الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجه السماء - قصة قصيرة

ايناس البدران

2006 / 12 / 18
الادب والفن


كان جيدها يسيل بقطرات عرق بارد داعبته نسيمات ودود لفحتها شمس الصحراء ، وهي تجوس بقدميها تلك الارض المنسية .. كل شيء حولها بسيط وفي مكانه الصحيح .. خطواتها تغوص في الرمال تستحضر متعا لعوالم غابت عنها طويلا، هنا الحياة بريئة من كل زيف ، تحلق الروح فيها حرة كقلب صقر ، لايحدها خوف من اي نوع ي.. هنا العزلة الرائعة مع النفس ، الخلوة التي تغري بالتأمل ، بالمجازفة ببلوغ اقصى درجات السمو . من شق الخيمة السوداء ذات الحواشي المزركشة انبلج قرص الشمس مغلللا بأطياف قزحية ، وتبدت الغيوم نتفا قطنية لترسم ظلالا مضيئة لعشاق تلامسوا بأكفهم بعد طول بعاد .
كادت ان تجفل ذات مرة حين هم الضيف بتقبيل يدها وفق ما اعتاد في بلده وقبل ان يغادر همس لها بأدب :
- سيدتي انت روح حرة .. مكانك ليس هنا .
سألته وهي تغالب ابتسامتها :
- ولكن اين بحق السماء ؟
- هناك .. في البرية .. في الصحراء !
عاصفة رملية اخرى تهدد بأقتلاع الخيمة . تبعثر اوراقها ، تلمست بأصابعها وبر البسط الخشنة بحثا عما يصلح كدثار تدفيء به جسدها .. كانت الرحلة مع البعثة العلمية ضربا من المغامرة اججت في النفس حماسا لاتتذكر متى استشعرته آخر مرة .
سار بهم الدليل في قفار وشعاب لم تطأها قدم انسان ربما لعقود .. كانت الجمال تدب فيها تحت جنح الليل الازرق مستهدين بالنجوم في متاهات سرابية مفضضة بشعاع قمر مسكوب تتلألأ السماء لساعات حتى ينطفيء آخر نجم فيها .
كانوا يتأرجحون خلالها فوق ظهور سفن الصحراء وايديهم قابضة على مقدمات السروج متجاهلين التيبس في اجسامهم .
آه الصحراء .. سحر بلا حدود .. رمال تعانق سماء .. مدى لاحدود له يكفي لأحتضان الروح .. هي الحياة تدب في الاوصال ، وفيها قد يختبيء الموت .
اذا ما انبلج الصبح اناخوا عند بقعة يختارها الدليل ليتناثروا بشكل مجاميع بحثا عن الحطب لاضرام النار ، وبعد العمل والبحث كانت تلوذ بخيمتها تقرأ وتكتب قبل ان تستسلم فوق العشب الندي لنوم هنيء لايوقظها منه الا صوت الدليل يدعوهم لمعاودة المسير ،عند اقتراب قرص الشمس من حضن المغيب .
مع الوقت صار وجودها ضمن المجموعة امرا واقعا جعلها تتقاسم واياهم الخبز .. والمصاعب مع شعور بالحماية والانتماء .
وبالرغم من ان الر حلة حفظت لكل منهم تفرده ، الا انها في ذات الوقت صهرتهم في بوتقة واحدة ، فلم يعد بينهم كلام يحمل معنى الأنا – صاروا يتحدثون فقط بلغة ال ( نحن ) .
مع انغماسهم في دنياهم الجديدة ازداد احساسهم بوجود خلل من نوع ما يعاني منه ذلك العالم الذي خلفوه وراءهم ، شيء مبهم مؤلم يستشعره الجميع ولا يجرؤ الا قلة ممن ينعتون بالمغامرين حد الجنون على الافصاح عنه .
وتجلى لهم بوضوح اصرار ذلك العالم على خداع نفسه ببريق زائف ازاغه عن رؤية حقيقته المرة ، فحولته العدائية ، هوسه بماديته دونما اعتبار لمصير الطيبين الذين لم يعودوا يملكون ازاء كل هذا من سلاح سوى .. امل محتضر .
ادركت الان وهي تصارع غضب الطبيعة العادل ان ما سلبها الحياة ببطء هو ذلك الانصياع المذل لخطوط لامعنى لها .. هو ذلك الخوف مما لا وجود له من ابراج تصدر اوامر جوفاء لاهم لها سوى قمع صهيل النفس الحر .
سألت دليلهم يوما :
- هل انت واثق من اننا نسير فوق الارض وليس على كوكب آخر ؟ قال بحكمة البدو :
- ارض الله واسعة .. الا ان البشر جعلوها اضيق من خرم الابرة .
عندها التمعت السماء بريق بشر بزخات رذاذ اشاع الابتسام بينهم مع وعد من الدليل بالكثير من الكمأ مؤكدا ان الارض هنا تنبت الافضل منه .
العرق يتفصد من جبينها وهي ترتجف .. دخان الحطب المشتعل يوقظ حواسها ، يأتيها ممزوجا برائحة القهوة العربية ، ويد حنون ترفع رأسها لتقطر في فمها قطرات منه ، قالت مخاطبة المرأة بصوت مرتعش :
- سأبوح لك بسر حبي لناركم يا حنة ، انها عذبة كأنفاس الوليد ، حزينة كموعد عاشق ضائع .. تحملني حيث الباب الخشبي الكبير ذي المسامير النحاسية في بيتنا الفسيح ، او هكذا كنت أراه ثم وهي تتنهد أكملت :
- بيتنا المتسع لعوالم كانت لي يوما الدنيا بأسرها قبل ان يضيق به شبابي فأقرر مغادرته الى حيث الانكسارات والسباق المميت مع النفس .
ردت المرأة بصوت مغموس بالحزن :
- نارنا تطعم الجائع وتكرم الضيف وتجذب الذئب المستوحش ليلا لنشاطره حزنه وعواءه :
دارت في رأسها افكار متداخلة .. على حافة الموت تتكشف حقيقة جوهر الانسان .. ترهف حواسه تشف مشاعره فيعاود الاتصال بذاته التي طالما امعن في طمسها وتجاهعلها . وحين يلتحم بالاخطار تتطهر روحه فيعود حرا كما كان يوم ولد ومثلما يود ان يكون .
قالت للمرأة بصوت واهن :
- ان اقتراب الموت لايخيف .. انه كظهور البدر في الليلة الظلماء . يؤنس ويهدي ويرشد . لكأنما اضاء برق لثوان ظلمات روحي فتبدى كل شيء لعيني صافيا رائقا لامجال فيه للبس قالت حنه بأسى :
- أ من اجل هذا ؟ قاطعتها كأنما تذكرت شيءا مهما :
- هل توقف .. هل ابتعدوا ؟ أجابت المرأة :
- تقصدين اطلاق النار ؟ لقد توقف منذ مدة .
قالت وهي تلتقط انفاسها بصعوبة :
- كان هناك في بيت جدي منضدة من المرمر مستديرة بنقوش مختلفة ، قسم سطحها الى ارباع . كانت جدتي تقول ان كل ربع منها يعني مرحلة من مراحل العمر .. صعب علي تحديد اين تبدأ الدائرة واين تنتهي كانت ككابوس مراوغ .. كالممرات في غرف الموتى الاثرية حيث يجد المرء نفسه في المكان ذاته بعد كل دورة ويكاد حينها يسمع قهقهات القدر الساخرة ، خاطبتها البدوية بجدية :
- لماذا تصديتم لهم ؟ رفعت رأسها كمن لسع بسيخ محمي لتهمس :
- لأنهم لصوص .. لصوص آثار ، تبعونا بخستهم الى هنا .. سقط رأسها على الوسادة وعاود عينيها صفاؤهما ، قالت بضعف :
كانت سيقان المنضدة تلتف على بعضها برشاقة كجذور شجرة عملاقة .. أتعلمين .. قد تطال الريح الصفراء اليابس من الاوراق ، اما الجذور فلا سلطة لأحد عليها .. انها تتلاقى بعشق اب
- دي يباركه اديم الارض .
هامت تظراتها بعيدا وهمست كأنما تحدث نفسها :
لم أر أرضا كالصحراء .. انها رمال تعانق سماء .. هي الحياة تدب في الاوصال .. وفيها قد يختبيء الموت ..
- ثم كأنها تنبهت لوجود المرأة همست : .
- تنحي قليلا يا حنه .. اريد ان ارى وجه السماء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي