الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعمال المهجر المسرحية

ياسين النصير

2006 / 12 / 27
الادب والفن


شاهدت خلال الشهرين الماضيين في بلجيكا وهولند ثلاثة اعمال مسرحية،وكلها لكتاب ومخرجين عراقيين. بعض ما شاهدته لا يمكن أن نطلق عليه صفة المسرح لكثرة اللعب العبثي فيه، وبعضه الآخر يقترب من العرض المسرحي ولو بمسافة يمكنه أن يعالج اخطاءه فنيا. المسألة التي نحن بصددها تتجاوز النوايا بتقديم عمل مسرحي إلى منهجية أن يكون ما يقدم هوعمل مسرح، ويبدو أن الكثير من الفنانين قد استسهل غياب الجمهور العراقي ذي الحس النقدي المباشر وصحافته ونقاده، وبدأ يمارس عمله بمعزل حتى عن أبسط الشروط الفنية لتقديم العمل المسرحي.وبدأ البعض يقترح اشكالا فنية وينظّر لفوضى تقديم الأعمال المسرحية وعد ذلك اكتشافا تباهى فيه في مؤتمرات يسافر إليها على حسابه الخاص. وقد شهدنا في السنوات الماضية عددا من الأعمال المسرحية المفبركة لتقديمها على أساس أنها أعمال لفنانين عراقيين جاءوا وهم محملون بطاقة وثقافة المسرح العراقي وحطوا هنا في هولندا وبلجيكا وانجلترا والدنيمارك والسويد ليقدموا لهم ثقافة متقدمة في ميدان المسرح، وبعد تجربة أو تجربتين لمس الجميع الفراغ الذي يعيش فيه بعضهم إلا القلة التي أخذت العمل المسرحي بمسؤولية، فقدمت نفسها ضمن ثقافة غربية متمكنة، ولم تدع لنفسها أنها قد عملت مجرى ومسارب في ثقافة أوربا!!! بحيث اصبحت نموذجا يحتذى به!! وطريقة تعوض الجمهورعما عرفوه عن قيم المسرح العراقي.من بين هؤلاء الفنان جواد الاسدي والراحل الدكتورعوني كرومي والدكتورفاضل السوداني وحازم كمال الدين -إلى سنوات مضت- وكاميران رءوف وشمال عبه رش.
في هذه المعالجة نحاول مناقشة ثلاثة تجارب مسرحية لشباب هواة ومحترفين قدمت في بلدان اوربية، لا تمتلك الاعمال من ثقافة المسرح الشيء الكثير لكنها يمكن أن تتطوروتنمو في مناخ الانتماء الحقيقي لفن المسرح وليس إلى الإدعاء الفارغ بامتلاك ثقافية لغوية لم ترق محصلتها إلى مفردات التسوق اليومية- عدا حازم كمال الدين-. والامر يبدو كارثة ليس في مجال المسرح وحده، إنما في عموم ثقافة شباب المهجر، خاصة أولئك الذين يبنون أنفسهم على تعجل دون حساب لتراكم المعرفة، ونشهد في مستويات نشر عديدة منها الصحافة الألكترونية أن الكثير منها لا يرقى إلى مصاف النص الأدبي. وهذه التجربة المريرة تعكس الطابع العجول لبعض الفنانين الذين تستهويهم المسارح والصحافة الأكترونية وهم لما يزالوا في عداد الهواة.
المسرحيات هي:
1- أطفال الحرب للمخرج الشاب علي ريسان - السويد.قدمت في المعهد الثقافي العربي في بروكسل.
2- مدينة السلام " السلاح"اخراج حازم كمال الدين - بلجيكا. قدمت في الاكاديمية الحرة في لاهاي.
3- امراء الجحيم اخراج فاروق صبري - نيوزلندا.قدمت في مدينة ابلدورن في هولندا.

الاعمال الثلاثة تضع المسألة العراقية بتعقيداتها موضوعا مشتركا،وتقدمه بلغات عربية وإشارية تجمع بين المباشرة الإدائية والأداء الإشاري لجمهور ليس كبيرا إذ لا يتجاوز جمهور اي عرض منها ال 30 شخصا. لعل عرض فاروق صبري أكثرالعروض جمهورا وهذا بحد ذاته يعكس طريقة انعزال هذا النوع من الممارسة الفنية عن قاعدتها الشعبية.



1- اطفال الحرب

يمتلك هذا النص كل مقومات العمل المسرحي الناجح ،ثمية مركزية غاية في الغني وهي " إلى الذين رحلوا قبل تفتح البيلسان" مستلة من عدد من النصوص الشعرية والنثرية لقاسم حميد فنجان ولطفية الدليمي وسلام عبود وعلي ريسان كما يمتلك العرض ممثلا جيدا ونصا مرنا متعدد الأشكال وسياقا فنيا بسيطا يبتدئ من الدخول لاكتشاف المنفى ويتنهي بتأبين رفاقه الشهداء في مقبرة على الطريق. وبلغة شعرية منتقاة وباقتصاد فني قدم علي ريسان تصورا جيد وملفتا عن قدرات النص الشعري على أن يكون نصا دراميا بخط فكري متميز.
بالطبع خضع العرض إلى مكملات اسهمت في شد لحمته الفنية ثمة ديكور موحي ومركز ومعمول بطريقة بسيطة مفرداته لا تخرج عن حاجة العرض كثيرا. لكن التعامل مع هذه المفردات وهو ما يكون رديفا فنيا للنص، لم يكن تعاملا مشبعا أو مكتفيا، وهو ما اخذناه على المخرج الممثل عند مناقشتنا معه. مما يعني أن العمل في المسرح لا ينقذه النص لوحده، ولا الممثل لوحده ولا الديكور لوحده ولا الجمهور المتعاطف لوحده، بل نجاح اي عمل يتوقف على قدرة المخرج على صهر كل مفرداته في بوتقة الفن. كان بامكان رمزية الأم أن تتسع علاقة الممثل معها وليس لمرة واحدة ثم نسيها معلقة على الحائط، لتتحول إلى أبعد من مستوى الامومة والعاطفة الملحقة بها لتصبح ارضا ، حاضنة أو حائطا لصلاة الشهداء، أونداء وصدى يتردد في ارض العراق،لاسيما وأنها تحتل مساحة يسار المسرح وهي بقعة موحية وغنية الدلالة. وبالمثل نجد أن مفردة الحقيبة وهي من اهم مفردات العرض حيث حملها على الظهر تعني أن زمنا ماضيا يثقل الشخصية بتبعاته ملتصق به، هكذا قالت لنا احدى حكايات الف ليلة وليلة من أي أحد منا لا يمكنه أن يتخلص من ماضيه الذي يبقى يحمله على ظهره اينما يرحل، لكن المخرج /الممثل لم يستثمرها بما فيه الكفاية بحيث يشبعها بقدرتها على ان تكون حقيبة، وبيتا، وصرارا، وصندوقا يحفظ، وملاذا يستشعره كلما فقد شيئا، فهي بيته الذي يحمله، وهي ذكرياته وهي ملاذه ومع ذلك وجدنا ان المخرج الممثل يقتصد بالتعامل معها ويتركها مرمية كاي شيء من اشيائه كما لو كان يريد اختصار زمن العرض وهو القادر على ان يشبعه بزيادة الحركة والفعل .
للعرض أدواة كثيرة لم يستثمرها وكان بامكانه أن يرسل أكثر من رسالة عبرها. فالحروب التي حدثت في العراق ليست بين طرفين متصارعين فقط ،بل قد تكون حروبا ذاتية، والعرض كان يوحي بكل أنواعها، حيث ان الهجرة لا تعد هربا من الحرب مع إيران مثلا بقدر ما كانت خلاصا من وضع داخلي ومن أجل الاستعداد للعودة ثانية، هذه الثيمة المبنية على وقائع سردها العرض لم تشبع جيدا وهو الامر الذي جعله يقتصر على استذكار اصدقائه الشهداء يوم كانوا أطفالا يلعبون ويشتركون في صياغة يومهم العادي. ولخص العلاقة مع الاطفال الاصدقاء الشهداء الآن بالمقبرة التي تحولت إلى ثيمة شعرية جميلة ولكن قاصرة وقصيرة اقتصرت على ذكريات صديقين أو ثلاثة فقط في حين أن العرض يحاكي جموعا لذا يمكن أن تمتد الفكرة إلى أصدقاء آخرين أو إلى الجمهور باعتبارهم مهاجرين يمتلك ان كل فرد منهم ذاكرة شهيد.
تعاني عروض الشباب من المخرجين خاصة في عروض المونودراما، وهي اصعب انواع العروض واكثرها صلابة،من كثرة الافكار والشخصيات ضمن طاقة ممثل واحد، مما يعني إثقالا على ممثل واحد أن يؤدي كل هذه الأدوار، لكن علي ريسان اختصر هذا المتراكم على شخصية واحدة فقدم ذكرياته عنها وهو ما يجب أن يكون. مثل هذا الاضطراب في فهم قوة ودورشخصية المونودراما لم نجده في عرض علي ريسان، مما جعل العرض يغتني بالمتابعة. فالمونودراما ليست خطا تصاعديا واحدا،بل هي عدة خطوط تسير سوية أو متتابعة في شخصية الممثل دون أن يفقد أحدها دلالته. ليس في عرض المونودراما زوائد، بل اقتصاد مكثف لكنه مكتمل، بحيث لانجد لفظة أو شيئا زائدا او مستعملا لأكثر من مرة واحدة. لكن بعض الثيمات الصغيرة المهمة وخاصة عندما تكون في بداية العرض لابد للمخرج أن يطورها وان يجعل منها ثيمة مشتركة تغني العرض بتدرجاتها الاستعمالية، ومنها مثلا، وهذا ما لاحظناه في خطوته وهو يدخل المسرح كاستهلال العرض الجميل والمكثف والمقتصد. بحركة مولدة مهمة وهي الكف المنفتح على ستارة سوداء، والقدم التي تخطو في أرض غريبة. هذه الثيمة البصريةالاستهلالية مهمة جدا لو استثمر المخرج قدراتهما وطورهما خلال العرض ولكنه قدمها ونسي دلالتها على خشبة ارضية الغرفة الصغيرة.لقد أهمل المخرج/الممثل هذه الحركة المولدة التي كان بامكانه أن يوسعها بالتعامل مع الكف وهوويلمس الاشياء القديمة او يقرأ الرسائل اويصافح بها الجمهور أن ان يحولها إلى حاملة ومحمولة لكنه نسيها وبدأ بتجميع حركات مفترقة ليس لها تأسيس في العرض مثل البكاء أو الوقوع أرضا..ومن الثيمات الصغيرة التي طورها وأغناها تلك النغمة الإيحائية التي ولدها غياب اصدقائه فقد جعل منها نغمة جماعية وأنشودة يشترك بها الجميع عندما تحولت من خطاب الذات إلى خطاب الجماعة.
ثلاث صفحات هي كل النص الذي بين أيدينا ولكنها ثلاث صفحات ممتلئة بالشعر العراقي الذي لم يكتبه أحد، بل كتبته المآسي والحروب فجاء على ألسنة شعراء وكتاب وممثلين وجمهور يستصرخ فينا المشاركة ويتقدمنا حيث لا نعرف اين نسير إلى المنفى مكان استعادة الذكريات، أم إلى الوطن حيث المقابر تسد نوافذ العيون؟. لا ندري صرخ الممثل بوجه جمهور لم نتعود أن نموت مرتين: مرة ونحن نسافر خارج بلدنا، واخرى حينما نستعيد ذكرى من فقدنا. كلنا كما يقول برخت صدى للآخرين ولكننا في لحظة ما نستقيم عندما يعود الصدى ليس إلينا نحن المنتظرين، بل إلى تلك الشواهد التي ملأت ارض العراق علها تستيقظ.
نحن اطفال الحرب،
يتامى رغم انوف أبائنا الأحياء،
ولدنا على دمدمات المدافع
ورضعنا زئير الراجمات،
كان ابي نجارا، يصنع توابيت الذين يساقون إلى انتصارات مؤجلة،
وأمي تخيط رايات سودا وأعلاما وطنية يرتجف في قلبها الله محاصراً،
بمثل هذه النشيد، الصدى ، يقرأ علينا علي ريسان رسالة الموتى الأحياء فينا.


2- مدينة السلام "السلاح"

يلعب الشاعر صلاح حسن مؤلف لأجزاء من هذا العرض المسرحي غير المستقر كما سنرى على الحرف الاخير من "مدينة السلام" وهي بغداد فيغير الميم إلى حاء لتصبح "مدينة السلاح"،وهو لعب شعري كنا نأمل ان نراه مجسدا بلغة فنية مفهومة ومدركة من قبل جمهور تعود من حازم كمال الدين أن يقول شيئا افضل مما قدمه في هذا العرض، وهو الذي يمتلك سجلا فنيا كان في مقدمة الفنانيين التجريبيين الذي يمكن ان يكون لفنهم تيارا واتجاها لاسيما في منطقة عربية قلما اشتغل ممثلوها ومخرجوها على الجسد.وكنت من المتابعين لعمله في بلجيكا وقدمت تصورا جيدا عن قدرات هذا المخرج وهويصهر تيارات الحداثة في أعماله ولكني منذ مسرحية " راس المملوك جابر" لم أجد له عملا يتواصل به مع اعماله السابقة. لقد اغرق نفسه وأداته بتجريد الجسد من اي حركة دالة بعدما كان يربط كل حركة بمراكز افعال الجسد، حتى أنه قدم تصورا جيداً في أعماله السابقة عن هذه المراكز التي كانت واحدة من قدراته الذاتية على جمع مايرخولد مع جروتوفسكي مع المسرح الياباني مع التراث الشعبي في استراليا. وكنت اشاهد في بيته أفلاما عن هذه المدارس وهو يخضعها لتجريب فني متميز في اعماله التي ألف معظمها. لكن حازما الذي انشغل بما هو غير مسرحي، ضيع علينا وعلى فنه قدرة كنا بأمس الحاجة إليها، وهي تريبة قدرات الجسد الشرقي على أن يستوعب حكايتنا المتشعبة بطريقة اكثر جمالية وقدرة على توضيح ما التبس في اللسان.
ماذا قدم لنا في مدينة السلاح؟
النص الذي الفه الشاعر صلاح حسن لم نجد منه اي إشارة دالة على أن بغداد تحولت من مدينة السلام إلى مدينة السلاح،سوى وجود شخصيات شبة ملتبسة القول والحركة كما لو كانوا في مستشفى للمجانين،وكان ذلك ممكنا ومقبولا لو أن المخرج بررلنا فنيا هذه الحال،بدأ العرض وثمة ثلاثة جثث تتوزع المسرح،وهي ثيمة يقول صلاح حسن عنها أنها مكتوبة كقصيدة وحولها المخرج إلى مسرحية، ثم حول نصها إلى حركات؟ يمكننا أن نتصورأن اللفظ يتحول إلى حركة وهو لم ينطق به إذا كانت الحركات مفهومة،فالصورة العيانية التي شهدناها للحركات لم نفهم منها أنها كانت شعرا وتحولت إلى حركات.. علنا ندرك هنا أن التجريد مهما كان يترك خيطا منحنيا واحدا دالا على احتواء الصورة الفنية الموحية باشكال على لوحة يرسمها ممثلون.ولكن وجدنا أن ما قدمه المخرج كان خاليا تماما من اي دالة على أن بغداد تحولت إلى مدينة للسلاح، سوى ان الممثلين الشباب الذين جاءوا من العراق إلى بلجيكا وتعامل حازم كمال الدين معهم كنص ليقدمواأنفسهم عملا فنيا بدا غير مترابط العلاقة بينهم كمهاجرين وقصيدة لم لم تكتب عن معاناتهم، بل كتبت بمعزل عن فكرة وجود ممثلين شباب جاءوا ليقدموا معاناتهم هنا.هذه المفارقة التي اشتغل عليها المخرج لم نجد لها دالة في التمثيل والعرض. فكان جهد وطاقة الممثلين الشباب لوحدها هي العرض البصري .هذه الطاقات الرائعة والمهمة هي روافد لمسرحنا العراقي مستقبلاً ولكن ليس بهذا العرض المشتبك مع نفسه وغير القادر على ايضاح اية فكرة، هل هي فكرة الشباب القادمين إلينا ليحكوا قصتهم كما بدا لنا من العرض وكما وصلنا عبر الشرح الذي رافق الدعوة؟ أم أنهم جاءوا ليمثلوا قصيدة لصلاح حسن حولها المخرج إلى حركات توضح معانانة مدينة تحولت من مدينة السلام إلى مدينة السلاح؟. ضمن هذا المناخ الملتبس تقع الكثير من العروض المسرحية في تبسيط فني محاكية لحاجة العراقيين إلى استدعاء الدموع والآهات على ما مضى، كما توضح كم هي هذه الذاكرة قادرة على استعادة ما مضى بناء على حضور الدماء والقتل في الحاضر. الشاعر هنا لم يكتشف شيئا جديدا بقدر ما يعيد علينا حكاية السلاح الذي تمتلئ به بغداد دون أن يقول ولوبسطر واحد ما جدوى هذا السلاح ومن هم القائمون عليه.كنا بامس الحاجة إلى ان يمثل لنا هؤلاء الشباب ليس النتائج التي انتهى إليها العراق، بل الاسباب التي دفعت الآخرين كي يوصلوا العراق لمثل هذا الوضع وهم بالطبع كمهاجرين جزء من هذا الوضع المأساوي,
يبتدئ العرض بفترة صمت قاتلة استمرت حوالي عشر دقائق كانت ثقيلة ومربكة لا نرى فيها إلا ساحة عريضة غير ممنهجة فنيا تتوزعها اكفان لجثث ثلاث، مقمطة ومدفونه في العراء، وبدون ادنى فعل ينهض احدهم ثم الثاني بينما يقطع الثالث المنطقة بحركات تجمع بين الهستريا والجنون، وكأننا في مسرح جان جينيه حيث المستشفى هو المكان الأكثر ملائمة لسرد حكاية جنود نهظوا من مقابرهم أو تلاميذ مدرسة عادوا بعد فصل مدرسي دموي أو جماعة عمال لم يجدوا عملا غير دفن ذكرياتهم، فعادوا للبيت فارغين منها. هذه الثيم الشعرية هي الاكثر ملائمة لهذا العراض ولكننا لم نجد اي واحدة منها فيه. بعد دقائق من افعال غير دالة ينتفض احد الاكفان ليخرج منه شاب مهووس بالحركة الصامتة وبالكلام غير المفهوم وسط لعاب يسيل كما لو كان في جيفة أو مزبلة نتنة،ويتحرك باتجاه الأخر الذي بدا هو الأخر ناهضا إلا من ملابس رياضية يلتقيان وسط ارباك الصورة متعانقين وغير مدركين أنهما كانا معا في الموت، ثم يلتحق بهم شاب كان طوال ربع ساعة مبحلقا باحد الجلوس الذي سبب له ارباكا هو جزء من فعالية تجميد الرؤية على متحرك، لكننا لم نجد له فعلا دالا فقط ان الحركة كانت مشحونة بفعل لاارادي عبثي، ثم يتحرك الجميع دون هدف وسط انارة ارضية ليخرج لنا في اخر العرض المخرج مقعدا يسيره الاخرون على كرسي يجيب عن اسئلة المدينة والحرب والسلطة باللغة الهولندية المتقطعة التي لا يفهم منها لواصطحبتها الحركة اي فعل دال.العرض كله كان صامتا إلا من حوارات لم تغن المشاهدين مما يدل أن التجريد الذي اعتمده المخرج وضيع فيه نص القصيدة أو ما يجب ان يظهر لنا بالحوارات هو الاساس لاسيما وأن اربعة شخصيات كانت كافية لتقليب مدينة السلام إلى مدينة السلاح، ففقدنا اية صورة عن وضع العراق إلا من خلال صور محبطة لجيل من الشباب فقدوا الأمان والثقة حتى بانفسهم. نسأل مؤلف المسرحية صلاح حسن فيقول أن العرض كان منسجما وأهداف القصيدة،وأن العرض هو الذي كتبته، وعندما نسأل المخرج يقول ان لاعلاقة لقصيدة صلاح بالعرض المسرحي لانها لم توظف فيه إلا في مقطعها الأخير، العرض كما يقول مخرجه اعتمد ثيمتين: الصمت والحركة وهما لاعلاقة لها بالشعر المكتوب، بل بشعر الصورة الأخراجية وانت اين تجد النص ؟ لاشك أن اضطرابا للقيم الفنية يجعلنا في المهجر نفقد اي صلة بفن المسرح.
على ارضية باردة وعادية حرك المخرج بيادقه البشرية بتوزيع جثث قتلاه الأحياء على خط مستقيم، وكأن الاخراج الاحادي حيث حركة لشخص واحد يتبعه الأخربحركة أخرى،هو أن الشكل الفني الذي اعتمده حازم كان شكلا مدرسيا بعيدا كليا عن فنية الاخراج الحديث. لقد جعلنا نرى الجميع يتحركون على خط مستقيم واحد مرسوما بحبل حاول الممثلون أن يحعلوا منه اسيجة ارضية يحجزون به ممثلا عن آخر ليقول شيئا ضمن موقعه. حتى هذه الثيمة الشعرية المكانية البصرية فقدت قيمتها عندما لم توظف بناء على تطور الافعال، بل جعلها المخرج فواصل غير ممنهجة في جسد العرض لكسر الملل الذي اصابنا. اين الصمت وفعل الاستهلال الذي بدأ فيه العرض واستغرق عشر دقائق؟ إذ كان بامكانه أن يستثمره في العرض وفيه فواصل كثيرة يمكن ان تستفيد من ايقاع الصمت لردم مناطق كثيرة بين حركة واخرى، لكن المخرج كما يبدو نسي ما استهل به مسرحيته فقدمها عارية من افعالها الدرامية بخط مستقيم يتأرجح بين يمين المسرح وشماله متناسيا بقية بقاعه.
ثلاثة اشياء لم يكن العرض موفقا بها:
الأول: هو ان ما قدمه حازم كمال الدين كان ادنى من العادي قياسا لما قدمه سابقا من اعمال مميزة جعلت منه فنانا يمتلك اداة فنية متميزة ونادرة وهي ثقافة الجسد فنيا حينما وظفها توظيفا شعريا جماليا في اعماله السابقة التي شكلت رصيده الفني فكان يقتصد بها الكلام ويختصر فيها الشروح.
الثاني: عدم استثمار قدرة الممثلين الشاب المتميزة على الاستجابة وردود الافعال، وهي امكانات جيد يمكن استثمارها في اعمال ليست تجريدية تضيّع عليهم تربية قدراتهم وهي في أولياتها، بل في أعمال درامية فيها نص متميز وخطة إخراج واضحة. وخشيتي ان يضيع هؤلاء الشباب إن هم استمروا على مثل هذه الأعمال غير المدركين لابعادها الفنية وقد تغيّب فيهم وعي وفهم العمل المسرحي الملائم لقدراتهم الذهنية والتجريبية.
الثالث: أن ليس كل نص لقصيدة يمكن أن يكون نصا مسرحيا، فالدرامية ليست اصواتا تتعاقب على الحضور الصوتي ولاهي فكرة مغربة تلعب على الجناس والمفارقة اللفظية، بل هي فعل درامي له شروط ادنى تميزه عن القصيدة وعن المسرحية المكتملة. وعندئذ يمكن لاي نص شعري ان يوظف واي مخرج يمكن أن يستل منه شعيرة، صلاح حسن ليس كاتب مسرح بالرغم من أنه خريج مسرح هو شاعر يمتلك صوتا دراميا وقد قرأ نصا في بروكسل فكان نصا شعريا جيدا.لكن ما سمي بمسرحية هنا في هذا العرض فهو بعيد بسنوات ضوئية عن فن المسرحية.
وعندما نبدي ملاحظاتنا التي تبدو قاسية فذلك ان حازما ليس متدربا جديدا ولا هاوياً، بل هو فنان محترف وله أعمال جيدة وسجل فني يشار إليه. ولكن ثمة تراجع ربما سينتبه له لاحقا ليعيد نفسه إلى مسارها التجريبي السابق بعد ان يترك الثانوي- وما أكثره- الذي أغرق نفسه فيه خلال السنوات الثلاث الماضية.


3-أمراء الجحيم

للقادم من نيوزلندا لتقديم عرضه المسرحي في هولندا فضل كبير وهو يقدم جهده الفني لنا بطريقة لا تخلو من مغامرة.هذا الفنان هو فاروق صبري ونص مسرحي كتبه الشاعر عبد الرزاق الربيعي ثم غير المخرج من سياقاته بناء على رغبات دفينة لدى كل المخرجين من أنهم لابد وأن يتدخلوا على نصوص غيرهم ليثبتوا أنهم هم أيضا كتاب مسرح، وهذ الطريقة لم تخل منها العروض الثلاثة التي نتحدث عنها الان، وهي طريقة غير منهجية للعمل المسرحي.
الفكرة يوضحها عنوان المسرحية "امراء الظلام"وما اكثر الأمراء في العراق وما اكثر الظلام والظلامية الذي اعتمده هؤلاء التكفيريون كطريقة لدمار العراق وإنسانه.المسرحية لا تخرج عن هذا السياق، سياق ان يكون "ابو دلامة" وهو رجل دين يجند المخربين لعمل انتحاري في العراق، وهؤلاء المخربون من جنسيات عربية واجنبية جاءوا العراق لا ليمارسوا فيه تجارة أو سياحة أو للحصول على معرفة، إنما ليدمروه. ووسط تبدلات المشاهد واللغة المنطوقة والحوارات، يستبطن ابو دلامة- فاروق صبري- كل الشخصيات التي جندها لتدمير العراق بطريقة ان تكون المونودراما قادرة على تقديم عدد من الأفعال المتشابهة باسلوب واحد. كل الشخصيات النسائية والرجالية جندهم بالطريقة نفسها، وقاموا بالاعمال نفسها،ولذا كان كل ما في العرض هو تكرار لنموذج واحد. وهو ما يغاير مفهوم استعماله للأقنعة التي يستبطن من خلالها حيوات تلك الشخصيات التي يجندها،واعتقد ان استعماله للأقنعة لم يكون موفقا، فلماذا يتقنع بهم وهم الذين ارتضوا أن يعملوا تحت امرته؟هل فهم فاروق صبري مهمة القناع والذي يستعمل غالبا لما يغاير الشخصية المحورية فيستبطنه الممثل كي يظهر المتناقض فيه لا المتوافق معه؟ الشخصيات الانتحارية وابو دلامة على فكر واحد وسياق حياة متشابهة فلم القناع إذن؟. كل ما سمعناه أن الشخصيات تحكي عن حياتها قبل الانتحار، وهي حياة لم نجد فيها مفارقة تخالف سياق العرض بل تكرره، كانوا متخلفين بالرغم من انتمائهم لفئات شعبية، واصبحوا بعد موافقتهم أكثر تخلفا. إذن ما هو دور القناع فنيا كي يستخدمه المخرج؟وهو الامر الذي كان الشكل الاكثر حضورا في العرض كله.إن استخدام الاقنعة طريقة سهلة، لكن دلالتها تبدو في هذا العرض بعيدة عن الفنية. في حين نسي المخرج التعامل مع مجموعة من الجماجم جمعت في شبكة مدلاة من سقف المسرح إلا مرة واحدة كان بامكان هذه الثيمة البصرية أن تدخله إلى حياة الذين قتلهم الإرهاب ومن هناك نسمع قصص حياتهم ومواقفهم ولكن المخرج لم يدرك ان هذه الشعيرة يمكن ان تنقذ عرضه الأحادي.فنسيها واهملها وهي تحتل أهم بقعة في المسرح. ولذا لم تدخلنا المسرحية لجوهر فعل التدمير الذي يؤمن به هؤلاء عن قناعة دينية ثم يقدمون إلى العراق لتنفيذه. هذه الطريقة البسيطة التي تظهر لنا أن العدو غبيا وسهل الاقناع لمجرد أنه متدين بطريقة سلفية، لم تعد صالحة للمسرح الذي يسعى لتقليب الحدث على اوجه درامية مختلفة،كي يكشف عن طريق الفن مستويات الإيمان الزائف باستخدام المفخخات والاحزمة لتدمير الناس. لقد قدم فاروق صبري الانتحاريين بطريقة تبسيطية وغير مقنعة، وليس بطريقة درامية تكشف عن اعماق ايمانهم الزائف. ولا فاي عمل فني من هذا النوع لا يختلف عما تبثه الفضائيات ويكتبه الصحفيون المرتزقة في الصحافة الألكترونية عن العراق وهم في غرفهم أو ماخورات أوربا. مثل هذا النص بعيد عن المسرح، بل هو عمل دعائي لاقيمة فنية له. فما سمعناه وشاهدناه في العرض هو ادنى بكثير من اخبار الصحف وتقارير المراسلين في حين نتطلع إلى حوار درامي يقلب فكرة الانتحاريين على أوجه مختلفة، حوار مترفع عن العادي وغائر في فكر الشخصيات الممسوسة وكاشف عما هو غير متداول اعلاميا. ولكن كما يبدو، أن المخرج قد بسّط العمل، وجعله يسير في خط درامي واحد، وهو مما نسمعه ونقرأه.فكان الواقع الذي نعيشه اغنى واقوى حضورا من الفن، في حين أن الفن لايستحي من الواقع وتقع على الفن والفنان مهمة كشف الواقع وتعريته وإدانته والبحث عن جذور ظاهرة الإرهاب ومسبباتها والحواضن التي تعشعش فيها هذه الموبقات الفكرية.
على الجانب الفني كان ديكور العرض المسرحي الذي صممته الفنانة رملة الجاسم موحيا ممتلئا بالشعر، بطريقة استخدمت فيها المزج بين مناخ ديني سلفي وجو ممتلئ بالانتحاريين ومثلت ذلك كله برمزية الكتابة العربية على ستائر سود جمعت فيها بين لافتة التعزية وتراث الأمة الشعري والمدونات الدينية. هذا التكوين الشعري الذي ملأ المسرح صاحبته ملحقات فنية وادوات لم تستثمر في العرض، حيث ان فضاء المسرح كان بامكانه لو تعامل المخرج الممثل معه لاغنى العرض. وطوال ثلاثة ارباع الساعة كان الممثل مواجها للجمهور بينما بقيت خلفيات الديكور بلا علاقة أو مشاركة فعلية مع العرض وهو ما يجعل العرض المسرحي غنيا بالدلالة لو كانت الشخصية المحورية ابو دلامة مهئيا لتأسيس علاقة متهجية بين فكره وفكر تلك الكتابات اتفاقا معها أو اختلافا، لدلنا وبوضوح ان الحاضر وفق ما يفكرالتكفيريون والسلفيون به مرتبط بالماضي.ولكن كما يبدو ان المخرج الممثل فضل ان يكون خطابه مباشرا كما لو كان يقف خلف مذياع. وترك هذه البقعة الواسعة من خشبة المسرح بلا فعل أو علاقة. مثل هذه العروض تنفعها المساحات الصغيرة حيث الكثافة البصرية تعني تركيزا في المشاهدة وربطا لمفاصل العمل.وليس فضاء واسعا لم يستغل وهو ما اضعف العمل بصريا.
بقي أن ندرك أن الفنان فاروق صبري القادم من استراليا ليقدم عمله لنا لم تكن الظروف مؤاتية له كي يستكمل عمله بما ينسجم وحاجة المسرحية إلى التكامل، ثمة عوامل كثيرة كماشرح لي منعت اكتمال العمل كما يجب أن يكون من بينها انشغاله بمرض اخيه- نأمل له الشفاء- الذي اهدى العمل المسرحي له.ومن بينها أن تجربته هذه ليست إلا بداية للعمل في مواقع أخرى سيستفيد من الملاحظات التي تقال، وبالطبع ينصب هدفي في هذه الكلمات في هذا الإطار هو أن يكون العمل اللاحق اكثر ملائمة لفكرته.
وتحياتي لجميع الفنانين المشاركين وبخاصة الشباب الذين قدموا من العراق برسائل فنية بشرية إلينا.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان