الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحروب العبثية باسم الدين

عيسى مسعود بغني
(Issa Baghni)

2024 / 7 / 18
الارهاب, الحرب والسلام


التدين كظاهرة بشرية كونية، شاعت مع ظهور الإنسان العاقل على وجه الأرض، وهي نزعة بشرية لايضاح ما عجز الانسان على تفسيره، ولذا لجاء إلى ما وراء الطبيعة لتحميلها عجزه والاستعانة بها لتعويض قصوره الجسمي والعقلي، وهذه القوة هي الله عند المسلمين ويهوا عند اليهود وبراهما عند الهنود، وبودا عند البوديين، والاف أخرى من الالهة غير التوحيدية. وبغض النظر عن الفروقات العقدية، تطورت الديانات عبر العصور على عدة مراحل يمكن عرض ثلاثة منها:
المرحلة الأولى ما قبل 600 عام قبل الميلاد، هذه المرحلة إتسمت بتعدد الآلهة عند معظم الشعوب إله الشمس، وآخر للقمر وثالث للمطر وغيره الخصوبة، وهناك الهة تصنع من الأحجار أو الخشب وحتى التمر، وهي ألهة وسطية مجسمة ملموسة تعمل على تقريب الانسان المتدين إلى القوى الخارقة المتحكمة في الكون. ويلاحظ أن هذه المرحلة المتعددة الالهة قليلة الحروب الدينية، لعدم وجود تعصب للدين، وعدم االادعاء بامتلاك الحقيقة، رغم أن تلك الالهة بسيطة وليس لها جوانب فلسفية معقدة أو طقوس مركبة، سوى الاستفادة منها لدفع النوائب أو جلب المصالح والفوائد حسب تفكير تلك الشعوب الغابرة. والحروب المحدودة كانت لاجل الغنيمة والاستلاء على الموارد، وحيث أن إحتياجات الانسان قليلة في تلك العصور فالحروب كانت محدودة ووسائل دمارها بدائية.
المرحلة الثانية وهي من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي، هي فترة تبلور الدين التوحيدى الذي يؤمن باله واحد مسيطر على الوجود، ومن هذه الديانات التوحيدية الزرادشتية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، وعشرات المذاهب المتفرعة منها. هذه الديانات في معظمها لها كتب سماوية وتعاليم ماورائية، تشترك في تهذيب النفس البشرية، وتعظيم القيم الأخلاقية عند الانسان، ليحيا حياة كريمة كافراد وجماعات.
رغم أن الديانات التوحيدية تختلف في شعائرها وطقوسها التي تؤدي إلى تعظيم القيم، إلا أن معظم هذه الأديان تتفق في وجود عدل إلهي إن لم يكون في الدنيا فانه سيكون في الاخرة، فجزاء المتمسكين بالقيم الجنة أما المخترقين لها مصيرهم النار الخالدة، وهو سبيل لترغيب البشر على إتباع السلوك القويم. ولاحظ أن استخدام الدين كمبرر للحرب كان على أوجه في هذه المرحلة والقرون اللاحقة، رغم التعاليم السمحة لتلك الأديان، ويعود ذلك إلى تبني الديانات التوحيدية والمذاهب المنبثقة عنها فكرة امتلاك الحقيقة وبطلان ما سواها، وهو ما يبرر الاعتداء على الغير تارة باسم التبشير، وأخرى باسم نشر الديانة أو المذهب، أو إقامة شرع الله، رغم أن معظم تلك الحروب العبثية لها نوازع غير دينية مثل النظرة التوسعية لحكام الدول أو جني المكاسب بالاستلاء على ثروات غيرهم، أوحتى طلب الزعامة على منطقة معينة.
في منتصف القرن العشرين أصبح هناك وعي حضاري أن التمسك بصيغة واحدة للدين وبمذهبية معينة، وإدعاء أمتلاك الحقيقة المطلقة لا يؤدي إلا إلى حروب ودمار لا مبرر له، وأن الاعتراف بالاختلاف والتنوع هو السبيل الوحيد لتلافي تلك الحروب الدينية العبثية، وهذا انعكس إيجابا على الكثير من الدول الإسكندنافية مثل سويسرا والنرويج والدنمارك و النمسا وغيرها من الدول الديموقراطية، التي تعتبر الأكثر تقدما والأفضل في السلم الاجتماعي، والأفضل للعيش، والتي وصلت إلى درجة عالية من التسامح الديني والتنوع الثقافي، في حين بقي الشرق الأوسط ميدان لحروب طاحنة وشعوب تكفر بعضها البعض، ومليارات تصرف على التسليح وملايين من الجنود تحث السلاح مخافة عدو وهمي مخالف في المذهب أو الدين.
المشهد عند المسلمين لا يخرج عن تلك القاعدة، فالاسلام كدين توحيدي يؤمن أتباعه أنه الحق لا غيره، ولذا كان تركيز النبي في حياته على إدخال متعددو الالهة من العرب في الإسلام ونجح في ذلك كثيراً، ولم يدخل في حروب مباشرة مع الديانات التوحيدية الأخرى، بل أرسل أتباعه إلى إثيوبيا ذات الدين المسيحي لحماية المسلمين من بطش قريش. بالمقابل لم يعتدي على اليهود كاصحاب ديانة وكان هناك ثلاث طوائف منهم في المدينة، ولم يحدث تهجيرهم إلا بعد إظهارهم الخيانة في غزوة الخندق وليس لانهم يهود. ولكن لماذا تتركز معظم الحروب الدينية والمذهبية في الدول الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا؟
يلاحظ أن القران ككتاب سماوي ثابت النص متغير المعنى تبعا للزمان (تكفل الله بحفظه) له إعجاز لا يوصف، وهذا النص عادة ما يكون مجملا لقواعد عامة ولا يتدخل في التفاصيل التي تبقى رهينة تفسير الزمان والمكان، ولذا كسب الديمومة، ولاهمية الكتاب المنزل دون سواه، شجع النبي والخلفاء الراشيدين على عدم تدوين السنة واراء الصحابة في حياتهم بل لأكثر من مئة سنة لم ترد أي تدوين لها.
لقد شاع تدوين الاحاديث والتراث المنقول والمدون بعد منتصف القرن الثاني للهجرة، وتتسم الاحاديث المنقولة بالدخول في تفاصيل كثيرة خاضعة للزمان والمكان، بل هناك أحاديث متنوعة في مصدقيتها من صحيح إلى حسن إلى أحاد إلى ضعيف إلى مقطوع أو موضوع، وتحديد ذلك أوجد مذاهب كثيرة كل له رائ ومنهجية مخالفة تبعا للاجتهاد والخلفية الثقافية والاجتماعية، ودرجة توفر المعلومة، وكل ذلك خلق خلافات وإضطرابات وقلاقل في عموم أرضي المسلمين أينما حلو وحتى للذين لا يلتزمون بتعاليم تلك المذاهب.
كما أن الانقسام الكبير للمسلمين بعد حادثة الفتنة الكبرى أوجد جذور لكل المذاهب الحالية، ولكن من ناحية التقدم الحضاري والفكري يمكن تبين مجموعتين رئيسيتين وهما مذهب أهل النقل: الحنابلة ومالكية أهل المدينة، ومذهب أهل العقل الاشاعرة (المالكية المغاربية والشافعية) والاباضية والمعتزلة.
رغم اتفاق أهل النقل والعقل على أن القران محفوظ ربانيا من التغيير والتبديل وان السنة دونت متاخرة فيها الصحيح والضعيف والموضوع إلا أن الاختلاف يأتي من أمرين، أهل العقل يرون أن القران ثابت النص متغير التفسير عبر الزمان والقران يفسر بعضه والسنة يسترشد بها، في حين أن اهل النقل يرون أن السنة هي التي تفسر القران وانها على درجة واحدة من القران وأنها قابلة للتطبيق عبر الزمان والمكان، وهو ما فتح الباب على مصرعيه لنقل ألاف الاحاديث بعنعنة طويلة والتعويل عليها في مذهب دون أخر، الامر الذي أدي إلى ظهور مذاهب كثيرة داخل المجموعة الواحدة. ولتوضيح الفرق بين المجموعتين يمكن وصف راي أهل العقل بانهم يرون أن التفاسير التراثية للدين (من تفاسير قديمة للقران والاحاديث النبوية وسيرة الصحابة) هي متحف للأدوية استفاد منها أهالي تلك العصور لشفاء مرضاهم وتقويم حياتهم، ويعترف بها اللاحقون بأنها تراكم معرفي فيها ما ينفع وفيها ما ثبت عدم جدواه، ولكن على أهل العصر أن يبحثوا عن طرائق جديدة لتفسير القران والاستنارة بالتراث تتناسب مع متغيرات عصرهم تبعا للتراكم المعرفي السابق، وتطور العلوم المختلفة.
بالمقابل يعتقد أهل النقل أن ذلك المتحف هو الصيدلية التاريخية، ثابتة مفعولها عبر الزمان والمكان، ولها القدرة على علاج أوجاع وتخلف وانحطاط الحاضر كما في السابق، إضافة إلى أن أهل النقل يتقمصون مضوية متخلفة لإنكار التقدم العلمي الإنساني، والمطالبة بالرجوع إلى ظروف المكان والزمان الذي أنشئ فيه ذلك المتحف أو الصيدلية، أو البحث عن وسائل للرجوع الى تلك الحقبة الزمنية التي حدثت في ظروف لا تتكرر، ولذا تيار النقل معاق التفكير ومعيق لحركة المجتمع نحو التغيير للافضل.
الدراسات الحديثة للدين، تؤكد النهج العقلي، وأن تقعيد الدين يخضع لظروف جغرافية واجتماعية كثيرة، وان الدين ليس من عناصر الهوية بل هو إنتماء كغيره من الانتماءات الجغرافية والفكرية، وهذا عمل على ظهور التدين الآسيوي، والخليجي، والمصري، والليبي وحتى الأوروبي. وفي كل من طرق التدين السابقة، تجد إتفاق في الأصول الدينية وأركان الإسلام مثل الصلاة والصيام والزكاة، ولكن هناك اختلاف كبير في التفاصيل، والسبب في ذلك أن كل أمة يدخل الدين إلى حياتها، لا يتبعه تغيير ثقافي كبير، أي لا تغيير في عاداتها وتقاليدها وشخصيتها السابقة، بل تتحور الكثير من عاداتها واعتقاداتها إلى أشكال تتوافق مع التعاليم الجديدة، وهذا يفسر انتشار مذهب دون آخر في مناطق جغرافية مختلفة، فالليبيون بمذاهبهم العقلانية المالكي المغاربي والاباضي مثلا لهم تقارب كبير مع التدين المغاربي: التونسي، والجزائري والمغربي والذي تطور عبر العصور، وهو مختلف كثيرا عن التدين المشرقي أو الآسيوي، وبالمثل المذهب الحنفي ينتشر كثيرا في الشرق الأدنى والأقصى، والشافعي في مصر و الشيعي في إيران ولبنان وأفغانستان واليمن. ولكن ما هي مظاهر هذا التدين المغاربي؟ التدين المغاربي عقلاني في أساسه، سواء كان مصدره مالكية مغربية، تعود إلى تفسير إبن رشد والشاطبي، أو المذهب الإباضي الذي هو عقلاني من يوم نشؤه، نرى النزعة الى الحرية، ووضع ولاة الأمور في مكانهم كخدام للامة والخروج عليهم كلما حادو عن الصواب، والشعائر تغلب عليها الفطرة، كما أن المسحة الصوفية المسالمة للتدين واضحة مثل إحياء الموالد، وترديد الأناشيد في مدح الرسول، إلى الإقرار بوجود الأولياء الصالحين والعناية بالمزارات الدينية وزيارتها وإضاءة مبانيها، والاعتقاد بأنها أرض طاهرة يكون الإنسان أقرب إلى ربه على جنباتها، فيستجيب الله دعاء المريض او طالب الحاجات، إضافة إلى مآرب أخرى كثيرة، منها أن الزيارة الجماعية تعطي فرص للتعارف بين العائلات وإيجاد صلات عائلية بينهمهم وأن المكان متنفيس الاجتماعي من الضغوطات اليومية. وأن هذه المزارات في المناطق المغاربية والليبية النائية يجد فيها المسافر المأوى والمؤن ومكان يتقي فيه حرارة الصيف وبرد الشتاء.
من وجهة نظر، علم الاجتماع الديني، فإن عقائد الإنسان تتأثر بموقفه الاجتماعي ومستواه المعرفي والاقتصادي والسياسي، ولد التعدد يعد في صلب المنظومة الدينية الواحدة. المستشرق جاد بيرك يقول أن الإسلام تمزغ أكثر مما أسلم الأمازيغ، وهو يعني أن الإسلام القادم من الشرق تم ضبطه إجتماعيا ليتلائم مع الظروف المحلية لسكان شمال أفريقيا، ولم تتحول عادات وتقاليد الامازيغ لتلائم ثقافة الجزيرة، وهو ما تسعى إليه المجموعات الوهابية خلال العقدين السابقين دون جدوى.
الغريب في الامر أن الأوقاف الليبية بتشكيلتها الادارية منذ 2012 الى الان تسعى لتغيير ثقافة وشخصية الدولة الليبية بجعل المذهب الحنبلي هوية للدولة، وإزالة أي مذاهب أخرى لها أكثر من أربعة عشر قرنا علي هذه البقعة من الأرض، وفي سبيل ذلك تجند ألاف الشباب للتعلم قواعد المذهب الحنبلي ضمن برامج العمرة والحج، وتمكينهم بالمساجد كخطباء يرددون تعاليم المذهب الحنبلي باسم السلفية، بل أن هناك أكثر من 30 إداعة على أف إم كلها تعمل جاهدة لنشر مادة دينية لعلماء المذهب الحنبلي مثل ابن باز وابن العثيمين والالباني وغيرهم. رغم خفوت الحركة السلفية في السعودية إلا أنها نشطة في ليبيا بإستحوادها على هيئة الأوقاف ذات الملايين من ميزانية الدولة وأموال الوقف. والملاحظ أن سباقها المحموم لتحويل الليبيين إلى المذهب الحنبلي اوجدت فتاوي كثيرة لتبديع كل العادات والتقاليد الليبية بل قامت أخيرا بتكفير مكون أصيل في الشعب الليبي.
رغم الفوضى التي نشرتها الأوقاف على مدى عشرة سنوات من رفض الانتخابات وتبديع المجتمع وتكفير الكثير منهم إلا أنها حالة شادة ستنتهي قريبا وسيعلم أتباعها أنهم مغرر بهم كما حدث للعرب الأفغان الذين قاموا باسقاط الاتحاد السوفيتي نيابة عن الامريكان ولزالت أفغانستان في تاخرها وتناحرها وإسلامها المتخلف الذي تزعمت السلفية بناءه على أفكارها، فهل تتغير إدارة الأوقاف لتكون ليبية أم يتغير الليبيون بفعل إدارة الأوقاف ليكونو سلفية دواعش؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة البريطانية تعتقل ناشطتين بعنف خلال مظاهرة أمام مصنع ع


.. نادي بالستينو التشيلي يستذكر غزة بلافتة تدين عاما من الإبادة




.. في الذكرى الأولى لحرب -7 أكتوبر-.. نتنياهو يهدد بتوسيع القتا


.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر




.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة