الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقامة دندنة مع بعقوبة السبعينات .

صباح حزمي الزهيري

2024 / 9 / 11
الادب والفن


مقامة دندنة مع بعقوبة السبعينات :

كلنا تعلمنا ان الوطنَ مبتدأٌ , فكيفَ يَجرّونَه ؟ ومن اين جاؤوا هؤلاء الغرباء , ((انت تريد ان تقنع هؤلاء بأنك لست َعدوّهُم , كل هؤلاء الغاضبين الذين لا تعرفهم ولا يعرفونك ايضا , لمجرد انك لم تغضب , أنت تريد ان تكون آمناً ولاتدري ان هذا يغضبهم أكثر وهكذا حتى تغضب يوما , وكل يوم تلد القرى معتوها يذهب إلى المدينة وينفخ في البوق )) كما قالها ابرراهيم البهرزي .

يباغتني هذا الذي اسمه الزمن, لص هو لا يؤتمن , وفي كل إنسان طفل صغير يبقى يناغشه مهما شاخ وكبر, ومن أسعد اللحظات أن يستيقظ ذلك الطفل طرباً فرحاً ليفرح فجأة ذلك الكهل معه , وفي قفزة بيضاء بلورية إستغرقتنى لأكتب أحلى النصوص عن بعقوبة , وما تذكرته عنها وانا في وقت مر , ومن عاداتي الا أزيفُ الواقع وألا أبحث له أدوات مكياج , طغى على مدينتي الغياب , في عالم ميت يكثف الحب والفقر, وجوعًا كاملًا مزيفًا للحياة , لتنضج الوجوه الباردة للغزاة , وتتساقط أكوام قذرة من خيبات الأمل .

عندما تنتهي السهرة في نادي المعلمين , ويدوزن الشوق خمرًا ويحتسيه بذات الكأس , ننطلق ماشين صوب بيوتنا , كان الهواء إذا يمر في شوارع بعقوبة كأنما يعبر بين غابات من النايات والمزامير البهيجة , يمر بها حفيفاً , مع تلك النفوف اللطيفة لنهري ديالى و خريسان , فيأتي ذلك الصوت الألِق المنطلق من حناجر السكارى بمقامات عالية القرار , ليشعل مدينة الفرح فرحاً , وتصبح البساتين أحلاماً تمشي , كأنها جسد لروح آيبة , حكاياتي وأسراب أحلامي , التي خبئتها عند عتبات الشباب , تحتشد اليوم بين أفكاري وتحاصرني خيالاتها , ويصبح النحت على الذات , وتقشير الخلايا الميتّة ضروريّ يومياً , وفصلياً حتى لا نشيخ , ونفقد التوازن .

جلبتني الوظيفة الى بعقوبة مع عائلتي من بغداد وعمري 19 سنة , ولم اتصور أن تبهرنا هذه المدينة البسيطة , كانت لنا أيامنا هناك في تلك ألأحياء الوادعة , لقد سرقتنا قبل أن نراها , وحين رأيناها خطفتنا , ومضت بنا إلى ذُرى الذواري الذارية , كي نتعلم أبجدية الروح والريحان , والشبوي والرازقي وورد الجوري المقتحم , ونظرة النعيم , ,وبرودة اشجار الغرب على شواطيء ديالى , كانت العواصف تلقح الأزهار وتنتج الثمار, فيتشبع الهواء بالابتسامات , وحين أطرق الأبواب مثل شجرة , وتوثق العيون ما في الذاكرة , يسيل بي شغفُ المكان , وتتعانق شدات الورد بشهيق قبل الندى ,أعشقها وفق هندسة التجلي المعلقة على إحداثيات العشق , وأنثر كؤوس معينها على شفة محراب المواويل , وأوزع أنفاسي على الأطراف , بين تقاسيم نهرٍ, وسطر نخيلات .

كم قرأنا وعشقنا وكتبنا , وفكَّرنا , كانت بعقوبة في كل الصفحات التي قرأناها , ونحن في بدايات الشباب نفكر كيف نسرق القمر, وبنت القمر, والمدينة الجميلة , وتسأل نفسك ألآن وقد تخطيت الرابعة والسبعين : أهو المكان الذي سمعتَ فيه تلك الأغاني التي لازالت عالقة في خبايا الروح ؟ وبكيتَ فيه لحظات لن تعود ؟ وشربتَ خمور تمور تلك البساتين التي توارت ؟ ورأيتَ وجوه حبيبات غابرات ؟ وقرأت نشريات ذلك العمر الجميل ؟ حتماً لا, هذا محيط من الزمان والمكان لا أعرفه , بعقوبة أم خراب ؟ الجدٌّ والوقار ونحن نرتاد مكتبتها العامة ؟ أم فوضى ألأسواق وصيحات البائعين التي قضت على هدوء القراء الرزين ؟ .

لقد تأخرت (الولاية) كما يسميها أهلها الخلصاء عن ركب الحضارة , كأنه نهر جفَّ , ويحق لنا التساؤل : أين الذين فجَّروا مخيلتنا الشابة ؟ وصنعوا أناقتنا التي بهذلها القادمون من نواحي الظلام , وكانوا مبتدأ الفعل والمنتهى في الجمال والتحضر , واين وعود تلك ألأحزاب ذات الأيديولوجيات المتنافسة بوطن يشاهق الذرى ؟ صعقة مدوية لعقلك وأنت تُسائله: كيف جفَّ النهر؟ لن ترى ليالي هانئة بعدما هدموا نادي ذكريات شبابك الغابر , ولا تسمع اصداء اغاني العشاق الآملين بعدما حرموها , وسوف لا تقرأ كتباً تنير العقل حيث حلت ثقافة الجهل , وندر ان ترى طيور بيضاء فوق المدينة المقتولة.

آه يابعقوبة, ترى مَنْ سَمَّمَ الأرضَ , فأصابَها برُعافِ البراكين ؟ لقد تحققت نبوءة ذلك الشاعر البطران الذي قال : (الباء فيك زيادة وعقوبة سكناك) , تقف حروفـي بين جمر السطور, تمارس العزف على أوتار ذاكرة أبت أن يطويها السكوت , عٌنِدِمَآ نِشٍتّآقِ يِّعٌمَ آلَضّجِيِّجِ فيِ آلَشٍرآييِّنِ , وتّصٌرخَ نِبِضّآتّ آلَقِلَبِ وِآلآعٌصٌآبِ ترتجف , وِآلَعٌقِلَ فِّيِّ ذّهوِل , وتّعٌمَ آلَفِّوِضّئ فِّيِّ جِمَيِّعٌ آلَحٌوِآَّس, فقط حٌروِفِّگ تّګفِّيِّ لَتّهِدِء فِّوِضّتّيِّ , نداؤك مرتبك ومغلق وأبكم مع الرعب , لا وجود يلامس الاحتمالات الرائعة , كنت دفئا لا يوصف , وكانت لديك أيضًا أجنحة أداعبها , لتجيبيني بلغة شفافة بالكاد تلمسني , سجينة أنت , ووجه ُ أيامك مصفٌّر, ليس من لفحة ِ الشمس ولا من نور القمر, إنه من عضات القدر , وطفولتك البريئة منسحقة ذكرياتها, وسط عذاب حمى ليلة صيف ساخنة , ترتدين ملابس سوداء تجسد نكوص الكآبة لهذه اللعبة من الشرر, جاءك الزمن الأعمى والناس الخطأ , أدراج الشمس تحت ذراع نهرك قد شحبت , وغابت الأسماك في أوعية الجفاف , ولكن يبقى الأمل , لعل بعضاً من الأمل لا يزال هناك , في عقول جيل جديد , رأى كيف أن المناكفة سرقت من الولاية روحها , وأن الانقسام مرض العصر السياسي الذي لا منتصر فيه , وحتى المنتصر خاسر , ومهما فعل أبناؤها الأفاعيل فلا قلق , ولا خوف , بل نهر من الصبر طويل طويل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مجدى أحمد على عن -عصافير النيل-: قللت شجن الفيلم وإبراهيم أص


.. طرد بطل الفنون القتالية حبيب نور محمدوف من طائرة أمريكية




.. محمد الشرنوبي يتحدث عن رأيه فى فيلم بضع ساعات


.. مهرجان الأقصر يحتفي بالسينما الموريتانية في ندوة بحضور رئيس




.. عمر متولي يثير جدل في الوسط الفني بسبب حديث عن موهبة الراحل