الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
شكري في زمن الأخطاء
ادريس الواغيش
2024 / 8 / 11الادب والفن
شكري.. في زمن الأخطاء
بقلم: إدريس الواغيش
يوم تسلّل محمد شكري فجرًا من إحدى القرى المنسية في بني شيكر نواحي الناظور، يتخطى الأحراش في كديات الريف وجباله، وهو حافي القدمين مثل أرنب برّي، كانت "الأخلاقية" آخر شيء يمكن أن يفكر فيه. وحين توجّه مُكرهًا مع أسرته الصغيرة نحو مجاهيل طنجة، وأصبح كائنا عشوائيا ينام فيها مثل الذئاب في عراء الهوامش، لم يفكر في مصيره "الأخلاقيون". صحيح أنه تخلص مع مرور الأيام جزئيا من عدائيته وبدوَنته، ولكن فاته أن يكون مَلاكا، أصبح شيطانا مدينيا، متشرّدا يعيش بشكل يومي جُنون آخر الليل. صارت عنده قناعات أخرى، كان من الصعب عليه أن يتجاوزها أو يتخلى عنها، وهو في طيش المُراهقة. غابت عنه عدة مفاهيم، ومنها شيء اسمه "الأخلاقية".
في تلك الفترة من زمن شكري الصعب، كان البعض من منتقديه اليوم، باسم هذه التي يسمّونها "أخلاقية"، يمسكون بأيدي أمهاتهم وآبائهم ويصحبونهم إلى الكُتّاب والمدارس والبعثات الأجنبية، وهم يتأبّطون كُرّاساتهم الملونة ومحفظاتهم، وربما كان البعض منهم يقصد قاعات السينما لمشاهدة الأفلام نهاية كل أسبوع مع أسرهم، وفي أرجلهم أحذية جلدية مريحة. كل هذا لم يعرفه محمد شكري في صغره، ربما سمع به أو قرأ عنه، وربما يكون قد رآه بعد حلوله ضيفا ثقيل الظل على طنجة في أيامه الأولى. ولكن كان قبل ذلك، عاش مثل الكثيرين حرمانا مُوجعًا في "زمن الأخطاء"، زمن لم يختر شكري أن يعيش فيه، ولكن فرض عليه أن يعيشه قسرا.
وفي الوقت الذي برز فيه محمد شكري كاتبا عالميا في طنجة، كانت مدينة ملتقى البحرين تشهد حركة أدبية دؤوبة، أصبحت مقصدا ومستقرا لكبار المفكرين والفنانين من مختلف أنحاء العالم، دون أن نسقط من حساباتنا أن طنجة كانت أيضا محجًّا لكبار الجواسيس من مختلف الدول العظمى وبارونات المخدرات الدوليين والمحليين. لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر على شكري كونه كان عرّاف طنجة، ومفتاح حاراتها وأزقتها للوافدين الجدد والغرباء عن المدينة، بعيدا قليلا عن جعجعة "سور المعكازين" وضوضاء "سوق برّا" وعراك "سوق الداخل" الذي لا ينتهي، وكانت طنجة تتعصّى أن تبوح لأحد غيره بكل أسرارها.
كان شكري يمتلك من الصفات والملامح، ما يؤهله لأن يكون واحدا من الثلاثة: مُمثلا مشهورا، كاتبا عالميا أو بارون مخدرات، فشل في اثنتين ونجح في واحدة. وقد سبق له أن صاحب بعض المخرجين ونجوما عالميين، رافق البعض منهم، وامتنع عنه آخرون، في زيارتهم المتكرّرة إلى طنجة، أذكر هنا: فان دام، بريجيت باردو، وارنر فاسبندر، برناردو بيرتولوتشي، تينسي ويليامز، إليزابيث تايلور، أنطوني كوين، إيرين باباس، أوليفير ستون، فرانسيس فورد كوبولا...وغيرهم.
كما كان دائما توّاقا إلى اللقاء بكبار الكتاب والشعراء والتشكيليين والمفكرين المرموقين من المغاربة والعرب والعجم على السواء عند حلولهم بالمدينة، التقى ببعضهم، وفشل في الوصول إلى آخرين، أذكر من بينهم هنا: هنري ماتيس، سانغور، بول بولز، محمد خير الدين، لويس أراغون، سعدي يوسف، برنارد ويليامز، جان جينيه، سركون بولص، تينيسي وليامز ومحمد السرغيني، الذي قال لي يوما أن شكري كان شديد الحرص على اللقاء به، كلما حل بمدينة طنجة والاستماع إليه، كما أن صمويل بيكيت شوهد بدوره معه في أكثر من صورة بسواحل المدينة وحاناتها.
محمد شكري، كما هو معروف عنه، لم يدخل المدرسة في سنّ مبكرة، وبالتالي لم يتعلم القراءة إلا في عقده الثاني، ولكنه في المقابل، كان داهية يمتلك من الملامح ما يؤهله لأن يكون ممثلا عالميا، والاحتكاك اليومي بمختلف أصناف الناس، متسكعا أو مرشدا سياحيا، بائع خمور وسجائر بالتقسيط، ماسح أحذية ومُمارسا لأعمال أخرى، أكسبه شطارة وذكاء فريدين، وأهلته حتى أن يصبح بارون مخدرات دولي مشهور. ولكنه تصالح مع نفسه، واختار الطريق الأصلح والأنسب، ارتضى لنفسه أن يكون كاتبا واضحا وفاضحا، ووصل إلى العالمية، بغض النظر عن محتوى أو مستوى تعليمه وأسلوبه في التعبير والكتابة. وهذا الاختيار هو الآخر، فرضته عليه أعباء عوالم سفلية أخرى، إذ أن شكري لم يكن يمتلك زمام قواعد اللغة العربية الصارمة، ولذلك ظل مرتبطا ببؤس الواقع المعيش. كان بسيطا في حياته، وانعكس ذلك على كتاباته وحواراته، وكان أقل كثافة في التعبير عن صوره الشعرية، ولذلك لم تكن شخصياته الروائية ولا أحداث رواياته معقدة، بل جاءت كما هي في الحياة، واضحة فاضحة في واقعها. ومع ذلك، كان أكثر شطارة من بعض المتعلمين والشعراء المرموقين والفلاسفة والمفكرين.
محمد شكري اختار أن يكون واضحا منذ البداية، كتب بما يمتلكه من تقنيات وأدوات، ونجح في أن يكون روائيا مغربيا مختلفا إلى أبعد الحدود، ولا أحد يستطيع أن يلومه على الطريقة التي كتب بها أعماله. حفر اسمه الأدبي الخاص بإزميل حاد في الزمن الصعب، وأصبح واحدا من أشهر الكتاب العالميين، تتهافت عليه كبريات البرامج الأدبية للظفر بحوارات معه في القنوات العالمية المشهورة، وتراوده دور النشر العالمية عن نفسه كي يقبل بترجمة كتبه إلى اللغات الحية. هكذا وصل مؤلف رواية "الخبز الحافي" بمجهود أقل إلى العالمية، مرتبة تمنّى الكثيرون من الأدباء والشعراء والمفكرين المغاربة والعرب الوصول إليها، ولكنهم لم يصلوا، سواء من المُعَرّبين أو المُفرنَسين.
قال لي الصديق القاص والفيلسوف الصامت عبد السلام الجباري، وهو واحد من رفاقه وأحد المقرّبين منه، أن طبيب شكري واجهه يوما بقسوة زائدة، وقد رأى أن المرض قد أخذ منه مأخذه، فقال له:
- لو دخّنت سيجارة واحدة بعد اليوم، لن أضمن لك البقاء يوما آخر بيننا...!!
وإذا بشكري يرد عليه، بما في داخله، في تحدي المنهزم وكبريائه:
- وأنا، لا أريد من هذه الدنيا غير الرّحيل...!!
رحل محمد شكري عن دنيانا في صمت، دون أن يودعه أحد من دعاة "الأخلاقية"، ولكن بقي صداه يتردد بيننا إلى اليوم، ويطرح أسئلة في زمن الأخطاء. ومهرجان "ثويزا" الذي حمل هذه السنة عنوان: "شكري...اللاأخلاقي" في طنجة، كان خطأ آخر، انضاف إلى أخطاء أخرى، في زمن تكاثرت فيه الأخطاء...!!
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان أحمد عزمي ينشر كلمات مؤثرة: «أبحث عن فرصة عمل»
.. رحيل إلياس خوري.. صاحب رواية باب الشمس.. المخرج يسري نصر الل
.. كل الزوايا - المخرج يسري نصر الله يروي كواليس فيلم باب الشمس
.. ما هي الاغنية التي تمنّت نوال الزغبي لو كانت اغنيتها ؟ ??
.. بايدن يمازح الممثلة جيسيكا ألبا: هل يمكنك أن تجدي لي عملا؟