الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
سلامبو : قصيدة ذات نبرات سادية
الحسن علاج
2024 / 8 / 8الادب والفن
تحت ذريعة هذيان راهب صحراء ،يستكشف الكاتب ، الذي يمقت الكهنة والعقيدة ، على طريقته ، لغز الأصول .
جولي مالور
ترجمة : الحسن علاج
هلوسات أونطونيــوس
لاتنطوي العلاقة التي أقامها فلوبير مع الدين على أي لغز . مُقاوم للإكليروس بشكل لا لبس فيه ، لا يحب النورمانديّ الكهنة والعقيدة التي تعتبر بالنسبة إليه ، مثيرة " للاشمئزاز " ، لدرجة أن المرء ،كان يرى فيه أحيانا ، نوعا من السيد هومي Homais) ( ، الصيدلاني العلموي في [رواية] مدام بوفاري . وهذا لا يمنع ـ وكيف بالمرء ألا يتفاجأ ؟ ـ ومن باب المفارقة أن " عمل حيات[ـه] برمتها " ، الهوس الذي سيعمل على مواصلته بدون هوادة ، طيلة ربع قرن ، يعتبر نصا ذا ثيمة مسيحية :
تجربة القديس أونطونيوس .
انقشعت الفكرة في ذهنه بمدينة جنوة ، بإيطاليا ، سنة 1845 ، أثناء رحلة برفقة أبويه ، اكتشف فلوبير ،في قصر بالبي Balbi) ( ، لوحة بنفس الاسم ، منسوبة إذ ذاك إلى بروغيل الأكبر (Brughel L’Ancien) يقوم بتصوير مجموعة من الشخصيات باعتبارها " مزدحمة ، متحركة ، تصدر عنها ضحكات بلهاء " . وتكمن الصدمة الفنية في أن الشاب يعود إلى فرنسا مع إحساس أن يفعل من ذلك شيئا ما . وبعد ثمانية عشر شهرا من كتابة قوية و" شهوانية " ، فقد قرأ المسودة الأولى على لوي بوييه (Louis Bouilhet) وماكسيم دي كامب (Maxime Du Camp) . وجه له الحكم " ضربة موجعة " : حثه بوييه على أن يُلقي بالمخطوط " في النار " .
وعقب عودته من رحلته إلى الشرق ، عاد فلوبير إلى طاولة كتابته . تابع كتابة النسخة الثانية ، دفعة واحدةحتى منتصفها ، تاركا إياها لفائدة مدام بوفاري ، ليتممها في السنة الموالية ، عاملا على نشر بعض المقاطع في مجلة الفنان L’Artiste) ( ، إلا أنه كف عن النشر بالكامل ، دائما بناء على نصائح أصدقائه . ومع ذلك ، فقد عاد الناسك ليطارده : ففي سنة 1869 ، كتب إلى جورج صاند George Sand) ( بأنه " استعاد افتتانه القديم " ؛ وفي عام 1871 ، قال إلى الكاتبة ماري رينييه (Marie Régnier) إنه يسعى إلى " العودة إليه " ؛ وأعلن في عام 1872 ، إلى ماري صوفيا لورواييه دوشانتوبي ( Marie- Sophie Leroyer de Chantepie) بأنه أتى على إتمام ذلك ، " في خضم الأحزان " . وفي سنة 1874 ، ظهرت النسخة التي نعرفها ، تم إيداعها أخيرا لدى الناشر .
البيئة الثقافية
لا يُعرف عن حياة القديس أونطونيوس الحقيقي ، الكبير ، والملقب أيضا بالناسك ، وهو أول من شيد أديرة العالم المسيحي ، حوالي عام 300 ، إلا ما رواه معاصر ، [الأسقف ] أتناسيوس من الإسكندرية Athanase d’Alexandrie) ( . ذاع صيته بعد ألف عام تقريبا فيما بعد ، وذلك بفضل إجراء تعديل على الأسطورة في " الكتاب الأكثر مبيعا " من القرن الثالث عشر : الأسطورة الذهبية . إن هذه الذخيرة التي هي من توقيع راهب دومنيكاني ، جاك دو فوراجين (Jacques de Voragine) ، و التي تحكي عن الأعمال الجليلة لنحو 150 قديسا ، والرسل والشهداء . تعادل شهرتها شهرة الكوميديا الإلهية لدانتي ، سوف تغذي القرون القادمة ، إلى حدود القرن التاسع عشر الاستثنائي ، الذي شرّع الأبواب للعلوم وأعلن عن موت الإله .
ولقد عمل فلوبير ذاته على استعادة الأسطورة التي هي ، في واقع الحال ، وباعترافه تعتبر " مصرفا" . ويعتبر العمل غزيرا ومتاهيا ، قصيدة نثرية أكثر منها رواية ، تنفلت عن التصنيف . فتارة يعتبر خلاصة لاهوتية ، وتارة أخرى استكشافا فلسفيا لأطروحات سبينوزية ، صوفي وميتافيزيقي ، يقدم المجموع نفسه مثل تعاقب لهلوسات نصف فاوستية ، نصف ميلتونية . نص يظل عصيا على الفهم في القرن التاسع عشر ، وشبه غامض في عصرنا .
تدور أحداث القصة ليلا . أونطونيوس الذي يعيش وحيدا في الصحراء منذ ثلاثين سنة ، يجد نفسه في خضم أزمة فتور روحي ، سأم الرهبان . مستسلما لشيطان منتصف الليل ، لحظة الشك هذه ، يطلق الناسك العنان لشرود روحه ، ثم يجد نفسه محاصرا بالرؤى . " ملكة سبأ [...] ، ثم الميتافيزيقيون ، متفوهون بأقوالهم المأثورة ؛ ثم الهرطوقيون مع كلمتهم الوحيدة ؛ ثم عبدة النار ، أبولو نيوس من تياناTyane) ( ، ثم كافة آلهة العالم ، ثم حيوانات السماوات ، الأرض والبحر ، فالشيطان ، في هيئة حواري القديس هيلاريون ...) ، يعرض أوغست دجو فيلييه Auguste de Villiers de L’isle- Adam) (دو ليل آدم ، بالتفصيل بتاريخ 23 أبريل 1874 في الجريدة اليومية الأسبوع الباريسي ، أثناء نشر النص .
مجموعة من الرموز المسيحية ، تم استلهامها من العهدين القديم والجديد ، تتلاحق ، متبوعة بوفد من المعبودات الوثنية ، اليونانية والرومانية . يصنع بودا عبورا واضحا ، السفنكس تجسيد للعقل ، ويجسد الكيميرا chimère) ( الخيال المبدع ، ينخرطون في مبارزة بلا رحمة . يشكل الهذيان الهلسي للناسك بيئة ثقافية تلفيقية ملائمة ، عاملة على الخلط بين التاريخ ، اللاهوت والفلسفة ، من دون توضيح أي شيء لكن مع القفز باستمرار من سؤال إلى سؤال .
إن فيلييه دو ليل آدم هو من أشار بدقة إلى الجوهري : يعتبر قديس فلوبير قديسا " مزيفا " . " ليس ثمة دفق لعشق ، مضطرم ، متحمس ، أنوثي ، من أجل الإله محبه ومحبوبه ؟ " كتب عن هذا ال" حلم الأدبي " .
ففي ظل مسرح الهلوسات هذا ، لاحظ بعض المحللين النفسيين " ميولا استمنائية " للكاتب أو " شهواني ذهني " ؛ ولاحظ آخرون " انتقاما من الأب الخصّاء " أو " عودة المكبوت " ، كما لا حظت كلودينا غوثو ميرش Claudine Gothot- Mersch) ( في تقديمها لطبعة 1983 لدى دار نشر فوليو .
على نحو معقول جدا ، فإذا كان هذا الكتاب "يحث على التفكير " بالنسبة لفيلييه دو ليل آدم ، فلأن بطله يعتبر " شخصية مرموقة في المجتمع " .
فهو يعتبره رمزا لل" متوحد " ؛ تدركون صورة الفنان ، من طراز فلوبير . لم تعد ملكة سبأ " الزائرة المزعجة لسليمان ، ملك اليهودية ، بل الفكرة الشيطانية والضيقة التي كونها القديس أونطونيوس عن نفسه " . هاهو أونطونيوس ، ذو المكانة المرموقة اجتماعيا ، في مواجهة أفكار عصره . هذه الليلة ، ووراء استعراض الاعتقادات ، فإن بحثا عن المعنى يتم وضعه موضع تساؤل .
الصورة الكبرى
إن الهلوسات ، التي يعرضها فلوبير للقارئ ، تتأرجح بين الكبير إلى أبعدالحدود، وتناهي الصغر ، إلا أنها تسافر عبر الزمن . يتعلق الأمر بهبوط يضعف تدريجيا ، بهدف ، في أي نهاية نص ما ، الشيطان الذي اتخذ اسم العلم ـ تجربة أخرى .
يقود العلم المُشخّص الناسك إلى حضور مشهد الكون وهو في حركة ، ولوج الصورة الكبرى ، من أجل إدراك الأشكال الأولية للحياة ويشهد ولادة المادة .
يستحيل هنا تجاهل السياق العلمي لذلك العصر . لقد عادت سفينة شارل داروين إلى الميناء منذ ثماني وثلاثين سنة (2أكتوبر 1836 ) أثناء ظهور تجربة القديس أونطونيوس ، وكتاب داروين ، أصل الأنواع (1859) ، الذي أتيحت له فرصة الوصول إلى المكتبات . إلا أن مدة تأليف عمل فلوبير كانت متعاصرة جدا مع الجدال الذي تولد عن نظرية التطور ، التي وضعت الإنسان في تاريخ كرونولوجي وتفكر في الطبيعة تم بمسطلحات السببية . وهو ما عمل المصور والنقاش أوديلون رودون Odilon Redon) ( ، في سلاسل ثلاث من الطباعة الحجرية ( 1888 ، 1889 و 1896 ) والتي تم إنجازها استنادا إلى تجربة القديس أونطونيوس .
اطلع رودون على العلم الجديد بواسطة عالم نباتات ، وهوأرمان كلافو (Armand Clavaud) ، اكتشف النهاية الفلوبيرية التي بمقتضاها " لن يتم الفصل في الوقت الراهن ، بينها وبين الحيوانات أبدا ". هنا تتقاطع الممالك ، يغوص الناسك في الانفجار العظيم الأولي بغاية " رؤية ولادة الحياة ". تحكي نقوش رودون ـ بزوغ ، خلية الأذن ، شرغوف ، رأس مع قوائم ـ عن هذا الاهتمام الذي يخترق النصف الثاني من القرن . ومثلما أنه لدى فلوبير ، لا شيء يعد بسيطا ، فعندما يطلع النهار كي يضع حدا لليل يشع للناسك ، ما الذي يتم انبثاقه ؟ وجه المسيح على القرص الشمسي ... العودة إلى نعمة المقدس لدى المقاوم للإكليروس ؟ جواب نورمان : لن يقوم فلوبير بالاستنتاج ؛ سيترك الأمر للقارئ .
ــ
مصدر النص : مجلة لوبوان الفرنسية ( Le Point) في عدد ممتاز خصص ملفا لغوستاف فلوبير عدد 30 نونبر ـ دجنبر 2021
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. نهال عنبر : المسرح جزء من الثقافة المصرية ونعمل على إعادة جم
.. إيمان رجائي: النسخة السابعة من مهرجان نقابة المهن التمثيلية
.. لقاء سويدان : خشبة المسرح الدافع الأول للتألق والإبداع الفني
.. نرمين زعزع : رعاية المتحدة للمهرجانات الفنية والثقافية يزيد
.. استعدوا للقائهم في كل مكان! تماثيل -بادينغتون- تزين المملكة