السيادة والحكم للطبقة العاملة وعموم الكادحين، وتطبق فيها الديموقراطية الاشتراكية، ونظام الحكم هنا هو ما يطلق عليه بدكتاتورية البروليتاريا، وقد رأينا أن ماركس قال أنه بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثوريا إلى المجتمع الشيوعي، وبذلك سميت الاشتراكية بمرحلة الانتقال، وتناسبها مرحلة انتقال سياسي لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا (انظر كتاب "نقد برنامج غوتا" كارل ماركس).
هناك ثلاث قواعد ومبادئ أساسية ليتم الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، بمعنى أن الاشتراكية تقوم بتحقيق هذه القواعد، وهي:
1- خلق الأساس المادي والتقني للشيوعية وتطوير الإنتاج مع تثوير علاقات الإنتاج، وجعل وسائل الإنتاج في ملكية العمال والمنتجين والمبدعين.
2- تطوير وبناء العلاقات الاجتماعية الشيوعية وتطوير الثورة الثقافية المستمرة في المجتمع الاشتراكي.
3- الاهتمام بإنشاء وخلق الإنسان الجديد، والذي يطلق عليه في أدبيات ماركس و لينين بالإنسان الشامل، أي ذلك الإنسان المتحرر من الاستغلال والاضطهاد والاستيلاب، والمتشبع بالقيم الشيوعية، الذي يشكل ظهوره في المجتمع الاشتراكي النواة الأولى للمجتمع الشيوعي. وفي هذا السياق تلعب الثورة الثقافية والتربية الشيوعية دورا هاما في إعداده.
عموما، تعرف المرحلة الاشتراكية بالتدريج ذوبانا وانمحاء للأنظمة السياسية والتشريعية والإيديولوجيا السياسية، وذلك عند مرحلة معينة من تطور وبناء أسس المرحلة الشيوعية.
والسؤال الذي يطرح هو ما مصير الدولة في كل هذا، بمعني أي تغيير يطرأ عليها في المجتمع الشيوعي، وبتعبير آخر، أي وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي، ويجيب ماركس عن ذلك في كتابه "نقد برنامج غوتا"، قائلا:
"العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال، ولن ندفع القضية إلى الأمام قيد شعرة، ولو قرنـّا بألف طريقة كلمة "الشعب" بكلمة الدولة (الدولة الشعبية).
وتقدم تجارب بناء الاشتراكية بعض الأجوبة، التي نورد بعضها بدون أن نحصر ذلك. فبالإمكان القول، أن الشيوعية ستكون شكلا أعلى للتنظيم الاجتماعي، الذي سيعمل على أساس قوى الإنتاج المتطورة للغاية والعلم والتكنولوجيا والثقافة والإدارة الذاتية العامة الشيوعية:
فما معنى الإدارة الذاتية العامة الشيوعية؟
إنها شكل لتنظيم المجتمع في ظل الشيوعية يحل محل دكتاتورية البروليتاريا لما تتوفر الشروط داخليا وعالميا، وأحد الملامح البارزة للإدارة الذاتية الشيوعية أن أجهزتها ومهامها لن تعود سياسية، ولن تعود الإدارة العامة تنفذ كمهمة خاصة (بناء أجهزة للإدارة فوق المجتمع).
وقد رأينا أن الشروط العامة لهذا الانتقال لابد ألا تفقد البروليتاريا سلطتها السياسية في المجتمع الاشتراكي، مما يسهل عودة الرأسمالية إلى السيطرة في المجتمع الذي لم يعد اشتراكيا، وطبعا، في ظل سيادة البروليتاريا يتم العمل كما سبق الذكر على بناء الأساس المادي والتقني للشيوعية، وكذلك تطوير العلاقات الاجتماعية الشيوعية، وتثوير علاقات الإنتاج باستمرار، وتهيئ شروط نشوء الإنسان الجديد، المتعدد المواهب والطاقات (الإنسان الشامل) وباني المجتمع الشيوعي.
وبطبيعة الحال، سيكون الاتجاه الرئيسي نحو نشوء "الإدارة الذاتية العامة الشيوعية) هو المزيد من تطوير الديموقراطية الاشتراكية وإشراك جميع المواطنين في الإدارة الاجتماعية، وطبعا، فهذا يتطلب تحسنا مستمرا في مستويات المعيشة المادية والثقافية وإكمال أشكال التمثيل الشعبي والمبادئ الديموقراطية للنظام الانتخابي، ومد نطاق تطبيق الاستفتاءات العامة في المسائل الهامة للبناء الشيوعي وصياغة التشريعات ومد الرقابة الشعبية على أوسع نطاق ممكن على أنشطة الأجهزة الإدارية، والتوسع التدريجي لمبادئ الانتخاب والمحاسبة لتشمل جميع المسؤولين في الدولة وفي المنظمات الجماهيرية.
إذن مع تطور مفهوم الدولة الاشتراكية ستولد تدريجيا إدارة ذاتية عامة شيوعية يتولاها الشعب، وتضم كل مجالس العمال والكادحين والنقابات والتعاونيات والمنظمات الجماهيرية للشعب الأخرى.
كلمة إلى القارئ:
في ضرورة فهم معنى البراكسيس الثوري (أفكار أولية)
وأنا أكتب هذا النص تبادرت إلى ذهني مجموعة من الأفكار مفادها أن الصعوبة التي يجدها القارئ "العادي" أو المبتدئ في النصوص الماركسية أو حول الماركسية تعود إلى أمرين أساسيين هامين، وهما النظرة الماركسية إلى الفلسفة، والثانية تتعلق بمفهوم السياسة من منظور ماركسي وشيوعي. ولذلك ترى بعض المبتدئين وكاتبي إنشاءات يهاجمون ماركس والماركسية، لكونها حسب زعمهم، لم تقدم جديدا فلسفيا بالمقارنة مع الفلاسفة المحترفين أو الأكاديميين، وبذلك ينتصرون لأسماء مثل نيتشه و كيركجارد و هيدغر، بل يعلنون أن ماركس، وعن جهل، ليس فيلسوفا، ومثل هذه الكتابات سيصادفها القارئ المبتدئ التواق إلى معرفة الماركسية واستيعابها. ولكون المشروع الشيوعي مرتبط أشد الارتباط، من زاوية المنطق والديالكتيك ونظرية المعرفة، بالفلسفة الماركسية، فلا بد من التصدي لبعض التشويهات والتصورات السطحية.
والكلمة الفصل في هذا بدون إطالة، هي أن الفلسفة الماركسية شكلت تجديدا جذريا في مجال الفلسفة، ومعنى هذا أنها أسست لممارسة جديدة في ميدان الفلسفة، لكونها اعتبرت نفسها فلسفة البراكسيس الثوري. وبجعلها البراكسيس مقولتها المركزية طرحت مشروعا لتحرر الإنسان ونقد ما هو قائم ومعرفة الواقع المراد تغييره، في وحدة غير قابلة للانفصام، إن هذه اللحظات الثلاث تتمفصل فيما بينها في البراكسيس باعتباره نشاطا حقيقيا موجها نحو غاية.
إذن يتعلق الأمر بتغيير العالم كمشروع وكغاية انطلاقا من نقد ومعرفة ما هو قائم، ولذلك فالمشكل النظري الفلسفي الأساسي هو مشكل ممارسة تغيير العالم الإنساني والاجتماعي، أي الإنتاج الذاتي وتحقيق الإنسان في سياق تاريخي- اجتماعي محدد في البراكسيس وعبره.
وبالعودة إلى أطروحات ماركس حول فيورباخ، فالبراكسيس حسب الأطروحة الأولى هو "نشاط إنساني باعتباره نشاطا موضوعيا" أي حقيقي، فهو إذن "نشاط ثوري ... نقدي عملي". وخلاصة القول، أنه نشاط موجه نحو تغيير موضوع (الطبيعة أو المجتمع) وذلك باعتباره غاية مسطرة من طرف الذات الواعية والفاعلة للناس، وبالتالي، نشاط يوحد بشكل لا ينفصل، ما هو موضوعي وما هو ذاتي في نفس الوقت، هذا هو الأساسي والمحدد، أي وحدة اللحظتين (الذاتي والموضوعي) وهو الأمر الذي لم يفهمه ألتوسير، الذي رأى أن ما هو محدد هو التغيير في حد ذاته ولذلك فصل الذاتي عن الموضوعي، وهو ما يسمى عند ألتوسير ب "سيرورة بدون ذات".
و يظهر أن مصطلح البراتيك الفرنسي وترجمته العربية الممارسة، عاجزان عن ترجمة المصطلح الألماني: البراكسيس، فمصطلح ممارسة الفرنسي، يسمح بجعل كل سيرورة للتغيير، بغض النظر عن المادة، وأدوات التغيير والمنتوج، مما يسمح بالحديث عن ما يسمى ب "الممارسة النظرية". إن مفهوم الممارسة هنا، يشوه المعنى الأصلي لمفهوم البراكسيس. وبتحويل النظرية إلى شكل من البراكسيس تفقد النظرية خصوصيتها، كما ينمحي التمييز بين النظرية والممارسة.
إن النظرية الثورية لا يمكنها أن تكون كذلك إلا إذا كانت مرتبطة بشكل واع بالبراكسيس، فإذ ا كان البراكسيس الإصلاحي يزود، ويتطلب نظرية موضوعية منفصلة عن النشاط الفعلي، فالبراكسيس الثوري يتطلب، ويغذي نظرية مرتبطة بالنشاط الفعلي.
إن واقع كون نظرية ما مجرد تأمل، وليس نشاطا فعليا، لا يعني على أنها لا تحافظ على بعض العلاقات مع البراكسيس، حتى ولو كان هدفها هو استمرار، والحفاظ على العالم كما هو.
إن التمييز بين الفعل والرؤية، والنظرية و البراكسيس، لا يستثني، بل يفترض بعض العلاقات المتبادلة، عن طريقها يقوم البراكسيس بتأسيس النظرية وتغذيتها وحفزها بطريقة تندمج فيها النظرية كلحظة ضرورية في البراكسيس، انطلاقا من هذا، يمكن القول أن فلسفة البراكسيس، هي ممارسة جديدة في الفلسفة وثورة جديدة في ميدان الفلسفة، ذلك أن موضوعها ليس الكائن في ذاته، ولكن الكائن المشكل عبر النشاط الإنساني الفعلي، بمعنى أن موضوعها الخاص هو البراكسيس، وهنا يوجد جديد جذري على مستوى موضوعها وإشكاليتها وحقل رؤيتها، ذلك أنها تقوم بانتقال من الواقع كموضوع للتأمل إلى واقع كنشاط إنساني حسي حقيقي وثوري (انظر الأطروحة الأولى حول فيورباخ، ماركس).
إن بنية الكائن نفسها كموضوع للتأمل (الكائن أمامنا بتعبير ماركس) هو الذي تم تركه بهدف التقاطه، ككائن يتشكل في البراكسيس وعبره.
ولو كان اختزال فلسفة البراكسيس في مجرد تغيير الموضوع بدون تغيير جذري للممارسة، فستكون مثلها مثل باقي الفلسفات التأملية، التي تتأمل العالم بطرق مختلفة حسب الأطروحة 11 لفيورباخ، بالتالي لا يمكن اعتبار ثورتها ثورة حقيقية لأنها تظل في حقل النظرية كفلسفة تأملية تفسيرية للعالم.
بناء عليه، فإن فلسفة ماركس، التي أنجزت ثورة في ميدان الفلسفة، وجعلت محورها المركزي فلسفة البراكسيس الثوري، مما يجعل منها فلسفة الثورة بامتياز، وقد سار على هذا النهج القائد الثوري العظيم لينين، الذي أضاف لبنات في مجال تأسيس البناء الثوري الفلسفي للماركسية عندما جعل من المادية الفلسفية فلسفة للثورة، وعرف الديالكتيك بكونه "دراسة للتناقض في جوهر الاشياء"، على هذا الأساس، بإمكاننا القول، كما قال انجلز: "الشيوعية هي علم تحرر البروليتاريا"، ونضيف كذلك مع لينين: إن الديالكتيك المادي هو جبر (ألجبر) الثورة، وقد استنبط ماو جوهر الفكرة، حينما دافع عن ملايين الجماهير الثائرة في الثورة الثقافية الصينية قائلا: "لنا الحق في الثورة".
في معنى السياسة من منظور ماركسي:
في زمن العولمة الإمبريالية انحطت السياسة إلى الدرك الأسفل لحد أن تعريفها أصبح مرادفا لصراع بين الأنانيات والانتهازيات والوقاحات، التي يجسدها السياسيون في معترك السياسة ومناسباتها الكبرى والصغرى، هكذا تربى الجيل الأخير منذ دخول القرن 21 على منظور "شلاهبي" (من كلمة الشلاهبية باللسان المغربي الدارج) أي السمسرة السياسية بدون أخلاق ولا مبادئ، ويشارك فيها الإسلامي والليبرالي واليساري المزيف.
ومما ساعد على ذلك، أن الطبقات السائدة ومثقفوها منذ ظهور المجتمع الطبقي منذ آلاف السنين، قاموا بالترويج لفكرة أن السياسة هي السلطة أو مسألة السيطرة وممارسة سلطة الدولة في مجتمع ما. إن هذا المنظور للسياسة يجعل من الدولة مركز اهتمام السياسة، بل الاهتمام الوحيد، وفي يومنا هذا، أصبحت اللحظة السياسية تتعلق بالانتخابات وما يدور فيها وحولها (في الغرب لحظة انتخاب الرئيس) علما أن من يحدد مسارها ليس الشعب، بل الدولة العميقة وما نحي الأموال في الانتخابات والمحور الصناعي العسكري في أمريكا مثلا، وإن سميت العملية بالديموقراطية زورا وبهتانا، ولعل المناظرة الأخيرة بين بايدن و ترامب تعطي فكرة حقيقية عن مستوى السياسة والسياسيين في الغرب الرأسمالي، ويتساءل الناس هل الولايات المتحدة لم تجد إلا هؤلاء ليمثل أحدهما الشعب الأمريكي"، أحدهما مدان من طرف المحاكم (ترامب) والثاني مصاب بالزهايمر ومجرم مشارك في إبادة الشعب الفلسطيني والأوكراني.
إن هذا المنظور للسياسة ليقدم صورة قذرة عن السياسة، باعتبارها منافسات ونزاعات مصاحبة أحيانا بالعنف من أجل انتزاع السلطة، والإقامة فيها وممارستها كما يحلو لأصحابها، ولهذا المنظور للسياسة منظرون، لعل أشهرهم مكيافيللي، الذي وصف في كتابه "الأمير" تقنيات وأساليب الصراع من أجل غزو والسيطرة على السلطة، إضافة إلى الصفات والمواصفات المطلوبة في أمثال هؤلاء السياسيين المحترفين، ولعل سياسيي اليوم الجالسين على كراسي الحكم أو اللذين يسيرونها من بعيد، بل وحتى من يطلقون على أنفسهم صفة معارضين، قد تفوقوا على مكيافيللي نفسه، إن كتاب مكيافيلي ليعتبر كتاب الجيب أو إنجيل الساسة المحترفين للسياسة القذرة.
إن المشهد السياسي العالمي الآن يحتله مثل هؤلاء اللذين يجسدون الحقارة والقذارة والرشوة والكذب والعنف، التي أصبحت صفات لاصقة بالسياسة بالمنظور السائد.
بطبيعة الحال، مثل هذه السياسية لا علاقة لها بالمنظور الماركسي للسياسة وبفلسفة البراكسيس الثوري.
لحسن الحظ أن التاريخ إلى يومنا هذا كما يقول ماركس، لم يكن سوى تاريخ صراع الطبقات، بمعنى آخر توفر الشروط الموضوعية لنشوء سياسة أخرى مختلفة، تعبر عن مصالح الجماهير الكادحة والمستغلة، كما تعبر عنها ثورات العبيد في المجتمعات العبودية، وثورات الفلاحين في المجتمعات الإقطاعية وغيرها، ويصاحب ذلك مثقفون وقادة ينحازون إلى الجماهير. هكذا نشأ بالتدريج منظور آخر للسياسة، ارتبط تاريخيا بالفلسفة، وهذا المنظور أكد منذ البداية على وجود علاقة تكوينية بين السياسة والعدالة، وقد حاول الفلاسفة على امتداد 2000 سنة من التاريخ، إعطاء وجهة نظرهم في العدالة.
وبشكل عام، بعد إدخال مفهوم العدالة وربطه بالسياسة لم يعد تحديد السياسة، باعتبارها حصريا، استيلاء على السلطة، ذلك أنه، وكما قال آلان باديو في كتابه "مدح السياسة"، فإن السؤال المركزي الذي يطرح هو:
"ما معنى سلطة عادلة؟"
هكذا انتقل النقاش من مجرد نقاش حول ممارسة السلطة إلى القواعد التي يجب أن تنبني عليها السلطة، والقواعد التي يجب أن تخضع لها هذه السلطة وعلاقتها بالجماعة والأهداف التي ترسمها.
لقد أصبحت الأسئلة ذات قيمة نوعية تطرح معها أسئلة كثيرة، أهمها سؤالا المساواة والحرية، بمعنى آخر، أصبحت مسألة العدالة مسألة عملية، وليس مجردة فقط بدون تأثير على واقع الدولة، أي أن العدالة أصبحت مسألة السلطة العادلة، فبدون العدالة تفتح الأبواب لكل الانحرافات، التي سجلها التاريخ منذ بدايته إلى يومنا هذا. ولعل التاريخ مليء بالتناقضات التي سجلها حول علاقة السلطة بالعدالة، وفي كتابه "الجمهورية" حاول أفلاطون أن يحدد القواعد التي يجب أن تسير عليها الدولة الخاضعة لفكرة الخير، وقد قدم تحليلا لأنواع السياسات من قبيل الأوليغارشية والديموقراطية والاستبداد والفوضوية، ولم يتوقف الفكر الفلسفي عن تناول الموضوع على امتداد قرون، إلى أن جاء القرن 18 مع جون جاك روسو، ثم مع القرن 19.
ومع نخبة من المفكرين الثوريين وعلى رأسهم ماركس و انجلز تم التوصل إلى أن العدالة والسلطة أمران لا يتوافقان، ولدى ماركس و انجلز تغير أفق السياسة، حيث ستصبح سلطة الدولة، والمقصود هنا دكتاتورية البروليتاريا، أداة انتقالية وضرورية لجزء من التاريخ، لكنها في نفس الوقت مدعوة إلى الاختفاء لصالح عدالة تتحقق خارج سلطة الدولة، بمعنى تحقيق المجتمع الشيوعي، حيث تنمحي الدولة وكل مؤسساتها لصالح إدارة ذاتية شيوعية، حيث حكم الأشياء لا الأشخاص، كما ورد أعلاه. إن الحركة الديالكتيكية التي تتجاوز التناقض بين العدالة والسلطة تتحقق عبر دكتاتورية البروليتاريا، التي تقود المجتمع الاشتراكي إلى الشيوعية.
لقد أشرنا إلى فلسفة البراكسيس الثوري، باعتبارها ممارسة جديدة للفلسفة، كما أكدنا على مقولة لينين القائلة:
"الديالكتيك هو دراسة التناقض في جوهر الأشياء" ("دفاتر فلسفية")، وأضفنا أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، وأن "كل صراع طبقي هو صراع سياسي" (كارل ماركس "البيان الشيوعي") أصبح لزاما أن نقول أن "مفهوم السياسة" هو بدوره حامل للتناقض، بما يعني قابلية الانشطار ("الواحد ينشطر إلى اثنين"، "في التناقض" ماو تسي تونغ) لنصل إلى نتيجة تسمح بالقول أن السياسة سياستان، وقد رأينا خصوصية السياسة الأولى (سياسة الطبقات السائدة ومن يحافظون على الوضع القائم) والسياسة الثانية (السياسة التي تعتمد على قيم العدالة والمساواة، وتدافع عن مشروع التحرر الإنساني، وتحطيم الوضع القائم). إنها تعتمد فلسفة البراكسيس الثوري، وعلم التحرر الإنساني الذي تجسده الشيوعية الثورية، فلا معنى أن يتشبث المناضل بالسياسة الأولى ويدعي الانتماء إلى فلسفة البراكسيس الثوري، فالأمران لا يستقيمان أبدا، ولا معنى كذلك أن يتبنى المناضل الثوري السياسة الثانية بدون قاعدة فلسفية ثورية تعتمد مذهب البراكسيس الثوري، ففلسفة ثورية تقابلها سياسة ثورية، ولا مكان للانتقاء والتلفيق والرقص على الحبلين.
إعداد وليد الزرقطوني
ــــــــ ـــــــــــــــــ ـــــــــــــ
يوجد هذا النص بصيغة بدف على موقع الشرارة
http://acharara.hautetfort.com
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. بالكوفية.. لحظة مقاطعة متظاهرين ملثمين لليوم الأول من درس تا
.. الشرع: حزب العمال الكردستاني رفض حصر السلاح في سوريا
.. الرفيق جمال بن شقرون: رؤى جديدة وإجابات جريئة حول أداء الحكو
.. هل يلقي حزب العمال الكردستاني سلاحه؟ | المسائية
.. جمال براجع يحيي صمود الشعب الفلسطيني وإلتفافه حول المقاومة ا