الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
شيلان، ما الذي أكتبه؟
بولات جان
2006 / 12 / 21الادب والفن
تستحوذني رغبة جامحة في العزوف عن الكتابة وإلقاء اليراع الذي لا طائل من إلى خبايا اللا إكتراث الذي يجتاح كينونتي بين الحين والآخر ولكن ارتدادات الرغبة تنقلب عليّ وتؤذن بأفولها الملهّد ابداً...
وما بين الرغبة التي تستحوذني واستعصاء الضد ابقى الطرف المسلوب غرادت بين البينين. كل هذا ولست ممن يطرحون ما يذهب إليه الآخرون ولا يقوى على طرح ما هو غير مالوف في عالم مشحون بالشمولية الاستقصائية لكل ما يطرح على شعاب لا يسير عليها قوافلها المشبعة بالاسقاطات الفوقية. فلا أنا بمنأى عنكم ولا أرى توقاً عارماً للإنجراف مع تياركم لقول ما تريدونه مني أن ارص حروفه وكلماته على الورقة البيضاء المتفرسة فيّ بعينيها البريئتين اللتان تثيران فيّ الريبة. فهل أجني على نفسي أم أداهن قرائي بالاطراء المكلل والرهين المنشد إلى الامس، سيما وأني من ارباب الكلمة الناسج للجملة التي تزعزع المألوف وتدمج المسكوت عنه في ثنايا الجمل التي تبدو مألوفة للوهلة الأولى للدهماء...
لكن لا طائل من الركون إلى الصمت سيما وأنه يُطلب مني الكتابة وأي كتابة؟! أنها الكتابة التي تنقبض عليّ كالكماشة وتطحنني بين راحتيها بلا رحمة وتسحقني ألف مرة قبل أن ترمي بعجينتي الأولى إلى ما وراء آراس فأجد نفسي مجدداً في حلبة معلقة بقمم جبال القاف التي يُسمع منها أنين الإله الذي سرق سر النار من الآلهة وقدمها للبشر الفنين فجزاه الإله الغضوب بأن يقيّد إلى القمم السامقة وأن تلتهم الصقور أحشائه كل يوم. وهنا بالذات تركن مدينة الخريف الحزينة، بشوارعها وارصفتها الحجرية وأشجار الدلب والصفصاف الباكي وقد تعرت من ملابسها كإمرأة ماجنة تستأثر بالقلوب الشاعرية... هنا كان السعي الحثيث لأجل نفحة من الأمل في التسامي من كل المبتذلات والهائمات من امور الحياة الفانية. هنا كان الأرق و الهرع المستميت صوب تطبيب الجراح المثخنة. وشيلان كانت تأخذ مني عهداً شرط أن لا انكثه ابداً وهي تقول لي بلا ملل: أ ستكتب عني؟ اعدني الآن بأنك ستكتب" فأعاهدها بأنني سأنزل عند رغبتها على مضض فيثير مضضي هذا ريبتها وتعاود إلحاحها الابدي: " لا تسايرني بهذا العهد الهزيل وأحلف بأنك ستكتب عني..." فأجيب محاولاً الابتسامة كي ازيل الريبة من قلبها: " نعم اعد بأنني سأكتب.." فتسألني مجدداً" هل هذا وعد رجل؟ " فآخذ هيئة صارمة وأقول بكل كبرياء وافتخار" كلا بل وعد دجاجة..." فيسقط الجميع قهقهة فترتفع اصواتهم حتى تطال أعلى المدينة فتتساقط من القهقهة الاوراق الصفر المتبقية على الدلب المتعري وتثير قهقهاتنا نسائم تنفح صدر المدينة و جنائنها الطامرة تحت الاوراق الصفر... وتذوب المدينة الخريفية وتتحول إلى شبكة من الدخان الناعس تسبح شيلان بكل ما اوتيت من قوة وجلد وحلِِم منتشية بالألم الذي سببتها العاتيات لها على مر الازمان...
وها قد صالت الدنيا وجالت وأنقلب فلكنا واغرقنا اليم اللجب وقذفتنا الامواج المجنونة إلى جزر بعيدة في كونٍ مترامي الأطراف لا يرى فيه كل كائن إلا نفسه الوحيدة التائهة بمتاهات الزمن ونظل نبحث عن النفق الذي سيودي بنا خارج المتاهة الابدية.
مرت الاحوال وذكريات المدينة الحزينة بقيت بكل نضارتها وجبروتها وألمها ناضحة في مشاعرالنسيان واللاإكتراث والملل من تلك المدينة المعلقة في جبال القاف.
وكانت هذه هي المفرقة الكبرى بين الذكرى والنسيان والحب والكره والاشتياق والقرف... وكم مرة كانت المفارقة بين هل فشلنا أم نجحنا في مدينتنا الخريفية الحزينة، كانت تضعنا على عتبة الاختيار بين الحنق أو الحب لتلك الايام الماضيات، بين كل هذا وذاك عادت شيلان تنبش في ذاكرتي وتستفزني للعودة إلى وعدي الذي قطعته، فقد غادرت هي برفقة الملائكة إلى ماوراء الكدر وهي تغرز نصل المدية المرقق في جرة ذكرياتي المصدودة منذ ايام الخليقة الثانية تارة وتارة أخرى تغرزه في خاصرتي.
إذاً لا مفرّ من الايفاء بالعهد الذي قطعته يوم كنا نموت لأجل النجاح و يقوم النجاح بقتلنا كل مرة دون أن نتوب ونبقى نكرر الجريرة نفسها وبالجريرة كنا نتجدد كل آن كما كانت أحشاء الإله المقيد إلى الجبال تتجدد كلما ألتهمتها الصقور الوحشية المبعوثة من الإله المتعجرف. كتبت، كتبت هنا وهناك، بهذا وذاك الكل، جربت اصناف الكتابة وأنماط الأدب والقرض والنسج والمناجاة ولكنني كنتُ اتوخى الحقيقة الصارخة دائماً وألجأ إلى الجميل من بُسط الأدب واردية النثر والقشيب من التعابير الاحتفالية. فهل أفعل الشيء عينه في كتابتي هذه؟
وابقى عائماً بين لجة الموج في يم الحائر بين الحقيقة والحقيقة! أ ارفعها إلى مصاف الآلهة وأمدحها وارنو منها بصفات المثاليين كما يفعلها دوني الكثيرون؟ فكم سيغبطون حينما أكتب هنا ما يردده الدهماء وحتى الذين كانوا لا يعتبرون لها أي اعتبار. أم ماذا؟ أ سترضى نفسي إن قلت واصفاً صديقتي التي زاملتني سنتين بأنها كانت شجاعة ورمز للبطولة والمرحلة النضالية وشعلة ستضيء لنا دربنا الابدي" قد تبدو لي هذه الاوصاف في غير محلها للوهلة الأولى لكنني حينما اتقهقر إلى سنين خلت أرى كم ظلمتها الايام وتقاذفتها الأيدي ومحقها أيدي أخرى، وأرى ايامها في يريفان كانت ألماً بألم وسجناً كئيباً لا يطاق. أو أذكر أنها صرخت من الحنق والوجد وانخرطت في البكاء الأليم المر ألف مرة؟ وماذا أذكر بعد وكل ما أذكره سيزيد الحنق ويخلل الجدث الذي ترتاح فيه وأوقظ الاطياف التي كانت ترنو منا كي تمسح دمعاتنا الحرّة في المآقي إثر كل ألمٍ جديد. ورغم كل شيء كان هنالك هاجس النصر يهلل القمر في سماءاتنا.
ربما سيكون ايراد هذه المفارقات له تأثير مضخم على الآخرين خاصة وإننا نطبب تأنيب الضمير الذي يغرز فينا نصال مداياه بالبكاء على من افتقدناه أو افقدناه... فكم نجور ونسقي أحدهم الهوان وما أن يرحل برفقة الملائكة نعود إلى ذواتنا خجلاً فندرك كم عسفنا به حينه.
لماذا أقول كل هذا وصديقتي التي تكابدنا سوياً مر الحياة وتذوقنا من النجاح والفشل الكثير الكثير باتت في العالم الذي قطعنا تذاكرنا إليه. فهي ذهبت وتركت ألماً وفؤاداً مثخناً بجروحٍ تأتي مع ذكرى المدينة الخريفية التي نبشتها صديقتي واستفزت المردة المحبوسة في القمقم منذ أن ادرت ظهري لشجر الدلب والصفصاف الباكي والارصفة الحجرية والمطر الناقر على زجاج النافذة المطلة على آرارات.
ولم يبقى سوى القلوب المهاجرة ومشاريعٌ معلقة في سماء اللاممكن ورسائل جزلة منهوكة وتعِبة من الطريق بين القلب والعقل والانامل المرتجفة الماسكة باليراع الآهب للقفذ إلى سلة النسيان.
سيماء الصفحة التي كانت تتفرس فيّ بعينيها البرئيتين باتت تسجل عليّ جرائر كبرى على ما اقترفه قلمي من شطحات.
كل هذا ورسالة شيلان الاخيرة تنتظر جواباً، هي قررت أن تكتب لي كل يوم-إن شئت- وتسألني سؤالها الأخير أبداً...
كان الإله المقيد إلى جبال القاف يصرخ فتردد الجبال صدى صرخاته وتبكي له الجبال فيتشكل نهر آراس والمدينة الخريفية، كان الإله المتوحد يصرخ بلغة المدينة الخريفية قائلاً: "شات سيرونيم، شات سيرونيم شيلان"
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. زغاريد فلسطينية وهتافات قبل عرض أفلام -من المسافة صفر- في مه
.. فيلم -البقاء على قيد الحياة في 7 أكتوبر: سنرقص مرة أخرى-
.. عائلات وأصدقاء ضحايا هجوم مهرجان نوفا الموسيقي يجتمعون لإحيا
.. جندي عظيم ما يعرفش المستحيل.. الفنان لطفى لبيب حكالنا مفاجآت
.. عوام في بحر الكلام - الشاعر محمد عبد القادر يوضح إزاي كان هن