الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
من أدب السيرة الذاتية - ق.م سيرة سجين سياسي - للؤي عمران مثالا
عامر موسى الشيخ
شاعر وكاتب
(Amer Mousa Alsheik)
2024 / 8 / 13
أوراق كتبت في وعن السجن
• مدخل
إنّ السيرة الذاتيَّة بشكلها العام تمثل نمطاً كتابيّاً نوعيّاً متفرّعاً من جنس النثر- السرد- ، فهي مدوَّنةٌ سرديَّةٌ تعكس تجربة الأشخاص، وذاكرتهم الذاتيَّة، عبر استحضار التاريخين الشخصي والعام ، المحيط بالشخصي عبر الكتابة، لأنها " نشأت وترعرعت في أحضان التاريخ وتأثَّرت بمفهومات الناس على مرِّ العصور وتشكَّلت بحسب تلك المفهومات" .
شَهِدَ هذا المصطلح ( السيرة الذاتيَّة) تعددّاً في تعريفه ولم يوضعْ له حدٌّ نهائيٌّ ، عدَّها بعض من النقّاد بأنَّها " أبرز أشكال كتابة الأنا وأمتنها صلةً بفنِّ السرد، ولعلَّ أشهر التعريفات المُقدَّمة للسيرة الذاتيَّة وأكثرها تداولاً بين الدراسين ذلك الذي قدَّمهُ (فيليب لوجون) : السيرة الذاتيَّة قصَّةٌ ارتداديَّةٌ نثريَّةٌ يروي فيها شخصٌ واقعيٌّ وجوده الخاصَّ مركزاً حديثه في حياته الفرديَّة وبوجهٍ خاصّ في تاريخ شخصيَّتهُ"
سعى لوجون إلى إيجاد توضيحاتٍ تخصُّ هذا الفن ، وعمد" إلى مقارنة السيرة الذاتيَّة بأجناسٍ أدبيَّةٍ قريبةٍ منها كالمذّكرات والسيرة ، والرواية الشخصيَّة، والرواية السيرذاتيَّة ، والقصيدة السير ذاتيَّة ، والرسم الذاتي وانتهى بأنَّ هذه العناصر الأربعة يغيب بعضها في الأجناس الأدبيَّة المحيطة بالسيرة الذاتيَّة ويحضر بعضها الآخر، وهي لا توجد مجتمعةً إلاّ في السيرة الذاتيَّة" .
ضمن هذا التداخل، تكون السيرة الذاتيَّة " نوعاً مستقلّاً يتداخل مع سواه من الأنواع محتفظاً بمزايا خاصَّة، لعلَّ أبرزها حريَّة الأسلوب، إذ لا نجد شكلاً معيَّناً يستوعب (أو يحِّدد) صياغة السيرة وبناءها، لكنَّ مرتكزاتها الأساسيَّة تظلُّ متبلورةً في كونها ميثاقاً بين القارئ الاحتمالي والكاتب، وفي التشديد على فعل كتابتها ذاته ، وعلى إفادتها من الوقائع الماضية لصياغته، برؤية فرديَّة، فهي حصيلة المعاشرة الظاهريَّة للعالم، وإسقاط شعورنا، ووعينا، على أحداثه وأشيائه، وإعادة تقديمها عبر كشف ذاتيٍّ خالص" ، وهذا ما يحيل إلى القول بأنَّ فنَّ السيرة يمثِّل تسجيل الوقائع التاريخيَّة المتَّصلة بالشخصيّات البارزة في تاريخ المجتمعات، لكنَّ التطوّرات التي ترافق الحياة دائماً جعلت من هذا الفنَّ يتَّخذ طريقين في الكتابة كما يشير إلى ذلك الدكتور إحسان عباس: " فكلَّما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع وتعرض أعماله متَّصلة بالأحداث العامَّة أو منعكسةً منها أو متأثِّرةً بها، فإنَّ السيرة -في هذا الوضع- تحقِّق غايةً تاريخيَّة ؛ وكلَّما كانت تجتزئ الفرد وتفصله عن مجتمعه، وتجعله الحقيقة الوحيدة الكبرى، وتنظر إلى كلِّ ما يصدر عنه نظرةٌ مستقلَّة، فإن صلتها بالتاريخ تكون واهية" .
تأسيسا على ما سبق ، وفي ظل الحالة العراقية الراهنة التي شهدت إصدار العديد من النصوص السير ذاتية ، متعددة المشارب ، منها ما هو سياسي ، وأخرى تتحدث عن السجون والمعتقلات ، وغيرها تحاول رصد المتغيرات العراقية عبر الذاتي والشخصي ، فإن هذه النصوص تفتح أبوابا جديدة على دراسة الواقع العراقي عبر ما تم تدوينه في تلك النصوص لأزمان مضت ، فهي نصوص تسعى إلى قول الحقيقة ، بعيدا عن الجهاز الرسمي للدولة الذي في العادة ينتخب تاريخا خاصا به على حساب التواريخ الأخرى ، بحسب تعبير نادر كاظم ، تقترب من التاريخ العام عبر بوابة التاريخ الشخصي ، ورغم الصالة الواهية بينها وبين التاريخ ، إلا أنها تعد سِجلا يدون الأحداث .
إنّ انهيار النظام البعثي في العراق في 9 أبريل نیسان ۲۰۰۳ أسهم في إشهار " العديد من القصص والروايات والمسرحيات والقصائد وأدب المذكرات والسير الذاتية لتكمل رسم صورة المشهد القمعي الذي كان سائداً حينذاك، وما يعتمل في أرواح العراقيين ونفوسهم وأذهانهم" . إذ إنّ الانفتاح الكبير الذي شهده العراق ، كان مفتاحا لفك أقفال سجون الذكريات للتحول إلى نصوص مكتوبة تروي ما جرى على العراقيين ، تسير بموازاة التاريخ الرسمي للدولة إن كان هذا التاريخ كُتب في ظل القمع ، أو في ظل التحرر من القمع .
• التعريف بالكتاب
تأتي هذه المقدمة تأسيسا لقراءة وفحص كتاب ( ق.م سيرة سجين سياسي ) للكاتب السماوي لؤي عمران ، والذي وضع له عنوانا فرعيا ( كي لا يعود دكتاتور ثانيةً ) صدر هذا الكتاب عن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق 2016 ، بوصفه سيرة شخصيا للكتاب ، دون فيها أيامه في سجون الدكتاتور مطلع العقد الثمانيني في القرن العشرين ، صمم غلاف الكتاب الفنان ماجد وروار ، وحاول أن يصنع نصا موازيا لعوالم الكتاب من خلال إعمال الدمج بين صورتين واحدة تمثل غروب الشمس على مسطح مائي مع يدين ممدودتين مسبلتين من خلف قضبان سجن من دون معرفة شخصية السجين ، في إشارة إلى أن السجناء في بلاد العراق إبّان الحكم الدكتاتوري كلهم على هيئة واحدة ، وإن المعتقل هو الإنسان العراقي . وضمّ الكتاب مقدمة بتوقيع الكاتب العراقي نعيم شريف وهو أيضا من السجناء السياسيين فكان عنوان المقدمة " سنتمتر واحد فقط في ضمير العالم " يقدم فيها الكاتب رأيه في مدونة عمران ، لتكون هذه المقدمة هي الأقرب لعوالم الكتاب لأنها أتت ممن خبر سجون الأحكام الثقيلة في معتقلات النظام المرعبة .
يتأسس الكتاب على واحدة من وظائف السيرة الذاتية بوصفها نصا سرديا له وظيفة التحصين ، وهي وظيفة من وظائفها الموكلة إليها في تحصين المجتمع المستقبلي ، من خلال الخبرات المتراكمة لدى كاتب السيرة، بحسب تعبير (جينز بروكميير ) :" إنها، من ناحية، تقوم بفعل تحصين ؛ بمعنى أننا نتمنَّى أن نقدِّم أنفسنا للآخرين (ولأنفسنا) بوصفنا توكيدًا ثقافيًّا نموذجيًّا أو مميزًا بشكل ما. أي أن نقدِّم حالاتنا وأفعالنا المتعمدة في ضوء السيكولوجيا الشعبية المتأصلة في ثقافتنا عمومًا، نضحك على ما هو مضحك مبدئيًّا، ونأسى لما هو محزن مبدئيًّا. ضمن مجموعة المعطيات في الحياة وليست هناك فردية، ليست هناك ذات حديثة فنحن ببساطة مرايا لثقافتنا" .ومن ثم يأتي الحكي في إطار سردي معين يتمثل المحكيات ويعرضها للمتلقي ، إذ أنّ " هدف السرد، إزالة غموض الانحرافات ، ولا يحل السرد هنا مشكلة، إنه يضعها ببساطة بطريقة تجعلها مفهومة. ويفعل ذلك باستدعاء لعبة الحالات السيكولوجية ولعبة الأفعال التي تُرشح حين يتفاعل البشر معًا، ويُنسب هذا لما يمكن توقُّع حدوثه عادةً" . إذ أنّ القرّاء عادة ما يتوقعون نهايات معينة للمحكيات السردية ، وإن لعبة التوقعات في سرود السجناء السياسيين تتأتى تحت عنوان التعذيب القسري للإنسان ، ولكن من دون توقع المشكلات الفرعية التي يتعرض لها الفرد ، ليأتي فعل السرد في السيرة التسجيلية كاشفا عن الخفايا التي عادة ما تكون خارج التوقعات.
توزعت فصول الكتاب في ثلاثة وعشرين موقف وحكاية ، اعتمد الكاتب فيها أسلوب التداخل والانتقاء ، دون الذهاب إلى وصف الذات وتاريخ الميلاد والنشأة والبيت الأول وغيرها من مفاهيم تدوين السير ، إذ أن الكاتب قد حصر اهتمامه بين مفهوم الغربة والسجن ضمن زمن محدد (سنوات السجن) ، ومن خلال هذه المفاهيم يتداخل مع الأزمنة والمواقف والأشخاص ضمن إطار مفهوم السجن السياسي.
إن أولى الملاحظات على هذا الكتاب هو عنوانه المثير ، إذ أنه مركز ومشفّر بطريقة تستهوي المتلقي إلى فكّ أولا شفيرة العنوان (ق.م) ومن ثم معرفة عوالم الكتاب ، يأتي العنوان هنا بوصفه عقدا أوليا بين الكتاب والمتلقي ، إلا الكاتب جعل معرفة ذلك عسيرا نوعا ما ، وهذا العسر يتلاءم مع العسر الذي يصيب السجين السياسي في ظل حكم الدكتاتور ، بعد أن يتصفح المتلقي فصول الكتاب ، سيصل إلى فصل ( القاف المغلق ) لنعرف أن ( ق.م ) هو رمز يتم استعماله بالإشارة إلى عنابر السجن ، والتي تحمل رموزها الخاصة مثل (م1 م2 وم3 ) و ( ق1 ق2 ) والقاف المغلق المرمز له بـ ( ق.م ) .
يسعى هذا العنوان إلى غلق الباب على المتلقي وحبسه مع تلك الذاكرة ، من أجل تحصينه وتغذيته بالذاكرة التاريخية التي تهدف إلى عدم صناعة دكتاتور مرة أخرى ، مثلما أراد الكاتب في عنوانه الفرعي من الكتاب .
في فصله الأول يبدأ الكتاب من لحظة عودة المؤلف في (تشرين الثاني 2003 ) من منفاه الاختياري الولايات المتحدة الأمريكية ، عقب سقوط النظام البعثي في (نيسان 2003 ) ومن ثم يصف رحلته من مطار (بورتلاند) إلى عمّان وقصة تعرفه في تلك الرحلة على المواطن الأمريكي من أصل عراقي المنحدر من محافظة الديوانية صيهود ، والذي مصيره كان يتشابه مع مصير كاتب السيرة ، والذي قام باصطحابه إلى الديوانية وضيّفه في بيته ، لأنّ وصولهم كان ليلا بعد رحلة طويلة امتدت من عمان إلى العراق ، وهو الأمر الذي يجعل الوصول إلى السماوة مستحيلا في ذلك الزمن بسبب سوء الأوضاع الأمنية ، مرّت تلك الليلة طويلة وثقيلة ، لأنها الفاصلة بينه وبين اللقاء بأهله . صباحا مر زمن الساعة في الطريق وهي مدة الوقت بين السماوة والديوانية ، إلى أن وصل إلى بيت أهله بالاستعانة بأحد أصحاب المحال لأنه لا يعرف بالدقة أين يقع بيتهم ، إذ المدة الزمنية التي قضاها مهاجرا تمتد من 1991 إلى 2003 وهي مدة زمنية كفيلة بحدوث تغيرات معينة في الأمكنة وفقدان جزء من الذاكرة ، إلا أن لؤي كان قد عرف المنطقة ، وعرف الشارع ، وعرف البيت من صاحب دكان في الشارع " صباحا أستاجرت سيارة وتوجهت إلى السماوة ما هي إلا ساعة وإذا بي على مشارفها، هنا كانت كل أشيائي في هذه المدينة ، عرفتهم والآن عرفت أن بعضهم رحل تاركاً لنا ذكريات نقتات عليها والبعض الاخر تمنيت ان أراهم ثانية دخلنا حيّ أم العصافير، لم أكن أعرف أين يقع بيتنا ولكني أتذكر موقع الأرض التي بنيَ عليها البيت فطلبت من السائق أن يتوقف في مكان ما في وسط أم العصافير وهو أحد الأحياء السكنية في السماوة و قلت له أن بيتنا هو أحد البيوت في هذا المربع ولكن أيهم لا أعلم فسألت بقال المنطقة عن بيتنا فقال: إنهم ينتظرونك منذ يوم الأمس ولكنك لم تأت أهلا بك في بلدك وأشار بإصبعه الى بيتنا و قال انه البيت الأخير في ذاك الشارع، تركته دون أن أشكره " .
دخل إلى البيت وشاهد أطفالا وصبية يلعبون بالباحة ولدوا في زمن هجرته ، ليدخل على أشقائه وشقيقاته ، ليفتحوا له ممرا للجلوس عند أمه ، التي ما إن انتهت من السلام حتى باغتته بسؤال ( هم تعرف وين أخوك زهير ) ؟! ، ويجيب صاحب المذكرات عن هذا السؤال بأنه كان على علم مسبق بأن شقيقه زهير قد استشهد في معركة بشتاشان 1983 التي وقعت في كوردستان العراق التي راح ضحيتها المئات من رجال حركة الأنصار المناهضة لحكم البعث في العراق .
ثمة مدخل تفتحه لنا خطوط هذه السيرة يفضي إلى أسئلة عن مصير الإنسان الذي يتبنى فكرة ما يعارض فيها السلطة ، من ثم ينتقل هذا الفكر إلى سائر أفراد الأسرة و إلى شرائح من المجتمع ، ما الذي سيكون عليه مصير هؤلاء في بلد مثل العراق المحكوم بحديد الدكتاتور؟ من سوف يتوقع المآسي التي سوف تقع على كل رأس فكّرَ بفكرة لا تلائم فكر النظام الحاكم ؟ وحده سؤال الأم كان بمثابة إدانة كبرى بوجه النظام والواقع والحياة ، عشرون سنة أو يزيد تنتظر هذه الأم عودة أولادها من دون معرفة مصيرهم ، يأتي إليها واحد منهم بعد حفنة من الوجع والسنوات لم يستطع فيها إلقاء النظرة الأخيرة على أبيه قبل وفاته ، ليكتفي برؤية صورة معلقة على جدران صالة البيت ممهورة بعبارة ( المرحوم عمران موسى توفي سنة 1996) وشقيق آخر استشهد ومات وضاع من دون شاهدة قبر أو معرفة شيء عنه ، تتحول الأم هنا إلى مركز يتقاطع فيه الهم الساحق والفقد والمدمر .
في صورة الأم وولدها الذي جثى على ركبتيه أمامها يُختصر زمن السحق الإنساني الذي مارسه الدكتاتور وأجهزته القمعية على الإنسان العراقي ، وإقدامه على فعل الإجرام القسري الذي تمارسه السلطة ضد أبناء البلد .
يختم الفصل الأول الموسوم بـ "عودة" بخطاب موجه إلى صورة الشقيق المفقود الشهيد المعلقة على الجدار :" وجدت نفسي أحدثه من خلال صورته لا عليك يا أخي فلو لم تستشهد في كردستان لساقوك إلى العذاب أما لحروبهم الغبيه او ولتبدأ مشوار عذاب كما بدأ الآخرون مشوارهم من (جوّه الدرج)" .
• عوالم الرعب
بُنيَ الكاتب على تقنية ( الفلاش باك ) العودة بالزمن إلى الوراء واستذكار الأحداث التي تعرض لها الكاتب من لحظة اعتقاله ومسلسل التعذيب الجسدي ، ومن ثم الحكم عليه بالسجن إلى لحظة نهاية المحكومية والتحرر من رهان السجن .
وَسَم المؤلف فصول كتابه بعنوانات من وحي قصص الفصول إذ ينطلق الفصل الثاني بعنوان ( جوّه الدرج ) ينطلق هذا الفصل بوصف العلاقة المتشنجة بين حزب البعث العربي الاشتراكي –الحزب الحاكم – والحزب الشيوعي العراقي الذي كان ينتمي إليه المؤلف ، ونهاية الجبهة الوطنية التي عقدت في 1973 بين الحزبين ، إلا أن الأول نكث المواثيق ، وضربها ومن ثم ضرب منافسه الحزب الشيوعي العراقي أشد وأعنف ضربة " من جانبه قام الحزب الحاكم بإصدار قوانين تحرم التنظيمات غير البعثية في القوات المسلحة ، وأصدرت قوانين أخرى تحكم بالإعدام على أي عسكري في كافة صنوف القوات المسلحة يثبت عليه انتماءه أو تعاونه مع أي تنظيم غير بعثي. ولم يحرك الحزب الشيوعي ساكناً, بل جمد عمل أعضائه الذين يساقون إلى الخدمة العسكرية، فكانت هذه الخطوة تمثل طعنة رمح قاتلة في جسد ذلك التحالف الهش أساساً" ، إلا أنّ شباب تلك المرحلة الممتلئ حماسة وقوة وأحلام آثر على أن يعيد تنظيمه وتحدي السلطة بشكل صريح ، يشير الكاتب إلى ذلك " لم تتجاوز أعمارنا السادسة عشرة ، كنّا أكثر غضباً من قيادات الحزب التي كانت دائماً تتكئ على وعود العمل البرلماني الديمقراطي المتفق عليه [...] لم نستسلم لهم نحن مجموعة من شباب السماوة فقد أعدنا تنظيم الحزب بعد عام من الضربة حالما حصلنا على فرصة مناسبة وبدأنا نعمل بطريقة بدائية حيث كتابة المنشورات وتوزيعها ونشر الجريدة السرية للحزب ، والاجتماعات الدورية ، جمع التبرعات ، ومحاولة كسب عدد من العناصر للحزب. كنا نعمل بإخلاص كبير بحدود معرفتنا وقدرتنا على العمل الحزبي التنظيمي وقد دفعنا عنفوان الشباب إلى كسب عدد من العسكريين, ولو لم ننجح في إخفاء أسماء العسكريين لحصلت مجزره كبيرة في السماوة ، لكن الله كان لنا عوناً عندما كُشف أمرنا عن طريق كشف أحد التنظيمات في بغداد" .
يفرش لنا السياق أعلاه صورة شبه متكاملة عن واقع الأوضاع الأمينة في العقد السبعيني من القرن العشرين ، من وجهة نظر شاب نشط سياسيا وهو في السادسة عشرة من عمره ، واعتقل وهو في التاسعة عشر ، إنها وجهة نظر حالمة وواثقة من النهايات الحتمية التي رسمها مسار الحلم الشاب ، لكن هذه الأحلام سرعان ما تبددت لحظة الاعتقال لتتبدل الأحلام إلى كوابيس تبدأ ولا تنتهي ، إذ طُرق باب البيت ومن بعد هذا الطرق تبدأ رحلة المجهول " الساعة حوالي الحادية عشرة صباحا كنت أراقب التلفزيون منتظرا نتائج الامتحانات الوزارية وصوت أخي الصغير ينادي "جماعتك بالباب يردوك" رجلان لهم من الوجوه ما لا يبعث في النفس التفاؤل كانا بارعين بعكس وجوه مخيفه قال احدهم نحن بحاجة لك في المديرية لدقيقتين لأمر بسيط ما عليك إلا أن تصغي وتطيع وإلا ....... دعوني أرتدي ملابسي لا داعي لذلك ننصحك بعدم الحركة وإلا ستكون عائلتك الهدف القادم همست مع نفسي لا تقلقوا لا أحد منا يريد لعائلته أن تكون هدفا لكم. بدأ المسير نحو المجهول كانوا اثنين وبعد ثوان أصبحوا أربعة و عند الوصول إلى السيارة اللاندروفر رصاصية اللون أصبحوا عشره مدججين بالسلاح" .
إن لحظة الاعتقال تمثل نقطة لبداية جديدة غير معلومة النهاية ، فضلا عن أنها تقدم صورة متكاملة عن واقع أجهزة السلطة الأمنية القمعية ، والتي لا تأبه لأعمار المعتقلين الشابة ، أو التفكير برعايتهم رعاية إنسانية تمكنهم من العيش بكرامة ، لكنّ الذي جرى على العكس من ذلك تماما ، إذ أن الشاب لؤي عمران أبن التاسعة عشر ، قد أنتهى به الأمر إلى أن يكون مثل كومة خردة تحت سلم دائرة الأمن وهو ما اصطلح عليه ( جوه الدرج ) " أدخلوني صرخ احدهم في وجهي أبو ........... السيد الرئيس يشرفكم امشي ولي روح جوه الدرج من جوه الدرج كانت البداية لرحلة المجهول التي نعلم بدايتها ولا يعلم إلا الله نهايتها " .
كانت هذه هي نقطة الشروع برحلة العذابات الطويلة التي تعرض لها صاحب السيرة ، والتي تمثل صورة متكاملة عن حالات أخرى مشابهة تعرض لها أعضاء حزبه والأحزاب الأخرى التي قارعت النظام ، والتي وصل عدد معتقليها إلى عشرات الآلاف من أنباء الشعب العراقي شرقه وغربه ، جنوبه وشماله .
تتحول هنا ذات الكاتب إلى ذات راوية عن مجمل العذابات التي كانت تمارس في دوائر الأمن العامة الممتدة على خريطة البلاد ، أجهزة تتولد منها أجهزة أخرى بهدف واحد عام ، هو مراقبة كل نشاط يخالف هوى ومزاج الدولة وحزبها الحاكم دون النظر إلى هوية المعتقل وعمره وجنسه ، أو انسانيته ، ليتحول إلى رقم في المعتقلات ، و كانت هذه الأرقام تمثل بابا من أبواب الراحة للنظام " في هذه المديرية اعتاد المنتسبون أن تكون حياتهم مختلفة ،فليس غريباً أن يستمعوا إلى امرأة تبكي من ألم التعذيب وأخرى تتوسل عند الباب ترجو خبراً أو كلمة عن ابن لها قد اختفى أو زوج قد تم اعتقاله. تجد البعض منهم يتناول فطوره فيما يقوم آخرون بالتحقيق (التعذيب) مع معتقل آخر فيستمر الجميع بممارسة نشاطاتهم وهم يستمعون إلى امرأة تتأوه وكأنّ أمراً لم يكن. لقد حولهم هذا المسلك إلى مخلوقات لا صفة لها" .
• الجسد المُعذّب
إنّ المطْلع على التاريخ السياسي للعراق الحديث ، سوف يطالع في صحائفه تاريخا طويلا من القمع والتعذيب والتشريد والتهجير ، فما تأتي حكومة إلا وقمعت معارضيها ، لتأتي بعدها أخرى لتمارس الفعل ذاته على أفراد لديهم هوى المعارضة ، وفي هذه المواجهة يتحول الجسد العراقي إلى مساحة لممارسة لعبة التشفي والتنكيل والانتهاك ، إذ إن "الأحزاب العراقية التي تصل إلى سدة الحكم كانت تفترس ضحاياها بطريقة وحشية ضمن كرنفالات شعبية مدروسة أفضت إلى تشوه روحي ، وعماء فكري شبه مستديم ، وإن النظام الشمولي لصدام وحزبه القومي قد قتل وغيب الآلاف في سجونه وبعضهم مات تحت التعذيب في الحقبتين الأولى والثانية " .
يدخل بنا عمران إلى أقبية الأمن ويعرض لنا طرق التحقيق والمسميات التي يطلقوها على أماكنهم ولغتهم وأساليبهم الترويعية " رن الهاتف ، رفع السماعة، رد بعد صمت: نعم سيدي، موجود سيدي ، أؤكد لك سيدي ، سوف نريهم ما لم يره إنسان من قبل أن لدينا صلاحيات من السيد الرئيس نقتل أثناء التحقيق (التعذيب) المهم سيدي أن الثورة و منجزاتها تستمر وإن فلسطين لا بد لها أن تتحرر وأن أوامر القيادة ستنفذ بحذافيرها وسنرسل هؤلاء العملاء الخونة إلى مزبلة التاريخ. تأمر سيدي, تأمر سيدي, مع السلامة. أغلق سماعة الهاتف, والتفت لي قائلاً: ( أسمعت ولك شيكول السيد المدير, والله لأسلخ جلدك, جيببوا للمسلخ" .
يتحول الجسد المُكرّم من الله تعالى بالخلق والتجسيد وبث الروح فيه إلى لعبة رخيصة بيد السلطة ولقمة سائغة في فمها ، ومن ثم إلى مساحة لتطبيق شعارات الحكم وتنفيذ وصايا الرئيس ومبادئ الثورة ، كل ذلك سيلتقي في الجسد المعذّب ، الذي ستحول تعذيبه إلى مكافأة مالية ، يبدأ الكاتب المعتقل بالتوقعات التي ستجري " يبدو إنهم سيسلخون جلدي. صرخ بهم: ( جيبوه وراي للمسلخ ) هبوا فرحين ففريستهم بين أيديهم وستكون فرصتهم لملء فراغ نفوسهم العطشى لسماع أصوات التعذيب وصرخات الموت وأنها فرصة كبيرة لهم لكسب الحوافز المالية فأصدروا لي أمراً بالذهاب إلى المسلخ حيث لم أكن على علم ما هو المسلخ!"
يرسم لنا الكاتب وبطريقة بؤرية مشهدا كاملا لصورة المسلخ – السجن – إذ تتحول ذاته إلى ذات شارحة بشكل تفصيلي لتلك النقطة المظلمة من الأرض التي ضاقت بجسده ، ولم تمنحه فرصة بالتفكير أو الشعور بأنه حي يعيش مثل باقي البشر " الأرض مغطاة بقطرات الدم, والجدران مطلية باللون الأسود. من السقف تتدلى سلاسل حديدية ومن حمالة المروحة تتدلى قيود فولاذية. وعدد من الأنابيب البلاستيكية والهراوات الخشبية منتشرة هنا وهناك في أرجاء الغرفة. مقاعد مدرسية, وعمود خشبي مربوط ببعض الحبال, يشكلان الآلة التي تستخدم بما يسمى الفلقة. عدد من الشبابيك الصغيرة في وسط الجدران, تظهر منها واجهات لأجهزة كهربائية. عرفت فيما بعد أنها مصنوعة في ألمانيا!! لأغراض التعذيب. الجدران مليئة بالصور المرعبة, وأصوات لصراخ وعويل مصدرهما غير معلوم. يبدو أنهم بارعون و مبدعون في تسهيل التعذيب على أنفسهم وجعله لا يحتمل على ضحاياهم" .
تكشف السلطة هنا عن وحشيتها المطلقة ، فإذا كانت وحشيتها خارج السجن مقننة نوعا ما ، فهنا تنفلت تحت ذريعة القانون الذي سمح لها بأن تمارس أبشع صور انتهاك الإنسان ، هنا في هذا المكان غير الموصوف ينتهي كل شيء ، ويتحول الإنسان إلى لعبة لحمية كبيرة يتمتع به رجال السلطة " شدوا وثاقي إلى الخلف رفعوني إلى الأعلى والضرب ينهال والإهانات تأتي إلى مسامعي من كل جهة عيناي معصوبتان والكل يصرخ أو يحدث صوتاً مدوياً حتى أصبح المسلخ مكانا لا صفة واحدة له ولا استطيع أن أجد تسميه تكون وافية لوصف المكان. بعدها أحسست أن يديّ قد أدخلتا في القيد الحديدي. تركت لأتدلى وبدأ حفلهم البغيض الضرب من كل الجهات ، الأصوات لا نعرف مصدرها نساء تتأوه ورجال يصرخون. بدت لي الأشياء و كأنها تدور حول نفسها, وأدور انا معها. بدأت أشعر بدوار يأخذني بعيداً حاولت عبثاً أن أكون على الأرض ولكن الجاذبية ، حتى الجاذبية الأرضية عجزت عن مساعدتي" .
إنها لحظة الالتقاء مع العدم المطلق ، واختلال القوانين ، فالذات الإنسانية هنا قد تعرضت إلى محو شبه تام ، رغم ما يعتريها من بياض ، إلا أن البياض تضاءل تدريجيا أمام ظلام السلطة الحاكمة وأدواتها القمعية.
• ثقب الأمل
إن الواقع الذي يعيشه المسجون – السجين السياسي- خلف القضبان يفرض عليه أن يبني سدا نفسيا كبيرا بينه وبين عالم ما هو خارج الأسوار ، إلا أن إصرار الذات الإنسانية في البحث عن بصيص أمل يجعلها في حلم مستمر وأن تبحث في ذاتها وزمانها ومكانها عن إطلالة لهذا الأمل ولو بنسبة ضئيلة ، حتى يتمكن من أن يقاوم الجور الذي وقع على الذات ، وهذا ما حدث في سجن الخناق إذ أقدم عمران على يلقي بنظرة من ثقب في الحائط على عالم ما خلف القضبان من أجل أن يشاهد ماذا يجري خارج باب المعتقل " ظلام وخوف آلاف الخنافس تهاجمنا ليلاً, كان عددنا ستة معتقلين. كان المكان مراحيض سابقة قذرة, القمل كثير, أكثر من أن نسيطر عليه. كنا لا نعلم شيئاً, عزلة كاملة. أنا ذو التاسعة عشرة ربيعاً أصغرهم سناً. أصر طالب على كسر العزلة محاولاً الاطلاع على شيء ما. فحفر ثقباً قطره أقل من سنتمتر, لنطل من خلاله على العالم. ها نحن نراهم جميعاً, الباحة واسعة, وهم كثيرون, يرتدون زياً بلون زيتوني بدا مخيفاً. الفضول دفعنا لنشارك طالب متعته, علّنا نرى شيئاً. فوضعت عيني اليمنى على ذلك الثقب, الذي مثل عندنا بوابة على الدنيا[ ...] ولكن أعجبتني فكرة أن أراقب من خلال ذلك الثقب [...] . وإذا بي أراها ، كان جميلاً أن أراها، لكن في أقبح مكان، ومع أسوأ ما عرفت نفوسنا من اللابشر. ها هي تأتي تدخل من الباب الرئيسي, تسير ببطء, تقدمت بثبات, تمتلكها رغبة بعدم الاستمرار. عيناها تنظران في كل الاتجاهات, متسائلة خلف أي من الأبواب أنت يا ولدي. وكأنها أسطورة قلب الأم الذي يعلم ما لا تعلمه قلوب الآخرين. فقادتها قدماها نحونا بدأت أحدث زملائي في ذلك المعتقل المقيت ، وعيناي ما زالت ملتصقة بذلك الثقب الصغير[...] أوقفها أحدهم وقلبي توقف معها ، بدأ بسرعة الخفقان وشفتيَ تتمتم ، ما الذي أتى بك يا أمي" .
يرسم لنا هذا الفصل صورتين متباينتين عن عالمين مختلفين تماما ، عالم ما خلف القضبان وعالم آخر ما بعده ، إذ أن صورة الأم في عالم ما بعد القضبان تمثل هنا البعد الحقيقي للحياة ، بوصفها الأم الوالدة ، التي تمنح الحياة أبناءً وتزيد من البشرية ، ومن ثم هي رمز الخصب والنماء والأمل ، وهي هنا تمارس وظيفتها بشكل متكامل ، و دون أن تعلم بأنها قد مدت ابنها بخيط الأمل السحري ومدته إليه عبر الثقب منتصرة على الهيمنة السلطوية القامعة ، يخلق النص السير ذاتي هنا من الأم " شكلا خالدا وأكثر امتدادا من الفحولة " . التي تمثلت بصورة السلطة.
• (ق.م) والسيرة الغيّرية
ترتكز السيرة الذاتية في نمطها الحالي الذي يجتزأ مواقفا محددة من الحياة على ما خبرته ذاكرة المؤلف ، لأنها سيرة تتحدث عن مفهوم السجين السياسي ، الأمر الذي يستدعي الحديث عن ( السيرة الغيّريّة ) بمفهومها العام من خلال استحضار رفاق السجن ، بهدف ترصين الحقيقة المذكورة ، فضلا عن هدفها الأول بالحديث عن قمع الإنسان ، لم يقتصر هذا الكتاب الحديث عن الذاتية الشخصية بوصفها فرداً تعرَض للعنف السياسي والقهر السلطوي ، أوعن المعتقلين اليساريين ، زملاء الكاتب وأصدقائه في الفكر ، بل أنه راح يستعرض مواقف وقصص أخرى لمعتقلين آخرين غير منتمين و آخرين تعرّضوا للقمع في حقبة الثمانينيات وهم من المنتمين إلى الحركة الإسلامية، وهذه الأخيرة قد نالت ما نالت من أقساط العذاب والتنكيل والقمع والقتل والمحو التام ، يطالعنا الكتاب عن قصة " إبراهيم دوخي " الطالب في كلية الهندسة الجامعة التكنلوجية ، الذي تبدأ قصته من اعتقال عائلته ، وعامل أبيه الذي كان يروم أخذ أجرته عند باب بيتهم، وفي تلك الليلة وجد هؤلاء أنفسهم في المعتقل ، ريثما يتم اعتقال إبراهيم المتهم بالانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية " وأخيراً وصلت المفرزة المكلفة باعتقال إبراهيم إلى أمن السماوة برفقة إبراهيم وأدخلوه (جوه الدرج) وأطلقوا سراح عائلته بمكرمة من القائد بعدما مارسوا معهم أقسى أنواع التعذيب ليلة كاملة نحن في النظارة نعد الأيام سلباً أو إيجاباً وعندما تكون خفارتهم ليلاً يحاولون التسلية باضطهادنا لتكون خفارتهم أكثر سهولة وأسرع. في تلك الليلة المظلمة بدأوا حفلهم البغيض مع إبراهيم. من سماع أصوات الألم الذي لا يطاق عرفنا أن المدعو إبراهيم يواجه ما واجهنا قبله. الليل كل الليل تبادلوا على إبراهيم الأدوار جربوا فيه كل أنواع التعذيب حتى فقد القدرة على المشي فتركوه إلى حين بيننا في النظارة. كنت أحاول مساعدته باستخدام قليل من الزبد وتدليك أطرافه ولكن ماذا نستطيع أن نفعل له في مكان كالنظارة. بعد عدة أيام بدأ إبراهيم يتحسن ببطء سألته: من أنت و ماذا يجري. نظر لي بريبة، وهذا طبيعي وأجابني بسؤال: ( أنت ليش هنا)؟. فقلت: أنا معتقل كوني عضوا في الحزب الشيوعي"
في السجن يلتقي الضحايا بمصيرهم المجهول ، فتنفتح الأسارير للحديث عن أسباب التواجد في المعتقل ، وتتفرع الأسئلة إلى أسئلة أخرى ، يجيب إبراهيم عن سبب وجوده هنا " أنا لا علاقة لي بأي حزب سياسي, كل ما في الأمر أن جاراً لنا كان ماشياً بجانب بيتنا فسمع من الشباك المطل على الشارع أن في بيتنا من ينصت إلى إذاعة إيران ولأنه يعرفني متدينا فكتب عني تقريراً إلى أسياده وعندما هاجموا بيتنا وجدوا قصائد و كاسيتات للشعر تدين النظام ومنها قصائدَ حسينية. فأجبته: وعليه لا بد أن تكون في حزب الدعوة ، فوجب التحقيق معك واعتبروك صيداً ثميناً " .
لاتقف عجلة القمع لدى السلطة عن دوران في رصد تحركات وأنفاس الناس في البلاد ، فكل شيء محسوب ولكل شيء ثمن وحساب وعذاب ، وفي قصة (موسى محي حمادي) الكربلائي موظف المكتبة العامة في السماوة ، نجد أن لفظ كلمة سيد كانت كفيلة بأن تؤدي به إلى الاعتقال ومن ثم إلى الإعدام ، لأنه أجاب (أبو منى ) المصري الذي كان شريكه بالسكن المستأجر في إحدى فنادق السماوة ، عن رأيه فيما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية عن الحرب العراقية الإيرانية ، فأجاب محيي أن الإذاعة قالت : " أن السيد الخميني يطلب من العرب أن يغيروا سياستهم النفطية"، في صبيحة اليوم التالي تغيرت حياة موسى محيي رأسا على عقب " في المكتبة العامة جاء شخص يرتدي بزة مدنية (سفاري), التي يلبسها عادة رجال الحزب والأمن السري. وبادره بالسؤال: حضرتك السيد موسى محي؟. فأجاب: نعم أنا موسى من أنتم؟. (تفضل ويانه، شغلة بسيطة بالمديرية ، وننصحك بعدم فعل شيء امشِ بأدب أحسن لك). لم يفهم موسى شيئاً بدأ يتساءل ، يبحث في خزين ذاكرته ما الذي فعله؟. لم افعل شيئاً, أنا رجل مسالم ، ولا علاقة لي بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد. فبادر بالكلام: (يابه أخاف انتم مشتبهين ، شنو شكو)؟. أجابه قائد المفرزة المكلفة باعتقاله بحدّة: ( انجب لا تحجي توصل و تعرف). وعند وصوله إلى المديرية، كان الجميع بانتظار الصيد السمين ، الذي سيدلي بمعلومات خطيرة، تجعل أداءهم أمام أسيادهم مميزاً ، وتكون حوافزهم المالية كبيرة. وكالمعتاد قالوا له: (روح جوه الدرج)" .
يستمر الكاتب بعرض قصة موسى محي البريء تماما من أيّ تهمة، وصولا إلى دورة الزمان التي لحقت بالكاتب و السؤال بعد سنوات عنه في مبنى المكتبة ، ليعرف بأنه قد أعدم!.
يقدم فعل السرد الذاتي هنا شواهده الدامغة في إدانة السلطة وأساليبها القمعية تجاه الإنسان ، وتعرية النظام الحاكم ، " وهذا يعني بشكل واقعي أن العراق كوطن ليس غير سجن كبير وإن فعل المراقبة، والترصد، والتربص، وإحصاء أنفاس الآخرين هي من المظاهر المرعبة التي انتشرت خلال سنوات الحكم الدكتاتوري" .
ثمة شخصيات أخرى تناولها الكتاب في متنه عارضا لها بشكل عام ، مثلا الرفاق الأصدقاء ، معارف المنطقة ، وآخرين غرباء ، فضلا عن مشاهد زيارات أهله ومتابعتهم له في السجون والمعتقلات بين السماوة وبغداد ، ومن ثم محكمة الثورة ، عارضا لكل تفصيلات السجون التي مرّ بها إلى لحظة الإفراج عنه ولقائه بعائلته التي جرت تحت رقابة مشددة من قبل الأجهزة الأمنية .
كان هذا الكتاب حريصا أمينا ، على نقل الأحلام والطموح والطاقة الثورية لدى شاب لم يبلغ التاسعة عشر من عمره ، يستدرج لؤي المتلقي إلى مشاهد التعذيب في السجون العراقية ، ولحظات الاعتقال ؛ وكذلك (آلية تشهي الدولة ) باعتقال من يظنون انه يمارس نشاطا ضد الدولة ؛ ولو بقراءة صحيفة او أداء الصلاة في احدى الجوامع !.
إن السيرة الذاتية -الشخصية – أتت بوصفها سيرة منفتحة على وقائع عراقية وتاريخ حرج مر على هذه البلاد ، فكان الشباب يمضون بخطين متوازيين ، إما إلى الحرب والموت فيها ، وإما إلى السجون والتعذيب والموت أيضا .
ثمة تفصيلة أخرى كانت شاخصة بهذا الكتاب : وهي عملية رصد أحوال العائلات العراقية في ما بعد الاعتقال ، وأيضا حال المعتقل الذي هو شقيق لنشاط سياسي قطعت اخباره، وهذا وحده يمثل واحدة من أسباب الدمار لأي فرد عراقي ، أيضا ثمة مسافة أخرى بين النص وتلقيه ، إذ أنّ لغته كانت صادقة جدا و يمكن للمتلقي من خلالها أنّ يتخيل الوقيعة وما كان يحدث، لكن تبقى بين الكتابة والأحداث الحقيقة مسافة كبيرة قاصرة على الايصال ؛ لكن "ق.م " كان حريصا على ذكر الوقيعة والحوادث كما هي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• الهوامش
إحسان عباس ، فن السيرة ، دار الصادر بيروت ، دار الشروق عمان ، ط1 ، 1996 ، ص 10 و 11 .
معجم السرديات ، نخبة من المؤلفين ، اشراف محمد القاضي ، الوطنية الدولية ناشرين مستقلين ، ط1 ، 2010 م ص 260 .
محمد القاضي ، نفسه ، ص 261 .
حاتم الصكر ، كتابة الذات دراسة في وقائعية الشعر ، دار الشروق ، عمان الأردن ، ط1 ، 1994 ، ص 194 و ص 195 .
احسان عباس ، فن السيرة ، السابق ، 12
عدنان حسين احمد ، أدب السجون خلال سنوات الحكم الدكتاتوري في العراق ، دراسة نقدية تطبيقية ، دار الحكمة لندن ، 2014 ، ص 22.
جينز بروكميير ودونال كربو ، السرد والهوية دراسات في السيرة الذاتية والذات والثقافة ، ترجمة : عبد المقصود عبد الكريم ، مؤسسة هنداوي ، مصر ، 2024، ص40.
جينز بروكميير ، نفسه ، ص 41 .
لؤي عمران ، ق.م سيرة سجين سياي ، دار تموز ، دمشق ، 2016 ، ص 20
لؤي عمران ، نفسه ص21 .
لؤي عمران ، نفسه ، 24 .
لؤي عمران ، ص 24و25 .
لؤي عمران ، ص 26.
لؤي عمران ، ص ، نفسها .
لؤي عمران ، ص 29 .
عدنان حسين أحمد ، السابق ، ص 122 .
لؤي عمران ، ص 30 .
لؤي عمران ، ص 30و31 .
لؤي عمران ، ص 33.
لؤي عمران ، 34 .
لؤي عمران ، ص 75و76 .
لطيفة لبصير ، الجنس الملتبس السيرة الذاتية النسائية ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2018 ، ص 189 .
لؤي عمران ، ص52 .
لؤي عمران ، ص 53 .
لؤي عمران ، ص 56 .
عدنان حسين ، السابق ، ص 182 .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. أبو عبيدة: ملف الأسرى والتبادل بيد حكومة نتنياهو ونؤكد أن حا
.. انتقاد آخر من ترمب للمهاجرين: -يجلبون جينات سيئة إلى أميركا.
.. معاناة النازحين السودانيين بأوغندا
.. تحرك بالكنيست لمصادرة أموال وممتلكات -الأونروا- في إسرائيل و
.. ألمانيا.. اعتداء على متضامن مع فلسطين من ذوي الاحتياجات الخا