الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشتار الفصول:11478 أسئلة حول نظرية كانط في نقد العقل الخالص

اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.

(Ishak Alkomi)

2024 / 7 / 26
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


مقدمة:
الذي أَثارَ مَوْضُوعَ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ وَبَعْضَ الآرَاءِ لِي عَلَى الفَيْلَسُوفِ كَانْط هُوَ أَنَّنِي نَادَمْتُ فَلْسَفَتَهُ رَدْحًا مِنَ الزَّمَنِ مُنْذُ أَنْ كُنْتُ فِي جَامِعَةِ دِمَشْقَ كُلِّيَّةِ الآدَابِ قِسْمِ الفَلْسَفَةِ وَالدِّرَاسَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَكَانَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الدُّكْتُورَ نَايِف بَلُوز قَدْ أَعَدَّ كُرَّاسًا لِطُلَّابِهِ أَسْمَاهُ يَوْمَها (مُشْكِلَات فَلْسَفِيَّة) وَلِكَي نُوجِزَ عَنَاوِين تِلْكَ المُشْكِلَات كَي تَكُونَ إِضَاءَاتٍ عَلَى مَا يَدُورُ في فِكْرِنَا تُجَاهَ نَظَرِيَّةِ الفَيْلَسُوفِ كَانْط. فَقَدْ أَعَدْتُ قِرَاءَةَ تِلْكَ البُحُوثِ وَالبِدَايَةُ كَانَتْ مِنْ (مُبْتَدَأٍ مِنْ تَارِيخِ الفَلْسَفَة) بَوْصْفِهِ صِرَاعًا بَيْنَ تِيَارَيْنِ فِكْرِيَّيْنِ وَالمَذْهَبِ المِثَالِيِّ أَوِ المِثَالِيَّةِ وَالحَقِيقَةِ النِّهَائِيَّةِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ المَظْهَرِ وَالحَقِيقَةِ وَمَرَرْنَا بِالأَفْلَاطُونِيَّةِ وَمُسْتَوَيَاتِ الحَقِيقَةِ وَالطَّابِعِ الأَخْلاقِيِّ لِلْمِثَالِيَّةِ، وَجَئتُ عَلَى فَلْسَفَةِ بَارْكْلِي مِنْ خِلَالِ المِثَالِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ ثُمَّ عَلَى المَذْهَبِ الطَّبِيعِيِّ وَرأيتُ أن أتعرض لِلْعَدِيدِ مِنَ المَحَاوِرِ وَعدتُ إلى الفَصْلُ السَّادِسُ مِنَ الكِتَابِ الَّذِي هُوَ نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَة: حَيْثُ يَذْكُرُ مَصَادِرَ المَعْرِفَةِ وَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي الحَقَائِقُ الأَوَّلِيَّةِ وَالتَّحْقِيقُ الحِسِّيُّ بَوْصْفِهِ مِعْيَارًا لِلْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ مَا هِيَ رُدُودُ الفِعْلِ عَلَى المَذْهَبَيْنِ الطَّبِيعِيِّ وَالمِثَالِيِّ، وَبَيَّنَ بِكُلِّ شَفافية بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ وَحُدُودِ الصَّوَابِ المَنْطِقِيِّ وَالحَقِيقَةِ عِنْدَ البِرَاغْمَاتِيَّةِ. وَعِنْدَمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عُمْقَ كُلِّ فِكْرَةٍ وَجَدْتُ أَنَّنِي سَأَتُوهُ وَيَتُوهُ مَعِي القَارِئُ مَهْمَا أُوتِيَ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اللَّهُمَّ الَّذِي كَانَ قَدِ اضْطَلَعَ عَلَى كُلِّ هَذِهِ المَحَطَّاتِ الفِكْرِيَّةِ
. وَقَدْ يَسْأَلُ سَائِلٌ عَنْ عَلاقَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ بِأَسْئِلَتِنَا وَحِوَارَاتِنَا مَعَ كَانْط وَالشَّيْءِ فِي ذَاتِهِ. لِنَعْتَرِفْ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ بِأَنَّ الفَيْلَسُوفَ كَانْط يُعْتَبَرُ أَعْظَمَ فَلَاسِفَةِ التَّارِيخِ لِمُسَاهَمَاتِهِ فِي نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ وَالأَخْلاقِ وَالأَسْطِيطِيقَا (عِلْمِ الجَمَالِ). وَلِكَي نَعْرِفَ مَنْ هُوَ تَرَانَا نُقَدِّمُهُ عَبْرَ بَسْطُورٍ مَعْدُودَاتٍ فَقَدْ وُلِدَ إِيمَانُوِيل كَانْط عَامَ 1724م فِي مَدِينَةِ كُونِغْسْبِرِج عَاصِمَةِ مَمْلَكَةِ بُرُوسِيَا، وَكَانَ مِنَ الطُّلَّابِ المُجْتَهِدِينَ فِي الدِّرَاسَةِ وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّهُ نَشَأَ فِي بَيْتٍ مُتَدَيِّنٍ وَتَلَقَّى تَرْبِيَةَ قوَامِهَا التَّفَانِي وَالإِخْلَاصَ وَالتَّعَاوُنَ وَأَحَبَّ تَعَلُّمَ اللُّغَاتِ فَقَدْ أَحَبَّ اللُّغَةَ اللَّاتِينِيَّةَ وَتَعَلَّمَ الدِّينَ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالعُلُومَ، دَرَسَ فِي المَدْرَسَةِ الفِرْدِرِكِيَّةِ فِي بُرُوسِيَا، حَيْثُ دَرَسَ فِيهَا اللَّاتِينِيَّةَ وَالعِبْرِيَّةَ وَاليُونَانِيَّةَ وَالفَرَنْسِيَّةَ، وَدَرَسَ العُلُومَ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَاللَّاهُوتَ، الِتَحَقَ بِجَامِعَةِ كُونِغْسْبِرَغ وَدَرَسَ الفَلْسَفَةَ وَالعُلُومَ، وَتَأَثَّرَ بِأُسْتَاذِهِ "مَارْتِن كَنُونْزِن" الَّذِي كَانَ مُتَأَثِّرًا بِالمَدْرَسَةِ العَقْلَانِيَّةِ، عَمِلَ مُدَرِّسًا خُصُوصِيًّا لِأَطْفَالِ الأُسَرِ الثَّرِيَّةِ لِيَسْتَطِيعَ إِكْمَالَ دِرَاسَتِهِ، وَكَرَّسَ وَقْتَ فَرَاغِهِ لِكِتَابَةِ أُطْرُوحَتِهِ الجَامِعِيَّةِ، فِي عَامِ ١٧٥٥م، عَادَ لِلْجَامِعَةِ وَقَدَّمَ بَحْثَهُ وَأُطْرُوحَتَهُ، وَأَعْطَتْهُ الجَامِعَةُ وَظِيفَةَ مُسَاعِدِ أُسْتَاذٍ.
وَمِنْ أَهَمِّ الكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا كَانْط: كِتَاب (نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ) الَّذِي كَتَبَهُ عَامَ 1781م. وَفِيهِ حَاوَلَ فَهْمَ القُدُرَا ت.العَقْلِيَّةِ مِنْ خِلَالِ كَيْفِيَّةِ تَشَكُّلِ المَعْرِفَةِ وَأَدَّى بِهِ القَوْلُ بِتَسْمِيَتَيْنِ لِلْمَعْرِفَةِ (المَعْرِفَةُ القَبْلِيَّةُ وَالمَعْرِفَةُ البَعْدِيَّةُ) وَرَأَى أَنَّ المَعْرِفَةَ القَبْلِيَّةَ تُكْتَسَبُ بِشَكْلٍ مُسْتَقِلٍّ عَنِ التَّجْرِبَةِ كَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالمَنْطِقِ وَتَتَشَكَّلُ مِنْ خِلَالِ الحَدْسِ وَعَنَاصِرِهِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ
. بَيْنَمَا المَعْرِفَةُ البَعْدِيَّةُ (الفَهْمُ البَعْدِيُّ) عِنْدَ كَانْط. فَهِيَ تِلْكَ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالخِبْرَةِ عَنْ طَرِيقِ التَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ. وَأَمَّا (المَقُولَاتُ عِنْدَه ) فَمَا هِيَ سِوَى مَفَاهِيمَ يَسْتَخْدِمُهَا العَقْلُ لِتَنْظِيمِ وَفَهْمِ التَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ مِثَالُ السَّبَبِيَّةِ وَالوَحْدَةِ. وَالسَّبَبِيَّةُ تَرَى أَنَّ هُنَاكَ سَبَبًا أَوْ عِلَّةً وَرَاءَ كُلِّ حَدَثٍ فِي الوُجُودِ. وَأَمَّا عَنِ الوَحْدَةِ يَرَى كَانْط أَنَّهَا مَفْهُومٌ مَرْكَزِيٌّ فِي نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ، لِأَنَّهُ فَقَطْ مِنْ خِلَالِ الفِعْلِ المُوَحَّدِ لِمَلَكَاتِنَا العَفْوِيَّةِ يُمْكِنُ لِلتَّجْرِبَةِ أَنْ تَظْهَرَ. وَلَخَّصَ كَانْط نَظَرِيَّتَهُ فِي مَفْهُومَيْنِ هُمَا: الفِنُومِين وَالنُومِين. الأُولَى الفِنُومِين: يَقُولُ بِأَنَّهَا هِيَ الأَشْيَاءُ الَّتِي تَظْهَرُ لَنَا مِنْ خِلَالِ تَجْرِبَتِنَا الحِسِّيَّةِ أَيْ العَالَمُ فِي شَكْلِهِ الخَارِجِيِّ كَمَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِنَا.
أَمَّا النُومِين: فَهِيَ الأَشْيَاءُ كَمَا هِيَ ذَاتُهَا. وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ تَقَعُ خَارِجَ تَجْرِبَتِنَا الحِسِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهَا مِنْ خِلَالِ تَجْرِبَتِنَا الحِسِّيَّةِ المُبَاشِرَةِ. وَهُنَا عَلَيَّ أَنْ أَعْتَرِفَ بِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ وَضْعَ رَأْيٍ نِهَائِيٍّ حَوْلَ نَظَرِيَّتِهِ فِي فَهْمِ العَقْلِ الخَالِصِ أَوِ الشَّيْءِ فِي ذَاتِهِ مِنْ خِلَالِ مَفْهُومِ (الفِنُومِين وَالنُومِين) وَعِنْدَهُمَا أَتَوَقَّفُ وَأُعِيدُ سُؤَالِي لِيَكُونَ دَلِيلَ أَسْئِلَتِي وَبَحْثِي وَهُوَ: كَيْفَ حَدَّدَ كَانْت حُدُودَ المَعْرِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ مِنْ خِلَالِ مَفْهُومِ (الفِنُومِين وَالنُومِين)؟!!
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ مَعْرِفَةُ العَالَمِ الظَّاهِرِ (الوَاقِعِ) تُوصِلُنَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا بَعْدَ الوَاقِعِ؟ مَا هِيَ الآلِيَّاتُ الَّتِي نَعْمَلُ عَلَيْهَا لِلْوُصُولِ إِلَى فَهْمِ الشَّيْءِ فِي ذَاتِهِ (النُومِين) كَمَا يَقُولُ كَانْط؟
هَلْ بِإِمْكَانِنَا أَنْ نُقَدِّمَ مَجْمُوعَةَ أَسْئِلَةٍ نَقْدِيَّةٍ لِنَظَرِيَّةِ كَانْط وَنُبَيِّنَ مَا هُوَ البِنَاءُ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَتُنَا وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَرْتَكِزُ لِتُؤَدِّيَ إِلَى إِضَافَاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ لِنَظَرِيَّتِهِ؟
هَلْ مَفْهُومُ النُومِين، الشَّيْءُ فِي ذَاتِهِ، اسْتِحَالَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ عَلَى القُدُرَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ؟ أَمْ أَنَّ كَانْط أَوْقَفَنَا أَمَامَ اسْتِحَالَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِنْ خِلَالِ قُدُرَاتِنَا العَقْلِيَّةِ؟ وَلَنَا أَنْ نَسْأَلَ الفَيْلَسُوفَ كَانْط: هَلْ جَمِيعُ الأَفْكَارِ وَالآرَاءِ الَّتِي تَأْتِي مِنْ خِلَالِ المُلاَحَظَةِ وَالخِبْرَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَعَبْرَ الحَوَاسِ هِيَ مُكْتَمِلَةٌ أَمْ أَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَمِلَةٍ وَلَا تَصْلُحُ أَنْ نُعَمِّمَهَا لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ عَلَى التَّجْرِبَةِ العِلْمِيَّةِ وَهُنَا أُضِيفُ كَلِمَةَ العِلْمِيَّةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ تَجْرِبَةٍ قَدْ نُطْلِقُهَا عَلَى أَنَّنِي أُجَرِّبُ وَأَتَأَمَّلُ الوُجُودَ وَالعَالَمَ، كَمَا وَنَعْتَقِدُ بِأَنَّ الأَفْكَارَ وَالآرَاءَ الَّتِي أَقُولُ بِهَا اليَوْمَ وَعَلَى أَسَاسِ تَجْرِبَتِي وَخِبْرَتِي وَحَالَتِي النَّفْسِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالمَالِيَّةِ وَالأُسْرِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَعَلاَقَتِي بِالدِّينِ وَالدَّوْلَةِ مُمَثِّلَيْنِ عَنْ نِظَامِ الحُكْمِ وَالمُحَاسَبَةِ السَّمَاوِيَّةِ وَالأَرْضِيَّةِ وَالضَّوَابِطِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَجْعَلُنِي بَعِيدًا عَنِ الوَاقِعِيَّةِ المُجَرَّدَةِ. إِذْ أَرَى أَنَّ أَحْكَامَنَا وَنَتَائِجَ تَجْرِبَتِنَا الحِسِّيَّةِ لَا تُشَكِّلُ فَضَاءً عِلْمِيًّا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّمَ وَيُعْمَلَ بِهِ أَوْ أَنْ يَتَكَرَّرَ، فَهُوَ فِعْلٌ فَرْدِيٌّ لَا غَيْرُ وَلَا يَحْمِلُ صِفَةً عِلْمِيَّةً بِالمَفْهُومِ العَامِّ وَالخَاصِّ لِلْكَلِمَةِ. كَمَا وَأَرَى تَجْرِبَتَنَا تَبْقَى مُتَحَرِّكَةً وَغَيْرَ ثَابِتَةٍ وَهِيَ فِي حَالَةِ تَغَيُّرٍ مُسْتَمِرٍّ. وَهَذَا يُقَصِّرُ مِنِ اعْتِبَارِهَا أَمْرًا ثَابِتًا يُمْكِنُ البِنَاءُ المَعْرِفِيُّ عَلَيْهَا وَلَكِنَّنِي عَلَى رَأْيِ المَذْهَبِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَقُولُ (بِأَنَّ التَّجْرِبَةَ الحِسِّيَّةَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ نَوَاقِصِهَا تَبْقَى وَسِيلَةً لِلاتِّصَالِ بِالوَاقِعِ) وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِيَّاتِ الذِّهْنِ التَّجْرِيدِيَّةِ التَّصَوُّرِيَّةِ، وَيَقُولُ أَصْحَابُ هَذَا المَذْهَبِ بِأَنَّ الإِحْسَاسَ لَا يُعْطِينَا المَعْرِفَةَ الحَقَّةَ. وَعَلَى الذِّهْنِ أَنْ يُنَظِّمَ مُعْطَيَاتِهِ الحِسِّيَّةَ قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ قَابِلَةً لِلْفَهْمِ، وَهَذَا يَتَوَافَقُ مَعَ عِبَارَةِ فَيْلَسُوفِنَا كَانْط حِينَ قَالَ (الإِدْرَاكَاتُ أَوِ الإِحْسَاسَاتُ بِلَا تَصَوُّرَاتٍ عَمْيَاءُ).
أمَّا مَصَادِرُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ كَانْط فَتَأْتِي عَنْ طَرِيقِ: 1= المَذْهَبِ التَّجْرِيبِيِّ. يَقُولُ بِأَنَّ المَصْدَرَ النِّهَائِيَّ لِكُلِّ مَعْرِفَةٍ هُوَ التَّجْرِبَةُ وَالإِحْسَاس. وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَمَلِيَّاتٍ عَقْلِيَّةً لأَنَّ العِلْمَ يَبْدَأُ مِنْ مَعْطَيَاتٍ حِسِّيَّةٍ وَيَصُوغُ بِالعَقْلِ فَرْضًا تَفْسِيرِيًّا وَهُنَا نُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ العَمَلِيَّاتِ العَقْلِيَّةِ تَتَوَسَّطُ بَيْنَ المُلاَحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالعِلْمِ النَّاتِجِ عَنْ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ المَنْهَجَيْنِ العَقْلِيِّ وَالتَّجْرِيبِيِّ وَسَنَفْتَقِرُ لِلْعِلْمِ إِذَا نَفْتَقِرُ لِلْمَعْطَيَاتِ الحِسِّيَّةِ. وَهُنَا لا نَغُوصُ فِي نَقْدِ التَّجْرِيبِينَ لِلْمَذْهَبِ العَقْلِيِّ وَدَوْرِ وَأَهَمِّيَّةِ كَانْط هُنَا تَقُومُ عَلَى عَمَلِيَّةٍ تَوَافُقِيَّةٍ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ المُتَعَارِضَيْنِ (العَقْلِيِّ وَالتَّجْرِيبِيِّ) وَيَقُودُنَا هَذَا إِلَى أَنْ نَسْأَلَ: مَاذَا قَالَ كَانْط فِي هَذَا المَجَالِ؟ لقد قَالَ: (إِنَّ أَذْهَانَنَا تَصْنَعُ الطَّبِيعَةَ أَوِ الوَاقِعَ الفِيزْيَائِيَّ وَلَكِنَّهَا لا تَصْنَعُهُ مِنْ لا شَيْءٍ. حَوَاسُّنَا تَمُدُّنَا بِالمَادَّةِ الخَامِ عَنْ طَرِيقِ رُدُودِ أَفْعَالِنَا إِزَاءَ الشَّيْءِ فِي ذَاتِهِ وَالذِّهْنُ لَيْسَ مُجَرَّدَ أَدَاةٍ سَلْبِيَّةٍ لِتَلَقِّي الانْطِبَاعَاتِ وَالتَّرْكِيبُ الخَاصُّ لِلذِّهْنِ هُوَ الَّذِي يَتَكَشَّفُ فِي الحَصِيلَةِ النِّهَائِيَّةِ لِعَمَلِيَّةِ المَعْرِفَةِ )(وَيَقُولُ الوَاقِعُ مَصْنُوعٌ أَكْثَرُ مِنْ مَعْطًى وَهُوَ تَرْكِيبٌ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ تَلَقٍّ وَالفَهْمُ وَمِمَّا يَجْعَلُ العَالَمَ ذَا مَعْنًى هُوَ الفَهْمُ وَنَعْرِفُ عَالَمَنَا مِنْ خِلَالِ وَسِيلَتَيْنِ رَئِيسِيَّتَيْنِ هُمَا المَكَانُ وَالزَّمَانُ وَهُمَا صُورَتَانِ أَوَّلِيَّتَانِ لِلْفَهْمِ )وَبِهَذَا يُولِي كَانْط أَهَمِّيَّةً لِلصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ. فَصُوَرُ الفَهْمِ العَقْلِيَّةُ كَامِنَةٌ فِي التَّفْكِيرِ وَضَرُورَةِ التَّجْرِبَةِ وَالعَمَلِيَّاتِ التَّجْرِيبِيَّةِ وَيُوجِزُ كَانْط مَذْهَبَهُ التَّوَافُقِيَّ بِقَوْلِهِ: (التَّصَوُّرَاتُ بَدُونِ الإِدْرَاكَاتِ فَارِغَةٌ وَالإِدْرَاكَاتُ بَدُونِ تَصَوُّرَاتٍ عَمْيَاءُ) وَلأَنَّنَا لا يُمْكِنُ لَنَا أَنْ نُقَلِّلَ مِنْ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ عِنْدَ كَانْط وَإِبْدَاعَاتِهِ فِيهَا، لِهَذَا لا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَبْحَثَ عَنْ جُذُورِهَا الأُولَى وَالَّتِي قَامَتْ بِالأَصْلِ عَلَى نَقْدِ وَدَحْضِ المَذْهَبِ العَقْلِيِّ عِنْدَ دِيكَارْتَ وَالمَذْهَبِ التَّجْرِيبِيِّ الحِسِّيِّ عِنْدَ الفَيْلَسُوفَيْنِ لُوكَ وَهِيوُمَ. وَلأَنَّ كَانْط يَرَى (بِأَنَّ المَعْرِفَةَ النَّاتِجَةَ عِنْدَ أَصْحَابِ المَذْهَبِ العَقْلِيِّ لا تَقُومُ عَلَى مُحْتَوَيَاتٍ تَجْرِيبِيَّةٍ – حِسِّيَّةٍ، بَلْ تَنْتِجُ عَنْ تَفْكِيرٍ مَنْطِقِيٍّ اسْتِنْبَاطِيٍّ.( لِهَذَا نَرَاهُ يَرْفُضُ قَوْلَ العَقْلِيِّينَ القَائِلِ (بِأَنَّ العَالَمَ مُنَظَّمٌ حَسَبَ قَوَانِينِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ عَنْ طَرِيقِ العَقْلِ وَالاسْتِدْلاَلِ المَنْطِقِيِّ. مُنْطَلِقِينَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ صَحِيحَةٍ مِنْ دُونِ اللُّجُوءِ إِلَى المَعْطَيَاتِ الحِسِّيَّةِ.) عِلماً أنه شَارَكَ الفَيْلَسُوفَيْنِ لُوكَ وَهِيوُمَ فِي مَوْقِفِهِمَا النَّقْدِيِّ مِنْ مُحَاوَلَةِ اسْتِنْبَاطِ عَالَمِ الوَقَائِعِ مِنْ مَبَادِئِ أُولَى نُدْرِكُهَا بِالحَدْسِ وَوَفْقَهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ المَعْرِفَةَ الوَحِيدَةَ الَّتِي نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْصُلَ عَلَيْهَا عَنِ العَالَمِ وَعَنْ أَنْفُسِنَا تِلْكَ (المَعْرِفَةُ القَائِمَةُ عَلَى الخِبْرَةِ الحِسِّيَّةِ). لَكِنْ كَانْط لا يَدْخُلُ حَلْبَةَ الصِّرَاعِ دُونَ أَنْ يُفَهْرِسَ فِي حَيْثِيَّاتِهِ وَيَعْرِفَ السُّهُولَ وَالوِدْيَان وَسَاحَةَ مَعْرَكَتِهِ فَنَرَاهُ يُخَالِفُ هِيوُمَ فِي مَسْأَلَةِ شَكِّهِ حَوْلَ يَقِينِيَّةِ المَعْرِفَةِ (القَائِمَةِ عَلَى الخِبْرَةِ الحِسِّيَّةِ)، لأَنَّ هِيوُمَ اعْتَبَرَ أَنَّ انْطِبَاعَاتِنَا الحِسِّيَّةَ يُمْكِنُ أَنْ تَنْخَدِعَ وَتَتَنَاقَضَ. وَأَرَى هُنَا أَنَّ هِيوُمَ قَدْ أَصَابَ كَبِدَ الحَقِيقَةِ وَلَكِنْ كانط يُتابعُ بحثهُ ليَتَوَصَّلُ إِلَى قَرَارٍ يُؤَسِّسُ فِيهِ نَظَرِيَّةَ المَعْرِفِةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى جَنَاحَيْنِ (المَذْهَبَيْنِ التَّجْرِيبِيِّ الحِسِّيِّ وَالمَذْهَبِ العَقْلِيِّ) حَتَّى يَتَجَنَّبَ الخَوْضَ فِي الشَّكِّ التَّجْرِيبِيِّ الحِسِّيِّ وَالنَّظَرِيَّةِ العَقْلِيَّةِ.
وَرَغْمَ أَنَّ كَانْط وَقَفَ عَلَى مَا أَكَّدَهُ هِيوُمَ مِنْ دَوْرِ الحَدَثِ الوَاقِعِيِّ وَالخِبْرَةِ فِي تَحْقِيقِ المَعْرِفَةِ. إِلَّا أَنَّهُ تَهَرَّبَ مِنْ مُعَالَجَةِ قَوْلِ العَقْلِيِّينَ حِينَ قَالُوا (بِأَنَّهُ فِي الطَّبِيعَةِ تَنْظِيمٌ وَمَنْطِقٌ) وَذَاكَ الفَهْمُ عِنْدَ العَقْلِيِّينَ جَعَلَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِإِمْكَانِيَّةِ اكْتِشَافِ النِّظَامِ الطَّبِيعِيِّ وَاسْتِخْلاَصِهِ مِنْ مَبَادِئَ أُولَى بَدُونِ الالْتِجَاءِ إِلَى الوَقَائِعِ. وَلِهَذَا نَرَى كَانْط يَمْزِجُ بَيْنَ الوَقَائِعِ وَالعَقْلِ وَيَعْمَلُ مُشَارَكَةً مُزْدَوِجَةً مَا بَيْنَ مَعْطَيَاتِ التَّجْرِبَةِ مِنْ جِهَةٍ وَمُنْطَلَقَاتِ العَقْلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَيَنْتَهِي كَانْط فِي كِتَابِهِ الإِبِسْتِمُولُوجْيَا لِلْقَوْلِ: (إِنَّ كُلَّ مَا يُنَظِّمُ وَيُضْفِي بُنْيَةً عَلَى خِبْرَتِنَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَنْشَأَ مِنْ الخِبْرَةِ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ القُدْرَةُ عَلَى التَّنْظِيمِ وَالبِنَاءِ وَالمَفْهُومِيَّةِ مِنْ دَاخِلِنَا). وَقَدْ افْتَرَضَ هُنَا ثُنَائِيَّةَ (الذَّاتِ وَالشَّيْءِ) وَوَجَدَ أَنَّ القُوَّةَ المُنَظِّمَةَ لا تُوجَدُ فِي الشَّيْءِ بَلْ تُوجَدُ فِي الذَّاتِ. كَمَا وَنَرَاهُ يُعَكِسُ الرَّأْيَ الأَسَاسِيَّ القَائِلَ سابقاً (بِأَنَّ المَعْرِفَةَ تَحْدُثُ بِتَأْثِيرِ الذَّاتِ بِالشَّيْءِ)، أَمَّا هُوَ فَقَدْ قَالَ (بِأَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يَتَأَثَّرُ بِالذَّاتِ لأَنَّ الذَّاتَ تَمْلِكُ قُدْرَةً مِمَّا يُؤَهِّلُهَا لِتَشْكِيلِ الشَّيْءِ وَبِطَرِيقَتِهَا هي). وَهَذِهِ النَّقْلَةُ بِالافْتِرَاضَاتِ الإِبِسْتِمُولُوجْيَا (نَظَرِيَّةِ العِلْمِ أَوْ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ العِلْمِيَّةِ) عِنْدَهُ كَانَتْ فِكْرَةً إِبْدَاعِيَّةً فِي نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ وَالَّتِي سَمَّاهَا (الثَّوْرَةَ الكُوبِرْنِيكِيَّةَ فِي الفَلْسَفَةِ). وَيَرْبِطُ سَبَبِيَّةَ المَعْرِفَةِ (بِوُجُودِ خِبْرَةٍ قَادِمَةٍ مِنَ الوَاقِعِ المَلْمُوسِ. وَنَحْنُ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلِيَّةٍ تَرْكِيبِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ لِذَاكَ العَالَمِ وَنَخْلُقُهُ كَمَا نُرِيدُهُ نَحْنُ). وَقَالَ: (إِنَّ التَّجْرِبَةَ بَدُونِ النَّشَاطِ العَقْلِيِّ لا تُقَدِّمُ لَنَا سِوَى صُورٍ بَاهِتَةٍ) وَيَشْرَحُ...لنا بقوله إنَّ (السَّبَبَ الَّذِي يَجْعَلُنَا نُفَكِّرُ فِي العَالَمِ تَفْكِيرًا مُنَظَّمًا وَعِلْمِيًّا لا يَكْمُنُ فِي كَوْنِ العَالَمِ المَادِّيِّ عَالَمًا رِيَاضِيًّا، بِقَدْرِ مَا يَكْمُنُ فِي كَوْنِ العَقْلِ الَّذِي يَقُومُ بِعَمَلِيَّةِ التَّفْكِيرِ يُفَكِّرُ بِطَرِيقَةٍ رِيَاضِيَّةٍ).
فالعَقْلُ عِنْدَهُ (آلَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ، تُطْبِعُ الأَفْكَارَ العَقْلِيَّةَ تَمَامًا كَمَا تُطْبِعُ آلَةُ الطَّبْعِ الكَلِمَاتِ. لأَنَّهُ مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُدْرِكُهُ العَقْلُ، وَمَا يُقَدِّمُهُ العَقْلُ فِي نِهَايَةِ الأَمْرِ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ دَائِمًا مَنْطِقِيٌّ وَعِلْمِيٌّ، نَظَرًا لِكَوْنِ الصُّوَرِ أَوِ البِنْيَاتِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي تُؤَلِّفُ المَعْرِفَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى مَبَادِئَ عِلْمِيَّةٍ) وَنَرَاهُ يَسْأَلُ بِقَوْلِهِ (كَيْفَ تَكُونُ تِلْكَ القُوَّةُ المُنَظَّمَةُ فِي دَاخِلِنَا؟).
فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ نَرَى كَانْط يُسَلِّمُ بِوُجُودِ شَيْءٍ ضَرُورِيٍّ وَصَحِيحٍ كُلِّيًّا فِي مَعْرِفَتِنَا، أَي وُجُودِ بُنَى فِكْرِيَّةٍ أَوْ مَا يُسَمَّى بِالصُّوَرِ أَوِ المَقُولَاتِ، مَعَارِفَ قَبْلِيَّةً مَوْجُودَةً فِي العَقْلِ أَي أَنَّهَا سَابِقَةٌ عَنِ الخِبْرَةِ وَمُسْتَقِلَّةٌ عَنْهَا وَأَعْتَقِدُ مَا هِيَ إِلَّا تِلْكَ الَّتِي نَكْسِبُهَا بِالوِرَاثَةِ لِكَوْنِهِ قَالَ بِأَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ فِي البَشَرِ وَثَابِتَةٌ وَصَحِيحَةٌ صِحَّةً كُلِّيَّةً وَوُجُودُهَا شَرْطٌ هَامٌّ لِنَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ وَلإِمْكَانِيَّةِ التَّوَصُّلِ إِلَى المَعْرِفَةِ المَوْضُوعِيَّةِ أَي المَعْرِفَةِ الحَقَّةِ. (وَالمَعَارِفُ القَبْلِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْنَحُ شُرُوطَ أَنْ تَغْدُوَ الخِبْرَةُ مَعْرِفَةً. وَرَأَى بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ البَشَرِ كَافَّةً). أَجَلْ هُوَ يَقْتَرِبُ مِنَ القَوْلِ الَّذِي يَرَى بِأَنَّ( كُلَّ مَعْرِفَةٍ تَبْدَأُ بِالخِبْرَةِ وَمُحْتَوَى تِلْكَ المَعْرِفَةِ يُحَدِّدُهُ الخَارِجِيُّ المَوْجُودُ فِي ذَاتِهِ، لَكِنَّنَا نَحْنُ مَنْ يُطْبِعُ هَذَا المُحْتَوَى بِنَشَاطِنَا العَقْلِيِّ، بِحَيْثُ لا تُصْبِحُ الانْطِبَاعَاتُ الحِسِّيَّةُ مَعْرِفَةً إِلَّا عِنْدَمَا تُبْنَى وَتُنَظَّمُ وَتُفْهَمُ بِوَاسِطَةِ عَقْلِنَا.(
وَيُضِيفُ كَانْط بِقَوْلِهِ (إِنَّ المَعْرِفَةَ كُلَّهَا تُشَكِّلُهَا الذَّاتُ). وَلِذَلِكَ افْتَرَضَ وُجُودَ أَحْكَامٍ تَرْكِيبِيَّةٍ قَبْلِيَّةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الذَّوَاتِ العَارِفَةِ حَتَّى تُشَكِّلَ شُرُوطَ الخِبْرَةِ المُنَظَّمَةِ، أَيِ المَعْرِفَةِ كَمَا نُدْرِكُهَا. وَالْحَقِيقَةُ لا نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ وَنَقُومَ بِعَمَلِيَّةِ تَحْلِيلٍ وَنَقْدٍ لِأَقْوَالِهِ وَمَا وَاجَهَ بِهِ شَكَّ الفَيْلَسُوفِ هِيُوم حَوْلَ الانْطِبَاعَاتِ الَّتِي تَمُدُّنَا بِهَا الحَوَاسُّ، فَأَرَادَ تَجْنِيبَ الفَلْسَفَةِ هَذَا الشَّكَّ وَيَجْعَلَهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ رَاسِخٍ كَمَا تَقُومُ عَلَيْهِ العُلُومُ الطَّبِيعِيَّةُ. لِذَا اعْتَبَرَ أَنَّ المَبَادِئَ الأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا العِلْمُ الطَّبِيعِيُّ هِيَ المَبَادِئُ ذَاتُهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُؤَطِّرَ المَقُولَاتِ وَالتَّصَوُّرَاتِ وَالبِنْيَاتِ الَّتِي تُنَظِّمُ الانْطِبَاعَاتِ القَادِمَةِ مِنَ الخَارِجِ.
وَنُعْلِمُكُمْ بِأَنَّنَا سَنُهْمِلُ مَوْضُوعَ المَعْرِفَةِ وَالإِيمَانِ عِنْدَ كَانْط لأَنَّنَا لا نُرِيدُ مُعَالَجَةَ كُلِّ الجَوَانِبِ وَالمَحَاوِرِ فِي نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ عِنْدَهُ بل سَنَمُرُّ عَلَى فَلاسِفَةٍ تَنَاوَلُوا نَظَرِيَّةَ كَانْط المَعْرِفِيَّةَ وَسَنَرَى بِاخْتِصَارٍ مَاذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ؟ ونَحْنُ نُقَدِّرُ وَنَتَفَهَّمُ بِأَنَّ فَيْلَسُوفًا كَمَا كَانْط لَابُدَّ أَنْ فَلاسِفَةً كُثُر قَدْ شَغَلَتْهُمْ نَظَرِيَّتُهُ فِي (مُفْهُومِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ) وَهَا نَحْنُ عَلَى مُقَرُبَةٍ مِمَّا قَالَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ وَعَلَى مَاذَا بَنَوْا تِلْكَ الآرَاءَ؟
وَسَنَبْدَأُ بِسُؤَالٍ يَقُولُ: مَنْ مِنَ الفَلاسِفَةِ جَاءَ وَدَحَضَ نَظَرِيَّةَ كَانْط فِي أَنَّ العَقْلَ يَسْتَطِيعُ فَهْمَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ؟ حَيْثُ أَكَّدَ إِيمَانويل كَانْط فِي فَلْسَفَتِهِ عَلَى أَنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ لَا يُمْكِنُهُ فَهْمُ "الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ" (النُّومِين) وَأَنَّ مَعْرِفَتَنَا تَقْتَصِرُ عَلَى "الظَّواهِرِ" (الفِنُومِين)، أَيِ الأَشْيَاءِ كَمَا تَظْهَرُ لَنَا مِنْ خِلَالِ تَجْرِبَتِنَا الحِسِّيَّةِ.
وَلَكِنْ مِنَ الفَلاسِفَةِ الَّذِينَ جَاءُوا بِنَقْدٍ لِفِكْرَةِ كَانْط هُوَ الفَيْلَسُوفُ الأَلْمَانِيُّ فِرِيدْرِيك هِيجِل (Friedrich Hegel). وَمِنْ خِلَالِ فَلْسَفَتِهِ الجَدَلِيَّةِ أَكَّدَ عَلَى أَنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ يُمْكِنُهُ الوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ فِي ذَاتِهَا مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّةِ الدِّيَالْكْتِيكِ (الجَدَلِيَّةِ)، حَيْثُ يَتِمُّ تَطَوُّرُ الفِكْرَةِ بِشَكْلٍ تَدْرِيجِيٍّ عَبْرَ التَّنَاقُضَاتِ وَالتَّجَاوُزَاتِ لِلْوُصُولِ إِلَى الحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ. هَكَذَا يَظُنُّ هِيجِل وَلَكِنْ هَلْ مَا يَقُولُهُ حَقِيقَةٌ نَسْتَطِيعُ تَلَمُّسَهَا وَهَلْ تَطَوُّرُ الفِكْرَةِ يَكُونُ خَارِجَ العَقْلِ وَيُمْكِنُ رُؤِيَتُهُ أَمْ هُوَ يَبْقَى أَسِيرَ التَّفْكِيرِ المُثَالِيِّ؟ أَمْ نَحْنُ أَمَامَ فَلْسَفَةٍ سُفْسُطَائِيَّةٍ تَجَدَّدَتْ مَعَ هِيجِل عَلَى أَسَاسٍ أَنَّهَا الدِّيَالْكْتِيكُ؟ وَإِذَا كَانَ التَّطَوُّرُ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْفِكْرَةِ مِنْ خِلَالِ التَّنَاقُضَاتِ وَالتَّجَاوُزَاتِ حَقِيقَةً تَتَجَسَّدُ مِنْ خِلَالِ مَا يُبْدِعُهُ العَقْلُ أَمْ الحَقِيقَةُ المُطْلَقَةُ تَبْقَى فِي إِطَارِ النَّظَرِيِّ وَلَيْسَ بِمَقْدُورِنَا تَلَمُّسُ آثَارِ تِلْكَ الحَقِيقَةِ. مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ مَا أَقُولُهُ الآنَ هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَا هُوَ المِعْيَارُ العِلْمِيُّ وَالقَائِمُ عَلَى التَّجْرِبَةِ العِلْمِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ مُطْلَقَةٌ؟
وَأَرَى أَنَّ هِيجِل ذَاتَهُ لَا يَعْدُو أَنْ يُشَكِّلَ مَفْهُومًا اسْمَاهُ الدِّيَالْكْتِيكُ هُوَ الآخَرُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ غَيْرِ مَادِّيَّةٍ وَلَا تَقُومُ عَلَى مَفَاهِيمَ النَّظَرِيَّةِ العِلْمِيَّةِ وَنَسْأَلُهُ كَيْفَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُثْبِتَ عَالَمًا لَا نَرَاهُ (الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ) هَلْ تَمَكَّنْتَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَمْ أَنَّكَ هَكَذَا تَتَصَوَّرُ بِأَنَّنَا يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَنْ طَرِيقِ التَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ الشَّخْصِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّصْدِيقُ بِهِ كَوْنِهِ حَالَةً فَرْدِيَّةً وَلَا تُؤَكِّدُهَا التَّجْرِبَةُ لَوْ أَعَدْنَاهَا.
لِذَلِكَ أَخْلُصُ مَعَ هِيجِل إِلَى أَنَّ الحَقِيقَةَ المُطْلَقَةَ تَعْبِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ فَضْفَاضٍ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى مَا تَتَلَمَّسُهُ اليَدُ وَتَرَاهُ العَيْنُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَفَاهِيمَ بَعِيدَةٍ عَنْ التَّجْرِبَةِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَتَائِجَ يُمْكِنُ إِعَادَةُ تَصْنِيعِهَا وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا.
أَمَّا الفَيْلَسُوفُ الثَّانِي الَّذِي نَقَدَ نَظَرِيَّةَ كَانْط بِشَكْلٍ جُزْئِيٍّ رَغْمَ أَنَّهُ مَمَّنْ تَأَثَّرُوا بِفَلْسَفَتِهِ هُوَ آرْثُر شُوبِنْهَاوَر (Arthur Schopenhauer) وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَبِلَ بَعْضَ جَوَانِبِ نَظَرِيَّةِ (نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ عِنْدَ كَانْط) وَرَأَى أَنَّ الإِرَادَةَ هِيَ الجَوْهَرُ الحَقِيقِيُّ لِلْعَالَمِ، وَأَنَّ الظَّواهِرَ هِيَ تَمْثِيلَاتٌ لِهَذِهِ الإِرَادَةِ. وَمِنْ هَذَا المَنْطَلَقِ، اقْتَرَحَ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقَةً لِفَهْمِ النُّومِين مِنْ خِلَالِ فَهْمِ طَبِيعَةِ الإِرَادَةِ. فَمَاذَا قَصَدَ شُوبِنْهَاوَر؟ تَعَالَوْا نَتَوَقَّفُ عِندَ مُفْهُومِ الإِرَادَةِ وَنَسْأَلُ هَلْ يَرَى شُوبِنْهَاوَر كَمَا يراها الفَيْلَسُوفُ نِيتْشِهُ عَلَى أَسَاسٍ أَنَّ الإِرَادَةَ هِيَ الدَّافِعُ الَّذِي يُحَرِّكُ الإِنسَانَ وَتَشْمَلُ عَلَى عُنَاصِرَ السَّعْيِ لِلْبَقَاءِ وَالتَّأْثِيرِ وَالسِّيْطَرَةِ وَيُعْتَبَرُهَا هِيَ الأَسَاسَ؟ أَمْ أَنَّ فَهْمَ طَبِيعَةِ الإِرَادَةِ عِندَ شُوبِنْهَاوَر غَيْرُ هَـٰذَا؟ أَجَل، هُوَ يَرَى مُفْهُومَ الإِرَادَةِ بِأَنَّهُ الجَوْهَرُ الدَّاخِلِيُّ لِلْعَالَمِ بِأَسْرِهِ، أَيْ الشَّيْءُ بِحَدِّ ذَاتِهِ كَمَا عِندَ كَانْط، وَهُوَ مُوْجُودٌ بِشَكْلٍ مُسْتَقِلٍ عَنْ أَشْكَالِ مَبْدَأِ السَّبَبِ الكَافِيِ الَّذِي يُحَكِمُ العَالَمَ كَتَطْبِيقٍ.

وَفِي هَـٰذَا أَيْضًا مَا يُؤَدِّي بِحَتْمِيَّةِ السُّفْسُطَائِيَّةِ الَّتِي تَبَنَّاهَا فِي سِيَاقَاتِ تَفْسِيرِهِ لِفِعْلِ الإِرَادَةِ وَسُؤَالُنَا لَهُ كَيْفَ تُقْنِعُنَا بِأَنَّ مُفْهُومَ الإِرَادَةِ هُوَ الجَوْهَرُ الدَّاخِلِيُّ لِلْعَالَمِ بِأَسْرِهِ؟ كَيْفَ هَـٰذَا وَكَيْفَ تَمَكَّنْتَ مِنَ اخْتِرَاقِ العَوَالِمِ لِتَصِلَ إِلَى الجَوْهَرِ الدَّاخِلِيِّ لِلْعَالَمِ؟ بِالحَقِيقَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ أَتَحَفَّظَ عَلَى رَأْيِ شُوبِنْهَاوَر فِي هَـٰذِهِ المُسْأَلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو أَنْ يُعِيدَ مَا قَالَهُ الفَيْلَسُوفُ الأَلْمَانِيُّ هِيجِل. فَإِذَا كَانَ هِيجِل وَشُوبِنْهَاوَر قَدْ أَعَادَانَا لِلْمُرَبَّعِ الأَوَّلِ مِنَ المُسْتَحِيلَاتِ بِتَصْدِيقِ وَالتَّحَقُّقِ مَا قَالَاهُ.
أَمَّا الفَيْلَسُوفُ فِرِيدْرِيك نِيَتْشِهُ (Friedrich Nietzsche)، فَقَدْ انتَقَدَ نَظَرِيَّةَ كَانْط بِشَكْلٍ جَذْرِيٍّ. رَافِضًا مُفْهُومَ النُّومِين وَاعتَبَرَ أَنَّ الحَقَائِقَ المَيْتَافِيزِيقِيَّةَ مُجَرَّدُ أَوْهَامٍ خَلَقَهَا البَشَرُ. حَتَّى هُنَا أَتَّفِقُ مَعَ نِيَتْشِه فِي أَنَّ المَيْتَافِيزِيقَا عِبَارَةٌ عَنْ تَصَوُّرَاتٍ شَخْصِيَّةٍ (أَوْهَامٍ) وَاعْتَرَضَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِالحَقَائِقِ وَأَرَى أَنَّ مَبْدَأَ القُوَّةِ وَالإِرَادَةِ وَالتَّفَرُّدِ الفَرْدِيِّ الَّذِي قَالَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الأَسَاسُ فِي فَهْمِ العَالَمِ، وَلَيْسَ العَقْلُ المُجَرَّدُ. شَيْءٌ يَدْعُو لِنَقِفَ عِنْدَ هَـٰذَا القَوْلِ مُطُولاً. فَإِذَا كَانَتِ القُوَّةُ عِندَ نِيَتْشِه لَيْسَتْ مُجَرَّدَ القُدُرَاتِ الجِسْمِيَّةِ وَلَا السِّيَاسِيَّةِ بَلْ هِيَ مُفْهُومٌ أَوْسَعُ عِندَهُ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ القُوَى وَتَتَنَوَّعُ مِنْ قُوَّةِ الإِرَادَةِ وَقُوَّةِ الفِكْرِ وَقُوَّةِ الإِبْدَاعِ وَقُوَّةِ العَاطِفَةِ وَالحَيَاةِ نَفْسِهَا عِندَ نِيَتْشِه هِيَ القُوَّةُ، وَلَكِنْ رَغْمَ هَـٰذَا كُلِّهِ لَا يُوَصِّلُنَا سَيِّدُ القُوَّةِ إِلَى مَحَطَّةٍ نَقْرَأُ مِنْ خِلَالِهَا كَيْفَ نَتَوَصَّلُ لِفَهْمِ العَالَمِ المَيْتَافِيزِيقِيِّ أَوَّلًا وَالعَقْلِ المُجَرَّدِ ثَانِيًا وَالشَّيْءِ لِنَفْسِهِ ثَالِثًا. وَلَكِنَّ نِيَتْشِه يُرَكِّزُ عَلَى تَحْقِيقِ التَّفَرُّدِ الشَّخْصِيِّ مِنْ خِلَالِ إِرَادَةِ القُوَّةِ وَيَدْعُو لِنَتَمَرَّدَ عَلَى القِيَمِ الكَلَاسِيكِيَّةِ وَيَدْعُونَا لِنُطَوِّرَ ابْتِكَارَاتِنَا الشَّخْصِيَّةَ لِنَتَوَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حُرِّيَّتِنَا الشَّخْصِيَّةِ وَعِنْدَمَا نَكُونُ أَحْرَارًا يَعْتَقِدُ نِيَتْشِه أَنَّنَا يُمْكِنُ أَنْ نُحَقِّقَ فَهْمَ ذَاتِنَا فِي العَالَمِ.
مَارْتِن هَيْدِغَر (Martin Heidegger)، الفَيْلَسُوفُ البَارِزُ فِي الوجودِيَّةِ قَدَّمَ فِي كِتَابِهِ "الكِينُونَةُ وَالزَّمَانُ" (Being and Time)، نَقْدًا مُعَقَّدًا فِي نَظَرِيَّةِ كَانْط وَكَانَ لَهُ مُحَاوَلَةٌ لاِكْتِشَافِ طَبِيعَةِ الكِينُونَةِ مُتَجَاوِزًا انْقِسَامَ كَانْط بَيْنَ الفِنُومِين وَالنُّومِين، مُؤَكِّدًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ السِّيَاقِ الوجودِيِّ فِي فَهْمِ الكِينُونَةِ. وَهُنَا نَسْأَلُهُ كَيْفَ لَنَا أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ النُّومِين الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ عُقُولِنَا وَكَيْفَ نَصِلُ إِلَى جَوْهَرِهِ أَوْ كُنْهِهِ أَوْ مَاهِيَّتِهِ وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ سُوَى مَعْرِفَةٍ حَسِّيَّةٍ وَهَلْ مُفْهُومُ السِّيَاقِ الوجودِيِّ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ نَعْرِفَ وَفْقًا لَهُ وَنَفْهَمَ جَوْهَرَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ؟
أَمَّا الفَيْلَسُوفُ الوجودِيُّ الدَّنْمَارْكِيُّ سُورِن كِيرْكِغُور (Søren Kierkegaard)، لَمْ يَكُنْ مُتَّفِقًا كَامِلًا مَعَ كَانْط. وَاعتَبَرَ أَنَّ المعْرِفَةَ العَقْلِيَّةَ مُحَدَّدَةً وَأَكَّدَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الإِيمَانِ الشَّخْصِيِّ وَالتَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ فِي الوُصُولِ إِلَى الحَقِيقَةِ. وَهَلْ التَّجْرِبَةُ الشَّخْصِيَّةُ تَتَبَنَّى حَقِيقَةَ المعْرِفَةِ وَمَا هِيَ مُصْدَاقِيَّةُ التَّأْمُلِ وَمَا هُوَ مِقْيَاسُنَا حَتَّى نَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّنَا سَنَصِلُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَهَلْ يَعْنِي أَنَّ الحَقِيقَةَ الَّتِي قَالَ بِهَا كِيرْكِغُور هِيَ نَفْسُهَا مَا أَشْعُرُ بِهَا أَنَا وَكَيْفَ؟ وَمَا شَكْلُ وَنَوْعُ الإِيمَانِ الَّذِي يَرَاهُ كِيرْكِغُور؟ هُوَ إِيمَانُ الإِنسَانِ الَّذِي عَاشَ فِي زَمَانِهِ أَمْ الإِيمَانُ الَّذِي تَعِيشُهُ الجَمَاعَاتُ البَشَرِيَّةُ اليَوْمَ مَعَ التَّقَدُّمِ التِّكْنُولُوجِيِّ وَالعِلْمِيِّ؟ عَلَى أَيِّ الأُسُسِ يَقُومُ ذَٰلِكَ الإِيمَانُ وَمَا هِيَ أَهْدَافُهُ؟ وَهَلْ الإِيمَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى قُدُرَاتٍ عَقْلِيَّةٍ تَصِلُنَا بِالْوَاقِعِ بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ؟ وَهَلْ نُدْرِكُ آثَارَ الإِيمَانِ وَكَيْفَ نُوَفِّقُ بَيْنَ التَّفْكِيرِ المَنْطِقِيِّ الاِسْتِنْبَاطِيِّ الَّذِي أُؤْمِنُ بِهِ كَوَسِيلَةٍ سَلِيمَةٍ لِلْمَعْرِفَةِ وَبَيْنَ المعْرِفَةِ الَّتِي تَجِيءُ عَنْ طَرِيقِ التَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَالَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى مَا تُقَدِّمُهُ الحَوَاسُ وَحَوَاسُنَا لَيْسَتْ مِعْيَارًا لِتَقْدِيمِ الحَقِيقَةِ؟ هَكَذَا أَرَى أَنَّنَا أَمَامَ إِشْكَالِيَّةٍ فِي تَقْدِيمِ مِنْطِقِيَّةٍ لِلْمَفَاهِيمِ العَقْلِيَّةِ وَالفِلْسَفِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ.
وَرُبَّمَا أَسْعَفَنَا قَلِيلًا الفَيْلَسُوفُ الفرنسيُّ مُؤَسِّسُ الفَلْسَفَةِ التَّفْكِيكِيَّةِ جَاك دِرِيدَا (Jacques Derrida) الَّذِي قَدَّمَ نَقْدًا لِنَظَرِيَّةِ كَانْط وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ تَحْلِيلِهِ لِلنُّصُوصِ وَالفَلْسَفَةِ وَقَدْ رَكَّزَ عَلَى عَدَمِ استِقْرَارِ المُعَانِي وَالنُّصُوصِ. وَهُنَا يُعْجِبُنِي رَأْيُهُ لِأَنَّ تِلْكَ المُعَانِي وَالنُّصُوصَ نَتَاجُ تَجْرِبَةٍ ذَاتِيَّةٍ أَوَّلًا وَيَعْتَبِرُ أَنَّ طَبِيعَةَ اللُّغَةِ الَّتِي تَحْتَالُ عَلَيْنَا وَتَرْجَمَاتِهَا المُخْتَلِفَةِ هِيَ السَّبَبُ فِي أَنَّنَا نَفْشَلُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى فَهْمِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ. هُوَ لَمْ يُوَصِّلْنَا إِلَّا إِلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ بِاعْتِقَادِي، حَيْثُ لَابُدَّ لَنَا مِنْ قَوْلٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَكِّدَ اسْتِحَالَةَ مَعْرِفَتِنَا لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مِنْ خِلَالِ التَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ. بَيْنَمَا نَرَى الفَيْلَسُوفَ الفرنسيَّ وَعَالِمَ الرِّيَاضِيَّاتِ أَلْفْرِيد نُورْث وَيَتْشِيد (Alfred North Whitehead) وَمِنْ خِلَالِ فَلْسَفَتِهِ العَمَلِيَّةِ (Process Philosophy)، يَرَى أَنَّ الواقِعَ يَتَأَلَّفُ مِنْ عَمَلِيَّاتٍ وَتَغْيِيرَاتٍ دَائِمَةٍ، وَأَنَّ الفَلْسَفَةَ الكَانْطِيَّةَ غَيْرُ كَافِيَةٍ لِفَهْمِ هَـٰذَا التَّغْيِيرِ المُسْتَمِرِّ فِي الحَقِيقَةِ. رَأْيُهُ أَيْضًا يُجْعَلُنَا نَصِلُ إِلَى مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ وَيَتْرُكُنَا حَيْرَى لَمْ نَتَوَجَّهُ جُهُودَنَا بِمَجْمُوعَةٍ أَوْ مَنْظُومَةٍ مِنْ قِرَاءَاتٍ فِلْسَفِيَّةٍ الَّتِي انْتَقَدَتْ كَانْط فِي مُفْهُومِهَا عَنْ نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ وَلَكِنَّهَا فِي مُجْمَلِهَا هِيَ آراءٌ فِلْسَفِيَّةٌ تُغْنِي سَاحَةَ الحِوَارِ وَالمُحَاوَرَةِ الَّتِي هِيَ الهَدَفُ الوَحِيدُ لِوُصُولِنَا إِلَى نَتَائِجَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَتَائِجَ نَاجِزَةً.
وَبَعْدَ هَـٰذِهِ الجَوْلَةِ القَصِيرَةِ عَلَى بَعْضِ الآرَاءِ المُتَعَلِّقَةِ بِالفِنُومِين وَالنُّومِين.
بِدْءاً مِن نَظَرِيَّةِ الفَيْلُسُوفِ كَانْطِ ذَاتِهِ وَبَعْضٍ مِنْ انْتِقَادِهِمْ مِنَ الفَلاسِفَةِ، يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّنَا نَتَوَهَّمُ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ فِي ذَاتِهِ وَنَبْنِي عَلَى هَذا الوَهْمِ مَا نُسَمِّيْهِ مَجْمُوعَةَ مَعَارِفَ وَانْطِبَاعَاتٍ وَرُبَّمَا سَمَّاهَا بَعْضُ الفَلاسِفَةِ بِالْحَقِيقَةِ. وَأَرَى أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الآرَاءِ الفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُقَدِّمُ أَكْثَرَ مِنْ تَجَارِبَ ذَاتِيَّةٍ قَوَامُهَا الحَوَاسُ وَبِمَا أَنَّ الحَوَاسَ لَا تُقَدِّمُ لَنَا تَجْرِبَةً عِلْمِيَّةً بَلْ تَبْقَى فِي حُدُودِ الذَّاتِيَّةِ وَالنِّسْبِيَّةِ وَتَخْتَلِفُ عَبْرَ الزَّمانِ وَالمَكَانِ. فَأَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ فَضَاءَاتٍ لِلِاسْتِئْنَاسِ فِي قِرَاءَاتِ المُفَكِّرِينَ لِأَنَّ المَعْرِفَةَ الإِنسَانِيَّةَ لَيْسَتْ فَقَطِ المَعْرِفَةَ الحَسِّيَّةَ بَلِ تِلْكَ المُتَعَلِّقَةُ بِالعُلُومِ التَّجْرِيبِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ إِدْخَالُهَا لِلْمِخْبَرِ وَتُصْبِحُ تَطْبِيقَاتُهَا مُمْكِنَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْنَا.
وَكُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ مُنْذُ زَمَانٍ بَعِيدٍ هَذِهِ الجُزْئِيَّةَ فِي عِشْتَارِ الفُصُولِ:2360
أَقُولُ فِيهَا (دَوْمًا النَّتَائِجُ تُمَثِّلُ مُحْصِلَةً لِلْأَفْكَارِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّلِيمَةِ أَوْ عَكْسِهَا وَفِيهَا تَكْمُنُ تَفَاصِيلُ الشِّعَارَاتِ. إِسْحَاقُ قُوْمِي. أَلْمَانِيَا. 25/7/2015م) وَهَذا القَوْلُ ذَكَّرَنِي بِهِ (الفَيْسُ بُوك) اليَوْمَ
إِنَّهُ قَوْلٌ يُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ النَّتَائِجِ لِتَبَيِينِ المُقَدِّمَاتِ وَالأَفْكَارِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّلِيمَةِ
الخَاتِمَة
وَمَا أَقَرَّهُ يَبْدُو يُخَالِفُ كُلَّ عُنَاصِرِ شَخْصِيَّتِي فَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَرَى فِي أَغْلِبِ مُقَوِّمَاتِ الفِكْرِ الفَلْسَفِيِّ إِلَّا تَجَارِبَ ذَاتِيَّةً فِي جَوَانِبِهَا اسْتِحَالَاتٍ لَا تُحَلُّ بِالْوِلَادَاتِ وَالطَّرِيقَةِ الهَيْكَلِيَّةِ (هِيجِل) وَإِنَّمَا تَسْتَلْزِمُ مَا يُجْعَلُهَا قَرِيبَةً مِنَ التَّحَقُّقِ الفِعْلِيِّ فِي الوَاقِعِ وَلَا تَبْقَى خَيَالَاتٍ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّنِي أَعْتَرِفُ أَنَّ عُنَاصِرَ الخَيَالِ بِحَدِّ ذَاتِهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الوَاقِعِ وَلَكِنَّ عَالَمَ الخَيَالِ وَالتَّخَيُّلِ عَوَالِمُ لِتَجْرِبَةٍ فَرْدِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهَا. وَلِهَذَا فَمَا قَالَهُ الفَيْلُسُوفُ كَانْطُ وَهِيجِلُ وَشُوبِنْهَاوَرُ وَكِيرْكِغُور وَنِيتْشِه وَهَيْدِجَر وَوَيْتْهِيد وَغَيْرُهُمْ جَمِيعُهُمْ يَدُورُونَ فِي فَضَاءَاتِ التَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ كَانْط يَرَى أَنَّ مَبْدَأَ السَّبَبِيَّةِ لَا يَحْكُمُ الوَاقِعَ فِي ذَاتِهِ، أَي لَا يَحْكُمُ الوجودَ خَارِجَ حُدُودِ العَقْلِ الإِنسَانِيِّ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ العَقْلَ وَبِالتَّالِيَ إِدْرَاكُ العَقْلِ لِلْوَاقِعِ أَمْرٌ فَرْدِيٌّ وَذَاتِيٌّ، أَي يَحْكُمُ التَّجْرِبَةَ كَشَيْءٍ يَشْمَلُ عَلَى مَقُولَاتِ العَقْلِ وَالمَعْطِيَاتِ الحَسِّيَّةِ مَعًا. وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ مَبْدَأَ السَّبَبِيَّةِ عِندَ كَانْطٍ يَفْتَقِرُ إِلَى المشْرُوعِيَّةِ الضرُورِيَّةِ لِلِاسْتِخْدَامِ خَارِجَ حُدُودِ التَّجْرِبَةِ. وَمِنَ المُمْكِنِ أَنْ تُوجَدَ السَّبَبِيَّةُ فِي الوَاقِعِ، وَقَدْ لَا تُوجَدُ. أَي لَا يُمْكِنُنَا إِثْبَاتُ وَلَا نَفْيُ وُجُودِهَا فِي الوَاقِعِ بِمَعْزِلٍ عَنْ العَقْلِ. وَإِذَا كَانَ الوَاقِعُ أَوْ بَعْضٌ مِّنْهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَحَسَّسَهُ إِنَّمَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا فِي العَقْلِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَجْهِزَةٍ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا العَقْلُ ذَاتُهُ. وَعِنْدَها قَدْ نَرْسُمُ مَنْحَنِيَّاتٍ بَيَانِيَّةً لِمَا يَدُورُ فِي بَعْضِ جَوَانِبِ العَقْلِ وَأَسْتَقْرِئُ فِيمَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُ الأَفْكَارِ إِلَى شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ المَعْرِفَةِ الرَّمْزِيَّةِ. وَلَكِنَّ المُصِيبَةَ تَكْمُنُ فِي أَنَّنَا لَا يُمْكِنُنَا الإِقْرَارُ بِأَنَّ قَوَانِينَ العَقْلِ هِيَ قَوَانِينُ الوجودِ. ثُمَّ عَلَيْنَا أَنْ نَنْسَاقَ وَرَاءَ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ (لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ سَبَبٍ لِكُلِّ حَدَثٍ عَلَى الإِطْلَاقِ) وَهَذِهِ نَتَائِجُ تُؤَدِّي إِلَى مَفَاهِيمَ لَاهُوتِيَّةٍ بِحَتْمِيَّةٍ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هُنَاكَ مُسْتَوَيَاتٍ مِنَ الوجودِ لَا يَسْرِي عَلَيْهَا مَبْدَأُ السَّبَبِيَّةِ (كَالذَّاتِ الإِلهِيَّةِ) (وَالذَّاتِ الإِنسَانِيَّةِ الحُرَّةِ) مَرَّةً أُخْرَى هُنَا لَا أَفْهَمُ إِنْ كَانَتِ الذَّاتُ الإِنسَانِيَّةُ حُرَّةً وَهِيَ مُكَبَّلَةٌ بِقَوَانِينَ خَارِجَ عَنْ إِطَارِ قُدَرَاتِهَا وَمِنْهَا مِثْلًا الوِلَادَةُ فَالشَّخْصِيَّةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَكَّمَ فِي أَنَّهَا سَتُولَدَ وَعَلَى أَيَّةِ شَاكِلَةٍ سَتَكُونُ الوِلَادَةُ وَلَا مَا تَحْمِلُهُ مِنْ وَرَاثَةٍ وَلَا حَتَّى لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الآثَارِ البيئيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَلَا العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ وَالغَرَائِزِ وَالميُولِ وَالمُسْتَوَيَاتِ الصِّحِّيَّةِ مِنَ العَقْلِ فَعَنْ أَيِّ حُرِّيَّةٍ نَتَحَدَّثُ؟
وَهَذا يُقُودُنِي إِلَى قَوْلِ دِيكَارْتٍ حِينَ يَقُولُ (إِنَّ نَزْعَةً ذَاتِيَّةً مِئَةً بِالْمِئَةِ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي دَارِ المُعْتَهِينَ) كَمَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ مَنَاطِقَ تُقِرُّ بِهَا الوجودِيَّةُ السَّارْتَرِيَّةُ فِي خَلْقِ الذَّاتِ (الَّتِي تَرَى أَنَّ الذَّاتَ قَادِرَةٌ عَلَى الفِعْلِ وَلَهَا قُدْرَةٌ عَلَى التَّفْكِيرِ، وَذَاتٌ تَعْمَلُ ضِدَّ اليَأْسِ وَالإِنسَانُ لَيْسَ إِلَّا مَشْرُوعُ الوجودِ الَّذِي يَتَصَوَّرُهُ).
المَراجِعُ:
1. مشكلات فلسفية. أبحاث مختارة. الدكتور نايف بلوز. السنة الثالثة لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية جامعة دمشق. لعام 1975م
2. كتاب نقد العقل الخالص. كانط. ترجمة وتقديم الدكتور موسى وهبة أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة اللبنانية.
3. جون لويس: مدخل إلى الفلسفة. ترجمة أنور عبدالملك. 1978. دار الحقيقة.
4. توما الأكويني وكانط.
5. مفهوم نظرية المعرفة. الكاتب هايل الجازي عام 2016م. نيت.
6. موقع هنداوي. مبادئ الفلسفة. نظرية المعرفة.
7. أفلاطون المحاورات الكاملة. نقلها إلى العربية شوقي داود تمراز. الأهلي للنشر والتوزيع. بيروت 1994م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -الله لا يكسبك يا نتنياهو-.. صرخة طفل فقد والده في قصف إسرائ


.. جنود الجيش السوداني يستعرضون غنائم من قوات الدعم السريع في ج




.. الهدوء الحذر يسود منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت بعد غارات في


.. حالة من الذعر بين ركاب طائرة أثناء اعتراض صاروخ في تل أبيب




.. أزمة ثقة بين إيران وحزب الله.. اختراق أم خيانة؟