الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
(أدبُ الرّسائل، فنٌ معاصرٌ يتخطى حدودَ المسافاتِ ويتسعُ باتساعِ اللغة)
شذى كامل خليل
كاتبة
(Shaza Kamel Khalil)
2024 / 8 / 15
الادب والفن
أن تكونَ مناضلاً في زمنٍ ألهبتهُ الثَّوراتُ العربيةُ، وألهمَهُ النّضالُ المُستمرُ تحتَ رايةِ (الحرية والتخلص من التبعية الاستعمارية).
أن تكونَ نداً صارماً لعالمٍ وحشيٍّ غارقٍ في جرائمِهِ ضدَ الإنسانيةِ، يعني أن تبني مسيرةً نضاليةً حافلةً بالتحركِ والمضي نحوَ الأمامِ، رافضاً كلَّ ما قد يؤثرُ سلباً على تلكَ المسيرةِ.
عندما يولدُ الإنسانُ وقد أورثَتهُ الحياةُ الوطنيةُ قضيةً عميقةَ الجذورِ مُلتهبةَ المعاني، حادةً كالسيفِ، صامدةً كشجرةِ الزّيتونِ، فإنهُ غالباً ما يكونُ صنديداً كحافةِ الهاوية وكالسقوطِ وكالقاعِ؛ إنما بطريقةٍ إيجابيةٍ، فإن السقوطَ والقاعَ موازيانِ للصعودِ من جديدٍ والبدء والاستمرار.
هذا ما اعتدنا وجودهُ في شخصيةِ غسان كنفاني الرّجلُ المقاومُ، الرّجلُ الكاتب، الرّجلُ الذي حملَ همَّ بلدٍ بحالهِ.
رصفَ طريقاً طويلاً من النِّضالِ؛ موظفاً كلَّ قدراتهِ في سبيلِ الوصولِ أو حتى الاقتراب.
ولدَ غسان كنفاني في التاسع من نيسان عام 1936م في عكا. كان روائياً وسياسياً بارزاً وعضواً في الجبهةِ الشَّعبية لتحريرِ فلسطين والنَّاطق الرَّسمي باسمها.
تركَ بصمتهُ القوية أدبياً في كتبٍ مثلَ "رجال تحت الشمس" و "عائد إلى حيفا"
نظراً لسلوكهِ النّضالي فقد اضطرَ للتنقلِ المُستمر، بعد إجبارهِ وعائلتهِ على مغادرةِ الأراضي الفلسطينية، فعاشَ بين لبنان ثم سوريا ثم الكويت ليعودَ ويستقر في بيروت. وفي تموز 1972م استشهدَ مع ابنةِ أخته لميس على أيدي عملاءٍ إسرائيليين بتفجيرِ سيارتهِ..
يُعرفُ غسان كنفاني بالمثاليةِ النِّضالية وغيرتهِ الوطنية الشَّديدة.
فما الذي حدث بعد وفاتهِ وتركَ نقاطَ استفهامٍ كثيرةٍ، حول متانةِ تلكَ الشَّخصية القيادية التي ألهمتِ الكثيرَ وأعطَت القوةَ لكثيرٍ من محاولاتِ التَّحررِ الفلسطينية؟
في تموز 1992م أصدَرت غادة السمان الكاتبةُ السُّورية المعروفة؛ كتاباً بعنوان " رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" لتحدثَ ثورتانِ؛ ثقافيةٌ واجتماعيةٌ.
وبينَ مؤيدٍ لخروجِ نوعٍ جريءٍ من أدبِ الرّسائلِ، ومعارضٍ لفضحِ مثل هذهِ الأمورِ الحميميةِ.
كان الجميعُ ـ مؤيدين كانوا أم مُعارضين ـ على شوقٍ لقراءةِ الجَانبِ الآخر، وغير المعروفِ في شخصية كنفاني.
فكيفَ بدا؟
كيف أثَرّت رسائلهُ وأَثرَتِ العالمَ العربيَّ، وصقلَت حدةَ طباعهِ المتزمتة، وفتحَت نوافذهُ المُغلقة منذ الأبدِ؛ كي تخرجَ العصافيرَ والفراشاتِ، فنبدأَ بشكلٍ جديٍّ استقبالَ موجةٍ جديدةٍ من الأدب المعاصرٍ الذي استطاعَ بطريقةٍ سحريةٍ أن يمزقَ قيودَ اللغةِ وقيودَ العادات والتقاليد؟
تبدأُ غادة كتابَها بعبارة / وفاءً لعهدٍ قطعناه/
هذه العبارةُ التي تحملُ اعترافاً ضمنياً بعلاقةِ حبٍ مُتبادلة، شرَّعت لها الكاتبةُ كتاباً بحالهِ وعبرَّت في مقدمتهِ عن أحاسيسَ غضةٍ ونقيةٍ ودفينةٍ تجاهَ الكاتب غسان كنفاني.
الكاتبانِ وجدا في أدبِ الرَّسائلِ؛ وسيلةً منطقيةً ومقبولةً للتعبيرِ عن هذا الحب،
في زمنٍ كان الحبُ فيهِ يُعتبرُ خارجَ المألوفِ وعيباً مرفوضاً، وكانت أخلاقُ الأنثى تُقاوم شغفَ مجاوزةِ المنطقِ في إيجادِ مبررٍ لتخريبِ علاقة رَجل بزوجتهِ، وإن كانت تهيمُ به حباً.
تضيفُ الكاتبة في مقدمةِ كتابها / نعم كان ثمة رجلٌ اسمهُ غسان كنفاني... كانَ لهُ وجهَ طفلٍ وجسدَ عجوزٍ، عينانِ من عسل، وغمازةً جذلةً لطفلٍ مشاكسٍ هاربٍ من مدرسةِ الببغاوات، وجسداً نحيلاً هشاً كالمركبِ المنخورِ عليهِ أن يُعاجله بإبرِ الأنسولينِ، كي لا يتهاوى فجأة تحت ضرباتِ مرضِ السّكريّ؛ هديةَ الطّفولة لصبيٍ حُرمَ من وطنهِ دونما ذنبِ، لم يكن فيه من الخارجِ ما يشبهُ صورةَ البطلِِ التقليدية. ص 5
وتكملُ غادة / ثمةَ ميلٌ في الأدبِ العربيِّ بالذات لرسمِ المناضلِ في صورة السوبرمان ولتحييدهِ أمامَ السِّحر الأنثوي وتنجيتهِ من التجربةِ. ص11
يقول غسان كنفاني في إحدى رسائلهِ غير المُعنونة بتاريخٍ محددٍ شأن باقي الرّسائلِ في الكتابِ، والتي اعتبرَتها غادة أولَ رسالة سطرَّها لها:
إنني أحبك.. أحسُها الآن والألمَ الذي تكرهينهُ ليس أقل ولا أكثرَ مما أمقتهُ أنا، ينخرُ كلّ عظامي، ويزحفُ في مفاصلي مثل دبيبِ الموتِ.. أحسُها الآن والشَّمس تُشرقُ وراءَ التَّلة الجرداءِ مقابل السّتارة التي تقطّع أفقَ شرفتكِ إلى شرائح متطاولةٍ، أحسُها وأنا أتذكرُ أيضاً أنني لم أنم ليلةَ أمس وأنني فُوجئتُ وأنا أنتظرُ الشُّروق على شرفةِ بيتي أنني .. أنا الذي قاومتَ الدُّموع ذات يومٍ وزجرتُها حين كنتُ أُجلدُ. أبكي بحرقةٍ، بمرارةٍ لم أعرفْها حتى أيام الجوعِ الحقيقيّ. ص 15
" إن المسافةَ التي ستسافرينها لن تَحجبكِ عني، لقد بنينا أشياءً كثيرةً معاً لا يمكنُ أن تُغيبها المسافات " ص 17
تشي رسائلُ غسان بالكمِّ الهائلِ من العاطفةِ العربيةِ؛ التي تولدُ في كلِّ كائنٍ عربي ولد وترعرع ضمنَ الشرقِ، مُتشرباً ما أمكنَ من لغةِ التّكتم والسّيطرة على المشاعر، ولذلك فإن خروجَ مثل هذه الرَّسائل التي تَحمل اللمسةَ الأدبية، والتي تُثري رفوفَ المكتبات أينما وجدت؛ هو خروجٌ حقيقي عما هو دارجٌ ويعتبرُ حقيقةً؛ ثورةً كبيرةً في وجهِ الطّغيانِ الذُّكوريّ الذي يمنعُ الرَّجلَ الشَّرقيّ من تصديرِ مشاعرهِ وعواطفهِ نحو أمورٍ أخرى كالحب. ثم يُدفع بهِ نحو خوضِ الحروبِ وتبني القضايا مثلَ أيِّ رجلٍ شرقيٍّ بطباعٍ شرقيةٍ وموروثاتٍ ثقافيةٍ تقليديةٍ تحصرهُ ضمنَ قالبِ الأجداد.
تُعتبر رسائلُ غسان كنفاني وما يقابلُها من رسائل غادة السمان والتي طالبت بنشرِها تأكيداً على أن تلكَ المشاعر المُتبادلة صارت إرثاً جميلاً؛ ينبغي للعالمِ العربيِّ أن يطّلعَ عليه كنوعٍ معاصرٍ من ثقافةٍ مختلفةٍ تعني الانفتاحَ على دواخلنا وعدمَ تقييدِ صفة الحُب، كطريقةٍ ناضجة من أجلِ التفاعل مع الآخر وتجنب أيّ التباسٍ مريرٍ في المستقبل البعيد.
لم تقفْ رسائلُ غسان عندَ حدِّ الاعترافِ بالحب، وإنما اعترفَ برغباتهِ المدفونة وكرجلٍ يحملُ تحتَ إبطهِ القضيةَ الفلسطينيةَ، وفي فمهِ ثورةٌ لا تنطفئ، فإن الجنسَ أخرُ ما قد يتحدث عنه .جاءت رسائلهُ لتضعهُ في موقفٍ مباشرٍ وتحدٍّ عميقٍ معها، فلم يُنكرها ولم يدعها تصبحُ أمراً مُبتذلاً، فالرجلُ العربيُّ وإن اعترفَ بالرغبةِ كجزءٍ من تكوينهِ الذكوريّ إلا أن ثقافته تحددُ طرقاً مثلى للتعاملِ معها، وهي بالفعلِ طريقةٌ مميزةٌ تلك التي تبناها غسان كنفاني معترفاً بوجودها ومنكراً لطريقتها في تعذيبهِ على مدى سنواتٍ عديدة..
إذ قال في رسالتهِ التي تحملُ تاريخَ/
صباح يوم 28/12/1966
عبّرت غادة عن الطّريقةِ التي سَلمها غسان رسالتهُ
حيث كتبت في الصفحة 84
"أيقظَني قرعٌ على البابِ كان غسان واقفاً منهكاً وغاضباً، وناولَني هذه الرسالة قائلاً: إنها لكِ.. كتبتُها لكِ، ولكنني خاطبتُ أختي فايزة فيها لغضبي منكِ."
ـ كتبَ غسان قمةَ ألمهِ في تلك الرّسالة، مما يجعلُنا على ثقةٍ أن أجملَ الأدبِ وأكثرَ ثوراته عنفواناً؛ نكتبهُ ونحن عاشقونَ ومجروحون حتى النُّخاع. ذلك الحبُّ العصيُّ عن الشرح.
"ثم جاءت غادة.. جاءت؟ لا إن الكلمةَ الأصحَ هي.. عادت لقد كانت موجودةً دائماً في أعماقي انا لا أتحدثُ عن الفترةِ التي كنتُ أراها فيها عابرةً في ممراتِ الجامعةِ قبل عشر سنواتٍ، لا إنني أتحدثُ عن وجودٍ أكثرَ تعقيداً من ذلكَ وأعمق بكثير" ص 89
يعودُ غسان ويصرّح في رسالته: أنتِ تسألين؟ ما الذي تريدهُ إذن؟ وأنا لا أعرفُ..
أعرفُ فقط أني أريدُها، أنا لا أستطيع أن أفهم كيف ترفضُ المرأةُ رجلاً تحبهُ؛ صحيحٌ أن الجنس ليسَ أولاً، ولكنهُ موجودٌ.. أوه يا عزيزتي ليسَ من السهلِ لي أن أبني معها علاقة جنسية حتى لو أتيحت الفرصةُ لذلك. ص 91
- ـ لم يغفلْ غسان عن إيضاحِ ثغراتِ المجتمعِ الذُّكوري في رسالته الأخيرة التي خاطب بها أخته فايزة فهو في النّهاية جزءٌ منهُ، والأدب الذي قدمهُ لنا إنما عرى بواسطِته الجانبَ المظلم فيه
"إنني أدفعُ معها ثمنَ تفاهةِ الآخرين .... أمس صعقتني، مثلاً حين قلتُ لها أني أرغبُ في رؤيتها فصاحت : أتحسبني بنتُ شارع! كانت تردُ على غيري وكنتُ أعرفُ ذلك ولكن ما هو ذنبي أنا؟
ليس لدي أية عَلاقةٍ جنسية مع أيٍّ كان هل تفهمين؟ إنني رجلٌ مأساتي هي في ذلكَ التوافق غير البشريّ بين جسدي وعقلي. هذا ما قالهُ لي الدّكتور ولسون يوماً: ولذلكَ أنتَ مريضٌ بالسكر يا عزيزي.. ص93
ـ هل يمكننا أن نقفَ أمام هذه العلاقة التي حملت صراعاً بين شابينِ كاتبين يحملان قيوداً حقيقيةً لا يمكنُ نكرانها أو تجاوزها؟
هل يمكنُ أن نقفَ أمامَها دون أن نُقدرَ قيمة الأدبِ الذي حاولَ تفكيكَ أجزاءها، كمن يفكُ لغماً في مكانٍ مزدحمٍ بالفراغِ، وعليهِ وهو يفكهُ أن يفهمَ جيداً كيف بإمكانِ الفراغِ ذاتهِ أن يتشظى فيولدُ العدمُ والعدم أشدُ قساوةً من الفراغِ، ومن الزّمن ومن المسافاتِ؟
يبقى سؤالنا كيف قرأَ الرافضونَ والمُستقبلون هذا العمل؟
من وافقَ عليهِ كنوعٍ معاصرٍ من أدبٍ جميل ومُعاصر ومن رفَضه؟
وهل عللوا رفضَهم بأجوبةٍ منطقية؟
في الكتابِ ذاته ثمةَ آراءً مُختلفةً من مُختلف الدّولِ العربية، حيث تَختلف الثَّقافات وتتنوعُ، ومن أبرزها:
كتب الدكتور إحسان عباس في مجلة الحصاد / قبرص
9/10/1992
تشهدُ لغادة هذه الرّسائل بأنها كانت حريصةً على ألا تحطّم البيتَ العائلي على رأس غسان، كما أنها كانت حريصة على أن تظلَ العلاقة؛ علاقة حبٍ نقيٍّ مؤيدٍ بصلابةِ المرأةِ المتمنعة
كما أكد الدكتور إحسان على أن هذه الرّسائل تَصلح لكاتبِ سيرة غسان كنفاني، وفيها تحليلات نفسية دقيقة وخاصة في الرِّسالة الأخيرة..
أما الصّحفي أحمد سعيد نجم فكتبَ في مجلة الهدف 30/8/1992
قد تكون بعض رسائلُ غسان إلى غادة او كلها صحيحةً، أو قد تكون ملفقة بيدَ أن الصحيح أن غسان كان مثلنا بني البشر .. فلنعدْ للشهداءِ إنسانيتهم وبهذا فقط نفي شهادتهم حقها..
وفي جريدة القادسية العراقية 11/11/1993
كتب أحمد عبد المجيد: وتبقى الرّسائلُ تحملُ نبضَ القلبِ، صوت الإنسانِ في أعماقه، ومشاعره وتظل القادرة أكثرَ فأكثر على التَّعبير عما يختلجُ في الحنايا، وعن كلِّ ما يبهجُ الفؤاد.
في ملحق جريدة النّهار البيروتية 25/7/1992
تساءلَ إلياس خوري : أليس مفارقاً أن يختفي كلامُ الحب من نثرِ العرب المعاصرين؟
وأضاف: مع رسائل غسان كنفاني نحنُ أمامَ حالةٍ فريدةٍ في الأدب العربي، ولكنها للأسف حالة ناقصة.
رسائل غسان كنفاني تَكشف سلطةَ العشق، لكنها لا تكشف كلَّ الحقيقة فالحقيقة ناقصة/ مشيراً إلى عدم وجود رسائل غادة السمان إليه..
.
ـ يذكرُ أن غادة السمان قد أصدرت بعد كتابِ "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"
كتابا آخر وهو" رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان "
وهي أكدت في مُقدمة الكتاب أنها لم تبادلهُ الرسائل. وهي بذلك تروجُ فعلياً لنوعٍ جميلٍ من الأدب، وهو أدب الرّسائل دون المساس بخصوصية الآخرين بطريقةٍ فظة.
ورغم أن رسائل أنسي الحاج لا تشبهُ مُطلقاً حميمة رسائل غسان،
لا يمكن لنا
إلا أن نعترفَ بأن ثورة غادة السمان إنما هي امتدادٌ لثورةِ غسان كنفاني، ثورةٌ على العادات والتقاليد التي تمنعنا من التعبيرِ بحريةٍ عن مشاعرنا دون أن نخونَ عزة مجتمعنا الشرقي وقدسيتهُ.
المراجع
رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان وملحق بمقتطفات لمئتي كاتب وكاتبة - غادة السمان - دار الطليعة - بيروت - 2013
ويكبيديا- الموسوعة العلمية - غسان كنفاني
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. رسالة مهرجان البحر الأحمر..السينما المصرية تخطف الأضواء.. تك
.. الفنان جمال سليمان للعربية: قد أترشح لمنصب رئيس الجمهورية ال
.. رسالة مهرجان البحر الأحمر مع علي الكشوطي .السينما المصرية تخ
.. بنديكت كومبرباتش من مهرجان البحر الأحمر: كنت ولدا وحيداً وعا
.. -التاريخ يسجل بأن إرادة الشعوب لا تقهر-.. الفنان ياسر العظمة