الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التعديلات القضائية وأزمة الكيان الصهيوني البنيوية (5)
سليم يونس الزريعي
2024 / 8 / 24مواضيع وابحاث سياسية
الفصل الثالث: أسباب الأزمة البنيوية
المبحث الأول: أزمة سببها العدوانية والاحتلال والأيديولوجيا العنصرية
ربما كان جذر أزمات الكيان الصهيوني يبدأ من كونه ليس كيانا طبيعيا في نشأته وتطوره، فهو نتيجة فعل تجميع كمي كولنيالي في أرض الغير، ومن ثم فإن أزمة إسرائيل بنيوية وسببها عدوانيتها واحتلالها الأراضي الفلسطينية .(1).
وبسبب ذلك لاحتلال، يواجه الكيان الصهيوني اليوم أزمة سياسية وأخلاقية عميقة وخانقة، ليست مرتبطة بهذه الشخصية السياسية الفاسدة أو هذا القائد اليميني المنفلت أو ذاك، وإنما هي أزمة بنيوية تمتد جذورها عميقا في واقع العدوانية الإسرائيلية عبر أكثر من سبعة وخمسون عامًا من الاحتلال والاستيطان الكولونيالي والاستغلال للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 .(2).
ومن ثم فإن هذا التدهور السياسي والديمقراطي الذي يعيشه الكيان الآن، هو نابع في الأساس من عجز المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة عن توفير الأجوبة السياسية، وعن خلق بدائل جديدة للسياسات الإسرائيلية التقليدية المأزومة، وانشغال المؤسسة لإسرائيلية بدلا عن ذلك بالتهرب من استحقاقات الحل السياسي، والحفاظ على الاحتلال وتوسيع الاستيطان والإعداد لحروب جديدة في المنطقة .(3).
وكون الكيان الذي هو عبارة عن تجميع لمكوناته من إثنيات متعددةـ لذلك حاول منذ زرعه خلق حالة تماسك مجتمعي من خلال التخويف من الأعداء، عبر ما يسمى عقد الخوف ومن هذا المنطلق وقبل خمسة عقود تقريبا، قال وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق "موشي دايان": "نحن جيل من المستوطنين، لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت من دون الخوذة الفولاذية والمدفع. علينا أن لا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الألوف من العرب حولنا. علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا، إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا أن نكون مستعدين مسلحين، أن نكون أقوياء وقساة حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".(4)
ويعرف قادة الكيان الصهيوني منذ تأسيسه موطن الضعف هذا، لذلك فشلت ثقافة اليهودية "الأشكنازية" في صهر ثقافات الجماعات الاستيطانية الأخرى ودمجها في بوتقتها، والواقع أن عدداً من المؤرخين الإسرائيليين تحدث عن المجازر والكوارث والتهجير الخ التي قامت بها الحركة الصهيونية منذ حرب 1948. وهذا يضع المشروع الصهيوني أمام مصادر تهديد من الصعب تفكيكها، إذ إن الكيان تأسس بالقوة العسكرية والتهجير والإبادة، وليس بقوة الواقع والتاريخ والديمغرافيا. وهذا يعزز السردية الفلسطينية، التي تقوم على الحقوق غير القابلة للتصرف أو غير القابلة للتقادم بأنهم هم أصحاب الأرض.
ولذلك لا يجب قراءة حديث المؤرخين والسوسيولوجيين عن مآسي وكوارث التأسيس أو ما يعرف إسرائيلياً بـ"حرب الاستقلال" عام 1948، على أنه يندرج في سياق "تصحيح التاريخ" أو "التكفير" عن تلك الجرائم، وإنما يأتي من باب تجاوز العُقَد بالحديث عنها. وعلى مبدأ: نعم حدث ذلك. لكن المشروع يجب أن يستمر! ذلك أن من مشكلات أو صدوع التأسيس الملازمة للكيان، هو أن "إسرائيل" هي نتيجة تطور أو تحول من ميليشيات ومستوطنات إلى كانتونات وغيتوات، ومن عصابات إلى جيش، ومن جيش إلى دولة أو كيان .(5).
ولا يقف الأمر عند كونه كيانا كولنياليا ولكنه يكشف عن عنصرية بغيضة
تستهدف من يعتبرونهم يهودا ولكنهم من ذوي البشرة السوداء ممن استقدموهم من أثيوبياـ بعد أن قرر سنة 1973 الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحركة شاس الشرقية ،خلافا للاشكنازي شلومو غورين اعتبار طائفة بيتا يسرائيل الاثيوبية طائفة يهودية ولهم حق الهجرة.
ولأنهم يختلفون من حيث اللون والمظهر، فهناك شك في يهوديتهم لذا شكل هذا عائقا أمام اندماجهم كما ان سياسة إسرائيل نحوهم، وقد ساهمت صعوبة التأقلم الاجتماعي للأثيوبيين إلى صعوبات تعليمية فقد كان موقف الإسرائيليين سلبي تجاههم خصوصا بالتعليم.
بل إن التعامل معهم ارتقي إلى مستوى الفضيحة ، من ذلك ـأن المستشفيات في إسرائيل ترفض قبول دم الأفارقة في مجال التبرع .(6).
المبحث الثاني : فقاعة تجمع فقاعات "عرقيّة أو طبقيّة أو أيديولوجيّة.
إن أزمة الكيان الصهيوني البنيويّة والوجوديّة العميقة تعود بشكلٍ رئيسٍ إلى الشّتات الذي جرى تجميعه من أقاصي الأرض، خدمةً لفكرة واحدة وهي "أرض موعودة لشعب مختار". هذا الكيان بات اليوم في مرحلة بداية النهاية، خاصّة أنه ينحدر بسرعة نحو الارتطام الكبير لأسباب تأسيسيّة خاطئة ومضلّلة أفضت إلى هذا الانفجار الكبير في مجتمع العدو بأكملهِ(7).
وهنا من المهم التذكير أن التجمع الصهيوني منذ نشوئه في عام 1948 بعد احتلال فلسطين، لم يقم على أسس ومعايير سليمة كبقية المجتمعات الإنسانية في مختلف أنحاء العالم، وما يميزه أنه مجتمع استيطاني إحلالي تشكل من مهاجرين من أكثر من 100 دولة في العالم، نقلتهم الحركة الصهيونية تحت مزاعم مختلفة إلى فلسطين، ثم إلى يومنا هذا استمرت حركة نقل اليهود من أنحاء المعمورة إلى فلسطين المحتلة دون توقف، وهي تشكل المصدر الرئيسي لزيادة عدد سكان اليهود في الأراضي المحتلة .(8).
ولذلك حمل هذا التجمع منذ اليوم الأول لتأسيسه، بذور الانقسام والصراع المجتمعي في داخله، الذي يعود إلى الاختلاف في الهويات، والانتماءات الثقافية، والفكرية، والجغرافية، والمجتمعية المتعددة والمتباينة بتعدد الدول التي انتقل أو نقل منها اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، وهذا ما ظهر جليا في التباينات المجتمعية تحت مسميات مختلفة في مختلف مراحل حياة الكيان الصهيوني، فحسب أصول مكوناته، ينقسم تجمع المستجلبين الصهيوني بين "الإشكنازي"، و"السفارديم" و"الفلاشا"، وكذك سياسيا منقسم بين اليمين واليسار والوسط، وفكريا ودينيا هناك متدينون (حريديم) وعلمانيون، وقوميا وعرقيا هناك مسميا اليهود والعرب .(9).
هدا الواقع المجافي هو نتاج تراكم عقود من التمييز في مجتمع نظّر له هرتزل وبن غوريون، وأُعدّت له دعاية على أنه سيكون مجتمعًا مثاليًّا ليهود العالم، فإذا به يتمظهر عبر الزمن في شكل تجمّعات طبقيّة متنافرة تجتاحها حمى التمييز العنصري الذي يجمع الخبراء على أنه السبب الرئيس للانفجار .(10).
ولذلك تظهر أزمة الايديولوجيا في الكيان في صعوبة الإجابة عن السؤال الجوهري والأساسي: هل الصهيونية قيمة دينية أم قيمة علمانية؟
آرييه درعي زعيم حزب شاس اليهودي الشرقي, , يقول: “الصهيونيون الحقيقيون هم الذين يحافظون على شرائع التوراة” .(11).
فيما كان الحاخام عوفديا يوسف, الزعيم الروحي المطلق لحزب شاس, يكفر من يسميهم القضاة العلمانيين وكلّ من يتوجّه إلى المحاكم العلمانية الخاصة بالدولة, ويصف المهاجرين الروس بالأغيار “غوييم”. والجدير ذكره أن نوّاب حزب شاس في الكنيست, مثلهم مثل العرب ¬ لا يقفون عندما يعزف نشيد الدولة “هاتيكفا” ¬ الأمل في الكنيست, أو أنهم يغادرون القاعة.(12)
وما كان لهذا التكوين القسري إلا أن يكون كذلك، لأنه كان تجمعا مستجلبا من أتباع الديانة اليهودية من كلّ بقاع الأرض ومن كلّ القوميات. وقد اجتمعت كمجموعات على أرض فلسطين، قسمها علماء المجتمع إلى خمسة فروع (تصدّعات) أساسية: أولاً: التصدّع الديني - العلماني، ويُقصد به وجود مجموعة من الإسرائيليين العلمانيين مقابل غيرهم من المتديّنين؛ ويسبّب هذا التقسيم - مثل أي مجتمع- نوعاً من الفرقة والاختلاف حول الثقافة والهوية ونظام الحكم؛(13) ، وهذا أحد عناصر الأزمة لما له أبعاد في تسعير التناقضات في إسرائيل بخلاف باقي المجتمعات، لعلاقته بطبيعة المجتمع الديني في الكيان. وهذا الواقع موجود منذ ما قبل قيام الكيان واستمر طيلة العقود الماضية.
أما التصدّع الثاني فهو القائم بين الشرقيين والغربيين، على قاعدة التمييز بين الشرقيين والغربيين المتحدّرين من أوروبا وأميركا؛ ويعود كونه تصدع إلى أنه في هذا الانقسام تلك النظرة الدونية من قبل الإسرائيليين الأوائل الذين هم أشكيناز، إلى اليهود الشرقيين الذين استجلوا فيما بعد، الذين اعتبرهم اليهود الغربيين بدائيين لأنهم أتوا من الدول العربية أو من أفريقيا، ولذلك تعاملوا انطلاقا من ذلك التقييم بفوقيّة وعنصرية؛ والأدبيات الإسرائيلية حافلة بالطرق التي تعاملوا فيها مع هؤلاء الشرقيين والتراكمات التي تشكلت لديهم، مما أدّى إلى الانقلاب الكبير الذي حصل عام 1977، عندما صوّت الشرقيون لليكود، وقاموا بثورة في السياسة الإسرائيلية. ومنذ ذلك الوقت بدأ حزب العمل مساره التراجعي، حيث أصبح اليوم من أصغر الأحزاب في إسرائيل .
هذا الانقسام الشرقي- الغربي كان بالغ الحدّة في البداية؛ لكن هذه الحدّة تراجعت في العقدين الأخيرين، لأن الفجوة بين الشرقيين والغربيين تضاءلت نتيجة التطورات التي حصلت في هذا التكوين الذي تجمع في ما يسمى إسرائيل؛ لكن الانقسام ما يزال موجوداً؛ فنحن نعلم أن هناك بعض السياسيين الشرقيين مثل أرييه درعي- رئيس لحزب شاس المغربي؛ وبعضهم لا يزوّج ابنته لمغربي. والمتابعات أثبتت أن الغربيين يتقدمون على الشرقيين في كل شيء؛ حتى أن الرواتب والمناصب تختلف بين الشرقيين والغربيين(14).
ويتمثل التصدّع الثالث في التوتر السياسي بين اليمين واليسار؛ والاختلاف الأساسي بينهما هو حول القضية الفلسطينية. هناك تحوّل كبير على هذا الصعيد؛ بمعنى أنه في العقود الأولى وحتى الثمانينات كانت أغلبية الإسرائيليين تصنّف نفسها في اليسار أو الوسط؛ أما الآن، فحوالي 60% من الإسرائيليين يصّنفون أنفسهم على أنهم يمينيين، وأقل من 15% يساريين، والباقي في الوسط؛ وهذا يدل على الخلل المستمر في التوزيع.(15).
ويتمظهر التصدّع أو الانقسام الرابع في التوتر القومي أي يهود وعرب (فلسطينيو 48 وليس كل العرب). بعد فشل محاولات الصهيونية تهجير من بقي من الفلسطينيين في وطنهم ، وفرِض الجنسية الإسرائيلية عليهم؛ لكنهم ظلّوا عرباً فلسطينيين في مظهرهم العام .وهم يختلفون عن فلسطينيي الضفة والقدس.
وهذا الصدع الممتد منذ عقود بين اليهود العرب، يعود إلى أن الصهاينة يعتبرون أنهم يشكلون خطرا على هوية الكيان كونهم غير يهود ؛ سيما وأنهم في الوعي الصهيوني أصحاب الأرض الفلسطينية الحقيقيين. زمن ثم فإن المشكلة بين اليهود وعرب 48 ليست فقط في الاختلاف القومي والديني؛ بل إن عرب 48 يسمّون في المجتمع الدولي بالقومية الأصلانية، لأنهم أهل الأرض؛ وهذا الوضع تختلف مقاربته في القانون الدولي من جهة الحقوق. .(16)
وكغيره من التكوينات الاجتماعية، فإن الصدع الخامس والأخير، يتمظهر في الجانب الطبقي أي بين الأغنياء والفقراء. وهذه التصدعات يمكن أن تعمل على تفكيك الكيان، أذا ما توفر العامل الخارجي، الذي يسعر من هذه الصدوع بحيث يصبح جسر العلاقات بينها مستحيلا كونها تصدها بنيوية .
هذه الحالة التصدعية في كافة المستويات في المجتمع الإسرائيلي، تصفها الكاتبة اليهودية ياعيل دايان إبنة موشي دايان في كتابها المعنون بـ"وجه المرأة" بشكل أدق، فتقول: "ما بين التصدع القومي والتصدع الديني والطائفي والطبقي، تتشكل عوامل انهيار دولة "إسرائيل" في المستقبل، أو على أقل تقدير دخولها في دوامات الصراع الداخلي... نحن نعيش فوضى مطلقة في مجتمعنا".(17)
وإلى جانب هذا الصراع المجتمعي بين مختلف التوجهات الفكرية، والسياسية، والدينية في "إسرائيل"، يعاني المجتمع الصهيوني مشاكل اجتماعية، تقول عنها "ياعيل دايان": "من يقرأ ويتقصى الحقائق ويتعمق في الداخل الإسرائيلي ويطلع على التناقضات والمشاكل الداخلية يدرك ضعف هذا المجتمع وفراغه من الداخل بل وكم كبير من الصراعات والمشكلات والفساد والشذوذ."
ولأسباب عديدة لم يطفح هذا الانقسام الخفي داخل المجتمع الإسرائيلي على السطح سابقا، والصراعات التي يعاني منها الصهاينة لم تصل إلى حالة الانفجار، ويفترض أن لا تصل إليها في المستقبل القريب، لكن الخطورة أن هذه الصراعات المجتمعية باتت تقود المجتمع الصهيوني نحو التفكك أكثر من قبل، ولولا تلك الأسباب التي يأتي على رأسها، وجود هذا التجمع والكيان الذي يمثلهم وسط بيئة معادية من كل حد وصوب، لتفكك الكيان منذ وقت طويل، لكن حالة الخوف من الأخطار الخارجية التي يواجهها الكيان الصهيوني حالت دون وصول الانقسامات المكنونة والصراعات في تجمع المستجلبين الصهاينة إلى حالة الانفجار والتفكك.
وحسب أحد الاستطلاعات فإن الرابط الوحيد بين مختلف شرائح التجمع الصهيوني، يتعلق بالأخطار الخارجية التي تهدد الاحتلال الإسرائيلي، إذ قال 62 في المائة من اليهود المشاركين في الاستطلاع إن هذا هو العامل الوحيد الذي يوحدهم ويجمع بينهم. وهذا يعني أن الشعور بالتهديد المشترك الذي يواجهه مختلف شرائح هذا التجمع الصهيوني، هو الضامن الوحيد لبقائه.(18)
ية، وفي الدول الديمقراطية فإن القانون يساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن لونهم أو لغتهم أو أصلهم العرقي أو حتى انتماءاتهم السياسية، وتصبح المواطنة هي السبيل الوحيد للانضمام للمجتمع والحصول على كافة الحقوق والحريات والفرص المتاحة، ويثار العديد من النقاشات حول ما إذا كان على الدول ذات التعددية العرقية الحادة أو الكبيرة أن توفر حقوق للجماعات المختلفة أعلى من الحقوق الفردية لضمان حق العرقية أمام الأغلبية.
وتعرف الدولة العرقية على أنها وطن لواحدة من جماعاتها العرقية المتعددة، وفي تلك الحالة فإن الدولة تخدم الأهداف الوطنية لجماعة عرقية واحدة من خلال إقصاء الجماعات العرقية الأخرى المتواجدة داخل الدولة، بغض النظر عن حالة المواطنة، وهنا يصبح الانضمام للجماعة العرقية المسيطرة والغالبة هو السبيل الوحيد للحصول على المزايا والفرص والحقوق التي توفرها الدولة للأفراد والجماعات، وليس المواطنة أو المشاركة في النظام السياسي للدولة. وتصبح المواطنة بالتالي في درجة أقل أهمية من الانتماء للجماعة العرقية التي تشكل الدولة. .(19)
إن إسرائيل نشأت كوطن قومي لليهود، وهو ما لا يعني أن لليهود ميزات قانونية وفرص أكبر عن غيرهم من غير اليهود في إسرائيل، أو يعني أن اليهود هم الأغلبية العددية في إسرائيل، بل يعني بالأساس أن إسرائيل هي وطن لليهود بغض النظر عن المواطنة أو الإقامة، وعليه فالانتماء للدولة هنا مرهون بالانتماء لليهودية وليس الحصول على صفة المواطنة، ومن هنا يرى العديد من المفكرين بأن إسرائيل تتبنى نظرياً وايديولوجيا، وحتى على جانب الممارسة العملية، فكرة الدولة العرقية التي تعمل على إقصاء جميع المواطنين لصالح المواطنين اليهود، وإن كان ذلك لا يمنع من أنها توفر العديد من الحقوق المدنية لباقي المواطنين، ولقد رسخت إسرائيل لتلك الفكرة والمعتقد من خلال قوانينها الدستورية، حيث تم تعديل القانون الأساسي للكنيست عام 1985 ليقر بأن إسرائيل هي وطن لليهود فقط.(20)
وتصبح بذلك إسرائيل واحدة من الدول القلائل التي تدعي كونها دولة ليبرالية ديمقراطية في الوقت الذي ترسخ لعنصريتها في قوانينها الدستورية، وبناء على ذلك، صنفت إسرائيل تارةً على أنها “دستورياً، دولة عرقية إقصائية”.(21)
وعلى النقيض من ذلك صنفت تارةً أخرى إسرائيل على أنها دولة قومية، وبطبيعة الحال فإن كل الدول القومية تعطي ميزات للأمة التي تقوم عليها الدول، من هنا فيمكن النظر للمزايا التي يحصل عليها اليهود دون غيرهم من غير اليهود، والحصرية التي يتعامل بها اليهود في داخل الدولة كأمر عادل وطبيعي نظراً لما تعطيه الدول القومية كمزايا لأعضائها، وبالتالي فكما تعطي الدولة القومية مزايا لمواطنيها، فإن إسرائيل تعطي مزايا لليهود التي قامت عليهم ولهم الدولة، وفي هذا الصدد، فإنه لو تم تعريف الدولة القومية في الديمقراطية الغربية على أنها دولة مواطنيها وحدهم فقط فإننا سنجد إسرائيل تنحرف عن ذلك التعريف لسببين رئيسيين، أولهما أن إسرائيل رسمياً تعرف “اليهودية” وليس “المواطنة الإسرائيلية” على أنها الصفة أو المعيار للدخول في تعريف الدولة، فهي تستثني دستوريا وواقعياً من هويتها كل من هو غير يهودي حتى لو ولد وعاش فيها، وثانيهما هو أن إسرائيل تمد نطاق الهوية لكل من هو يهودي، ولو لم يكن مواطنا لديها، بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية، والتعلق العاطفي، والوعي القومي، أو حتى بناءً على رغبة الأفراد أنفسهم ليكونوا جزءًا من الدولة فقط يلزم أن تكون يهودياً حتى تحمل الهوية الإسرائيلية.(22)
وعادة ما يميل الأفراد في الجماعات الاجتماعية المختلفة إلى بناء حس الهوية الجماعية على أساس نوعين من التصورات، الأول هو وجود صفات مشتركة مع الجماعة، وثانياً هو تصور الاختلاف بين تلك الصفات والصفات المرتبطة بالجماعات الاجتماعية الأخرى، صور الهوية والاختلاف، بغض النظر عما إذا كانت موروثة، أو متصورة أو مكتسبه، وتشكل المادة اللاصقة التي تربط الأفراد في الكل الاجتماعي المتصور، وفي نفس الإطار فإنها تشكل كأساس للحس بالاستثنائية، وهو أحد المتطلبات الضرورية لتكوين الجماعات الدينية والأثنية وحتى الوطنية، فعلى سبيل المثال فإن البريطانيين خلال القرن السابع عشر ظلوا يفتخرون بأنفسهم على كونهم عقلانيين وعلميين بشكل استثنائي، والشعب الأمريكي حتى الآن ينظر لنفسه على أن لديه عقيدة مثالية بشكل استثنائي.(23)
ولكن في نفس الوقت فإن الإحساس بالاستثناء يمكنه أنه يخدم الجماعات بطرق مختلفة، فعندما يحدث التزاوج بين السلطة وفكرة الاستثنائية، فإن ذلك من شأنه أن يخلف العنف والعدوان، فالدول والأمم التي تصبح قوية عادة ما تكون تقتنع أن نجاحها هو دليل على تميزها واستثنائها الثقافي والعلمي والاجتماعي، في حين أن إحساس المستضعفون بالاستثنائية يأتي بشكل مختلف في صورة “عقدة النقص”، أو الإحساس الموروث بالضعف الاستثنائي، وفي الوقت الذي قد يخدم فيه مثل هذا المزيج الأوطان، فإنه قد يحدث بها خللاً اجتماعيَا كفيلاَ بتدميرها.(24)
جانب كبير من المجتمع الإسرائيل وقادته مقتنع تماماً أن اليهود هما استثناء رئيسي نظراً لخبرتهم التاريخية ومشاكلهم الأمنية، تستند تلك الرؤية الاستثنائية على أسس استراتيجية وتاريخية وثقافية، يمكن أن نرى الجذور الثقافية للرؤية الاستثنائية في الأفكار التوراتية التي تخاطب اليهود على أنهم – وحدهم- شعب الله المختار، وتنتشر تلك الأفكار بشكل واسع بين اليهود لأن معظهم تعلم على أن يفكر بتلك الطريقة من ناحية، ولأن معظمهم يؤمن بالمبادئ اليهودية.(25)
وقد اتخذت تلك النزعة الاستثنائية العديد من الأشكال، فعلى سبيل المثال، يقول ابن جوريون في أحد خطابته في عام 1950 “ربما كنا الوحيدون غير الملتزمون في هذا العالم … نحن لا ندخل في الإطار العام للبشرية، الآخرون ربما يقولون إن ذلك بسبب أننا معيبون، ولكني أعتقد أن السبب هو أن الإطار العام معيب، ونحن لم نقبل بذلك أو نتعود عليه”. ويقول جيدون عيزرا مسؤول سابق في جهاز الأمن الإسرائيلي وعضو في البرلمان عن حزب الليكود، إنه يؤمن بالله فقط “لأن الله وحده من يملك أن يخلق أناساً متميزون جداً كاليهود”، وفي خطاب آخر له موجه للشباب، يقول ابن جوريون “أنت … تعرف أننا كنا دوماً أناساً قليلون، دائماً محاطون بأمم كبرى دخلنا معها في نضال سياسي وروحي، وكان سر بقائنا خلال آلاف السنوات تلك هو مصدر واحد: سمو نوعنا، ميزتنا الفكرية والأخلاقية التي تجعلنا متفردين حتى يومنا هذا كما فعلت مع الأجيال السابقة”.
تلك النزعة نحو يهودية الدولة ولدت حالة من الشعور الاستثنائي الإيجابي والسلبي، إيجابي لصالح اليهود، وسلبي ضد العرب غير اليهود، ففي الوقت الذي يحصل فيه اليهودي على أفضل الخدمات وأكبر الفرص، فإن العربي يحصل على أسوأ الخدمات وأقل الفرص، وفي بعض الأحيان لا يحصل على شيء.(26)
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما الذي يحمله رئيس برلمان إيران إلى حزب الله خلال زيارته لبن
.. رئيس مجلس الشورى الإيراني يقود طائرة لتوصيل رسالة إلى بيروت.
.. أحمد الحيلة: هناك حقد إسرائيلي على سكان شمال غزة لإفشالهم سي
.. حزب الله يعلن استهداف قوة إسرائيلية حاولت التسلل في بلدة رام
.. د. منير البرش: جميع أهالي شمال غزة يرفضون الخروج رغم الإبادة