الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاومة فوق القوة

سامح قاسم

2024 / 9 / 22
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


الحرب، تلك الكلمة التي تأخذنا إلى عالم من الفزع والدمار والفقدان، ليست إلا جزءًا من الطبيعة البشرية؛ صراعٌ تتشابك فيه القوى العظمى والمصالح الصغيرة، حيث تتسابق الأمم والجماعات لإثبات وجودها على حساب الآخرين. لطالما كانت الحروب جزءًا من تاريخ الإنسان، سواء أكانت ذات طابع قومي، أو ديني، أو اقتصادي. غير أن الغالب في هذا النوع من الصراعات هو تلك الديناميكية الأبدية التي لا تتغير: يبدأ الحرب الأقوى، لكنه نادرًا ما يستطيع إنهاءها، بل يسلم مفاتيح خاتمتها للأضعف.
في صلب كل حرب، يكمن تصور لدى الطرف الأقوى بأنه يستطيع حسم المعركة لصالحه بفضل قوته المتفوقة. وهذه الغطرسة تكاد تكون ظاهرة طبيعية في تاريخ الحروب. القوة تولد شعورًا بالسيطرة، وتجعل صاحبها يعتقد أن لديه الحق أو القدرة على فرض إرادته على الآخرين. من هنا، كانت الحروب تُعلن بأوامر من قادة أو دول تظن أنها فوق كل مقاومة.
نابليون بونابرت، اعتقد بقوته الهائلة، التي بسطت سيطرته على أوروبا، أنه لا يُقهر. لكن الحملة الروسية عام 1812 كانت بمثابة الكارثة التي أنهت طموحه الإمبراطوري. انطلق نابليون من قناعة بأن جيشه العظيم سيحسم الأمور بسرعة، متغافلاً عن قوة الإرادة الروسية وصلابة المقاومة، فضلاً عن الطبيعة القاسية. وفي النهاية، لم يُنهِ الحرب بانتصار مجيد كما توقع، بل انسحب منها بعد خسائر فادحة، لتبدأ مرحلة الانهيار على يد الطرف الذي بدا في البداية أضعف.
عندما ينطلق الأقوى في سعيه للهيمنة، يكون الأضعف قد اكتسب بالفعل قوة خفية لا يدركها الطرف الأول. هي قوة الصمود، واستيعاب الضربات، والقدرة على التحمل أمام ما قد يبدو وكأنه قوة ساحقة. الحرب ليست مجرد جولة واحدة، بل هي سلسلة طويلة من المعارك النفسية والمادية. وما لا يدركه القوي غالبًا هو أن الأضعف قد يمتلك قدرة على البقاء رغم قلة موارده، كما يقول الشاعر: "تطحن الحرب الأضعف ببطء، لكنها تصنع منه سيفًا لا ينكسر."
في الحروب الطويلة، يصبح الأضعف مرغمًا على إيجاد وسائل جديدة للبقاء، بدءًا من الاستراتيجية وصولًا إلى التحالفات. القوة لا تُقاس فقط بالأسلحة والجيوش، بل أيضًا بالعزيمة والإرادة. الحروب غير المتكافئة غالبًا ما تفضي إلى نتائج غير متوقعة، حيث تتغلب المقاومة المستمرة على التفوق العسكري الأولي. كان هذا هو حال حرب فيتنام، حيث دخلت الولايات المتحدة، وهي أقوى قوة عسكرية في العالم، على ثقة بأنها ستسحق المقاومة الفيتنامية بسهولة. لكن مع مرور السنين، وتزايد التكاليف البشرية والمادية، تراجعت الولايات المتحدة، وانهارت معنوياتها، لتنتهي الحرب بانتصار الطرف الذي كان يبدو أضعف.
لا تُحسم الحروب فقط في ساحات المعارك أو عبر الاشتباكات العسكرية، بل كثيرًا ما تكون النهاية نتيجة لصراع طويل على الجبهات النفسية والاقتصادية. الطرف الأقوى يبدأ الحرب بوفرة الموارد والعزيمة، لكنه يغفل أحيانًا عن الأثر النفسي الطويل المدى للحرب على جنوده وشعبه. الحرب، كما قال الشاعر الألماني برتولت بريخت، "تأكل أرواح الذين يديرونها قبل أن تأكل أجساد الذين يقاتلون فيها".
هذا التآكل النفسي يظهر بوضوح في حروب الاستنزاف، حيث يعتمد الطرف الأضعف على إجهاد خصمه عبر الزمن. وهذا ما حدث في حرب الاستنزاف التي شنتها مصر ضد إسرائيل بعد حرب 1967. فقد اعتمدت القيادة المصرية على إطالة أمد الصراع، وهو ما أدى إلى استنزاف الجيش الإسرائيلي ماديًا ونفسيًا، رغم التفوق العسكري الإسرائيلي الكبير.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الحرب تستنزف موارد الدولة القوية، مما يجعلها مع مرور الوقت غير قادرة على تحمل التكاليف الباهظة، ويجبرها على إعادة النظر في استراتيجيتها. كما قال ونستون تشرشل: "لا يمكنك شن حرب بميزانية مفتوحة دون أن تدفع الثمن لاحقًا". انهيار الإمبراطوريات العظمى، مثل الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، كان نتيجة لاستنزاف طويل المدى للموارد في الحروب.
عندما تشتعل الحروب، يبدأ الأقوى بخطة واضحة وطموحات عظيمة. لكن بمرور الوقت، تبرز تحديات لم تكن في الحسبان. قد يكتشف القوي أنه بات محاصرًا في مستنقع من النزاعات الداخلية والخارجية، مثلما حدث للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. إذ رغم التفوق العسكري، وجدت القوى العظمى نفسها غير قادرة على تحقيق أهدافها النهائية، وانتهى بها الأمر إلى الانسحاب، مسلّمة مفاتيح إنهاء الحرب إلى الأطراف الأضعف، الذين كانوا مستعدين للبقاء حتى اللحظة الأخيرة.
فكما يقول نيتشه: "من يقاتل الوحوش، عليه أن يحذر ألا يتحول هو نفسه إلى وحش". الحرب تبدأ عادةً بتطلعات نصر سريع وحاسم، لكن كثيرًا ما تنتهي بتعقيدات تجعل الطرف الأقوى مجبرًا على مراجعة حساباته، إما تحت ضغط الخسائر أو تحت وطأة الرأي العام الدولي والمحلي.
إذا كانت الحروب تبدأ في أروقة القصور والمكاتب العسكرية على يد الأقوياء، فإن نهايتها غالبًا ما تُكتب بأيدي الشعوب، التي تنزف وتدفع ثمن الغطرسة السياسية. الأقوياء قد يشعلون النار، لكن الأضعف هو من يطفئها، في كثير من الأحيان بعزيمته وصموده.
التاريخ مليء بالأمثلة على تلك الديناميكية، حيث تتداخل القوة والغطرسة مع الصبر والإصرار. وعلى مر الزمن، أصبح واضحًا أن الحروب لا تفيد أحدًا، ولا تحقق مكاسب دائمة للأقوياء، بل تترك الجراح العميقة التي لا تندمل إلا بالسلام، وعودة الحقوق لأصحابها.
وفي الأخير، ستبقى المقاومة الفلسطينية واللبنانية فوق كل قوة، وانتصارها على عدوها وعدونا الصهيوني وشيك لا محالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الإيطالية تعتدي على متظاهرين مؤيدين لفلسطين في ميلانو


.. الحكومة تعالج الاختلالات المالية من جيوب المغاربة #المغرب




.. تغطية القناة الأولى للجلسة الافتتاحية للمؤتمر الإقليمي لحزب


.. محمد نبيل بنعبد الله : صفقة أكبر محطة لتحلية المياه فازت به




.. علم الحراك الشعبي في سوريا لعام 2011 شوهد وهو معلقا خارج الق