الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-هاي- سذاجة أمريكية!!

صالح سليمان عبدالعظيم

2006 / 12 / 19
الصحافة والاعلام


علينا ألا نفترض دائماً أن الأمريكيين يتمتعون بقدرات عقلية مبهرة تمنحهم ميزة التفوق على الآخرين؛ ففي أحيان كثيرة تبدو السذاجة الأمريكية أمراً واضحاً للعيان، لكن وبفضل ما تتمتع به أمريكا من قوة عسكرية واقتصادية هائلة يصعب على الكثيرين إلصاق تهمة السذاجة بها. إضافة إلى ذلك، فإن حالة الضعف، وربما الخنوع، التي يتحلى بها الكثيرون إبان تعاملاتهم مع الأمريكيين الأفراد من ناحية ومع المؤسسات الأمريكية من ناحية أخرى، تزيد من حالة الإنبهار بالنموذج الأمريكي أياً كانت مثالبه وأياً كانت عيوبه.

ألحت علىّ هذه الهواجس، غير المقبولة في عالمنا العربي الذي يهيم حباً وولهاً بالنموذج الأمريكي، وأنا أطالع خبر إغلاق مجلة "هاي" الأمريكية المطبوعة بالعربية؛ حيث جاء القرار بإغلاق المجلة، التي أنشأت في يوليو 2003 في أعقاب الحرب الأمريكية على العراق، من قبل مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون الدبلوماسية العامة السيدة كارين هيوز، والمسؤولة الرئيسية في الوزارة عن تحسين صورة أمريكا في العالم العربي. وجاء في أسباب إغلاق المجلة أنها لم تحقق الغاية من إصدارها، حيث تلقت العديد من الإنتقادات، الأمر الذي دفع القائمون عليها إلى وقف طباعتها للوقوف على مواطن الضعف وأوجه الانتقادات المختلفة الموجهة إليها، وإن كانت وزراة الخارجية الأمريكية قد أكدت على مواصلة إصدارها على الإنترنت.

تطبع مجلة هاي ما يقرب من 55000 نسخة لا يوزع منها سوى 2500 نسخة شهريا، بما يعني عدم قرائتها تقريباً، بل وأكاد أقول عدم معرفة أحد بها على الإطلاق من الشريحة العمرية المستهدفة ما بين 18-35 عاماً وفقاً لأهداف وزراة الخارجية الأمريكية. يأتي إصدار هذه المجلة ضمن إطار أمريكي أوسع يهدف للتأثير الإعلامي على المشاهد والقارئ العربي، بهدف خدمة أغراض أمريكا في المنطقة وجعلها أكثر قبولاً بين العرب، وفي هذا السياق، أنشأت أمريكا أولاً إذاعة "سوا" بالعربية، ثم أصدرت مجلة هاي، وأخيراً قناة "الحرة" الفضائية. ويلقي إغلاق مجلة هاي بالتشاؤم حول مصير كلٍ من سوا والحرة، حيث يواجهان أيضاً انتقادات كثيرة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية بعدم تحقيقهما لأهدافهما المتمثلة في جذب المشاهد العربي، وتلميع صورة النموذج الأمريكي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا، لماذ سقطت مجلة هاي؟ ولماذا عجزت عن تحقيق أهدافها، ولماذا بالتبعية سوف تسقط كلٍ من سوا والحرة؟

جاء اهتمام أمريكا بالمنطقة العربية إعلامياً في أعقاب أحداث سبتمبر 2001، وما تلا ذلك من غزو واحتلال كلٍ من أفغانستان والعراق والحرب الشاملة على ما تطلق عليه أمريكا "الإرهاب الإسلامي". أى أنه إعلام جاء وسط مناخ عدائي بين كلٍ من العرب والمسلمين من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من جهة أخرى. وفي ظل استعار الكراهية المتواصلة بين الطرفين، تمارس أمريكا قدراً كبيراً من السذاجة أو لنقل الاستعباط. فمن ناحية تمارس أمريكا أوقح أشكال الهجوم المتواصل على العالم العربي والإسلامي الذي أخذ أقصى تجلياته العدوانية في احتلال كلٍ من أفغانستان والعراق، وفي التدخل المتواصل في شؤون العالم العربي وفرض سياسات محددة عليه، ومن ناحية أخرى تستخدم أمريكا الإعلام من أجل تحسين صورتها، ورسم جوانب أكثر إنسانية عن الولايات المتحدة الأمريكية.

وتبدو الصورة هنا غاية في المفارقة؛ فأمريكا تريد من خلال إعلامها أن تقول للقارئ والمشاهد العربي أن هناك أمريكا أخرى وديعة وطيبة ومشرقة لا تمت بصلة لما يحدث في العراق وفي أفغانستان؛ فمن فضلك أيها القارئ والمشاهد العربي لا تحكم على أمريكا من خلال ما تراه في العراق وأفغانستان، ومن خلال ماتراه بخصوص الضغوط الأمريكية المتواصلة على المنطقة، والمساعدات الغير مشروطة والمؤيدة على طول الخط لإسرائيل. على القارئ والمشاهد العربي أن ينسى كل ذلك، ويتوجه بكليته نحو الإعلام الأمريكي القادم إليه عبر الأطلنطي، حيث يتوحد معه، وينسى كل الموبقات الأمريكية في المنطقة العربية.

وبالرغم من هذه السذاجة، وهذا الاستعباط، يقدم الإعلام الأمريكي الجديد الموجه للقارئ والمشاهد العربي، إعلاماً يتحلى بالضحالة والسخافة وعدم الفهم للواقع والتوجهات العربية المعاصرة. فمن خلال تحليلنا لأعداد مجلة هاي التي بلغت 36 عدداً يمكننا أن نحدد مجموعة من الأسباب التي أدت لإغلاق المجلة من ناحية، كما تكشف عن امكانية إغلاق كل من قناتي سوا الإذاعية والحرة الفضائية من ناحية أخرى.

قدمت المجلة طوال أعدادها مادة صحفية لا تمت للقارئ العربي بصلة؛ مثل الأمور المتعلقة بموسيقى الروك والراب والريجي والأزياء وعمليات التجميل وسباقات السيارات والتسويق الإلكتروني وفحوصات ما قبل الزواج وشؤون الصحة والتخسيس، بالإضافة إلى ما يتعلق بالتعليم في أمريكا وأوضاع الجامعات فيها، والرياضة وأحوال الرياضيين الأمريكيين المشهورين. اللافت للنظر هنا أن الموسيقى قد حازت على حيز كبير من مساحة أعداد المجلة المختلفة، وعلى ما يبدو أن هناك تصور وهوس ساذج يسيطر على القائمين على المجلة بأن الباب الملكي لتجميل صورة أمريكا في المنطقة يتمثل في تعميم نموذج الموسيقى والأغاني الأمريكية، وكأن الشباب العربي المستهدف من وراء إصدار هذه المجلة ليس له من هم سوى التعلق بالإصدارات الموسيقية الأمريكية الجديدة!!

رغم ادعاء المجلة بتجنبها الحديث عن الشؤون السياسية إلا أنها تخلق من باب خفي سياسة الانغماس في الفردية والتحول عن الهم الوطني والقومي العربي. فمن خلال الموضوعات التافهة التي تعرض لها، تخلق شريحة جديدة من الجمهور المتعلق بأهداب الموسيقى الأمريكية وبموضات الزى الجديدة وبسباقات السيارات المختلفة، والحمد لله أن توزيع المجلة قد أثبت أن هذه الشريحة بالغة الضآلة في عالمنا العربي.

يرتبط ما سبق بالبعد التام عن كل ما هو مجتمعي وجماعي؛ فالمجلة لم تتناول منذ بدايتها وحتى إغلاقها أية موضوعات تتسم بالصفة الجمعية. فالنماذج العربية الناجحة في أمريكا يتم تقديمها كنماذج فردية منقطعة الصلة بأية أطر مجتمعية، أو أية خبرات سابقة. كما أن النماذج الناجحة التي يتم تقديمها من العالم العربي، يتم التعامل معها أيضاً عند حدودها الفردية، في انقطاع كامل مع الخلفية والإطار المجتمعي الذي توجد فيه. فالبطالة على سبيل المثال يتم التعامل معها بوصفها حالة فردية يمكن للفرد التغلب عليها من خلال بحثه الدؤوب عن عمل، وخلقه لفرص عمل مبتكرة وجديدة.

جاءت معظم أعداد المجلة متناقضة مع أوضاع العالم العربي الأقل تنموياً على مستوى العالم؛ حيث دأبت المجلة عبر أعدادها المختلفة على تقديم صورة مشرقة تغلفها الموسيقى وإمكانية التلاقي بين البشر، مع التركيز على حالات النجاح الفردي سواء في أمريكا أو في العالم العربي. وفي هذا السياق، بدت المجلة منقطعة الصلة تماماً مع تحولات الواقع الاجتماعي وظروفه المعيشية المتردية، ولعل هذا يناقض توجهات المجلة التي تدعي بعدها عن الشؤون السياسية، من حيث تقديمها لجرعات تغريبية تخديرية تحول بين فهم الواقع المعيش وامكانية نقده وتغييره.

وعلى ما يبدو أن الإعلام الأمريكي الحكومي الموجه للعالم العربي مازال يعكس بالأساس توجهات السياسة الخارجية الأمريكية نحو العالم العربي. فهذا الإعلام لا ينطلق من فهم حقيقي وواعٍ بأوضاع المنطقة وبظروفها، كما أنه مازال يفرض أجندته الخاصة به، بغض النظر عن مدى ملائمتها لأوضاع وسكان المنطقة. وإلى أن تغير السياسة الأمريكية الخارجية من توجهاتها نحو المنطقة، وإلى أن تتلاشى سذاجة الإعلام الأمريكي أو إستعباطه، فإن الغلق سوف يكون مصير كل المؤسسات الإعلامية الأمريكية في المنطقة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا