الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في المجتمعات العربية:
خيري فرجاني
2024 / 10 / 7مواضيع وابحاث سياسية
تعتبر إشكالية علاقة المثقف بالسلطة من الإشكاليات المعقدة والمركبة، وذلك لتداخل وتعقد عناصر المشكلة، وتداخل المفاهيم والمصطلحات الخاصة بالمشكلة، ومن ثم يتعين علينا أولا توضيح لمفهوم المثقف، كما نحتاج لتوضيح مفهوم السلطة وتحديد أي نوع من السلطة نقصد. فهنا السلطة الدينية والسلطة الزمنية، وكذلك السلطة المطلقة والسلطة المقيدة، وأيضا سلطة رجال الدين وسلطة المقدس أو الدين نفسه.
ومصطلح المثقف هو مصطلح غربي النشأة ظهر ونما بعد قضية "درايفوس في فرنسا"، وكان رائده الروائي "إميل زولا" في أعقاب الحرب العالمية الأولى. مع صدور بيان المثقفين في قضية "ألفريد دريفوس"، ذلك الضابط اليهودي الذي اعتقلته فرنسا في غويانا سنة 1894 بتهمة تجسسه لألمانيا، فظهر المثقف المهتم أو المتابع في مجال بعينه أو في مجالات متقاربة.
أما بخصوص العلاقة بين المثقف والسلطة، فإنه يجب أولا أن نفرق بين السلطة المطلقة، وبين السلطة المقيدة، فالسلطة المطلقة كانت في معظم فترات التاريخ العربي والإسلامي، وتاريخ أوربا قبل الحداثة المعاصرة، فإن العلاقة كانت دائما متوترة، بل علاقة عدائية في جوهرها، كما كان الأمر في العلاقة بين فلاسفة التنوير والسلطات السياسية والدينية في أوربا. أما السلطة المقيدة، فلم تتحقق إلا مع دخول عصر الحداثة في أوربا، حيث العلاقة بين المثقف والسلطة لم تعد بتلك العدائية، فالمثقف ينتقد والسلطة تستفيد، حتى وإن لم تستفد فإنها لا تستطيع كتم فمه أو كسر قلمه، طالما كانت السلطة مقيَّدة بقيد القانون.
بينما ظلت العلاقة بين المثقف والسلطة في المجتمعات العربية المعاصرة هي العدائية والتوتر كما كانت طوال التاريخ العربي الإسلامي، مهما كان الشكل الحداثي أو المعاصر الذي تتخذه الدولة، إلا في بعض المراحل التاريخية القصيرة كاليبرالية المصرية قبل حركة يوليو عام 1952م. وكما لا يخفى على أحد أن ثمة توتر يشوب العلاقة بين المثقف العربي والسلطة في مجتمعاتنا العربية، ففضاء المثقف هو الحرية والنقد المفتوح، فمهمة المثقف هي أن يوقظ المجتمع وينبه الآخرين فهو وُجِدَ لينتقد. أما فضاء السلطة، فهو فضاء السمع والطاعة المطلقين دون إبداء أي رأي. فكما تعودنا فإن الرأي هو شق للصف وخروج على الإجماع، كما هو مألوف في تاريخنا العربي الإسلامي.
والحدود واضحة في الثقافة الغربية بين المثقفين والمفكرين والمبدعين. أما في الثقافة العربية فإن الحدود غير واضحة بين المثقف الذي هو قارئ ومتتبع بالأساس، وبين المفكر أو المبدع، وغالبا ما يتم إدماج الجميع داخل صيغة واحدة هي صيغة المثقفين، كما يتميز المثقف العربي بطابعه الموسوعي وتعدد اهتماماته وبنزعة تربوية، بل أبوية أحيانا تجاه مجتمعه. كما ينغمس في العمل السياسي لأنه يعتبر نفسه ضميرا للشعب، ويرى أن مكانته داخل المجتمع توفر له نوعا من الحماية، وأنه يستطيع أن يصير إحدى القنوات التي يمكن أن يمرر من خلالها الخطاب السياسي في غياب المؤسسات الإجتماعية والسياسية التي يفترض أن يمر هذا الخطاب عبرها.
وعندما يتحول المثقف إلى مؤدلج بأيديولوجيا السلطة، بحيث لا يعود النقد أحد مكونات فكره، كما هو الحال في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، فالمثقف المؤدلج يبرِّر للسلطة مواقفها مهما كانت هذه المواقف فهو مع السلطة دائما، ويفرق "أنطونيو غرامشي" بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي أو العادي. حيث ان المثقف العضوي هو المنغمس في مشاكل المجتمع ومعضلات الجماهير، اما المثق التقليدي فهو المتمحور حول ذاته، أو ذاك الذي يعيش في برجه العاجي، منعزلًا عن الجماهير وعن المجتمع الذي يعيش فيه. فهو يريد إعادة تشكيل الواقع وفق قناعاته المطلقة التي تشكل ثوابت لديه، حتى لو اصطدمت بمتغيرات الواقع.
فالمثقف المؤدلج هو الذي يتبنى نموذج واحد غير قابل للتغير، كما تفعل السلفية حين لا تعترف بمتغيرات الزمان والمكان، وتتخذ من لحظة تاريخية معينة نموذجًا لها غير قابل للتغيير. أما المثقف المعرفي، خلافًا للمثقف الأيديولوجي، هو ذاك الذي لا يقطع الحبال مع السلطة؛ فالتاريخ يعلمنا أن الفكرة، أو الحركة الفكرية، لا يمكن أن تُؤتِي ثمارها وتتجسد واقعًا دون أن تدعمها سلطة ما، سواء كنا نتحدث عن مذاهب دينية أو فكرية، فلولا الدولة البروسية مثلًا، ما كان للوثرية أن تتجسد واقعًا، ولولا الدولة السعودية ما كان للوهابية أن تنجح. أما المثقف "الأنتلجنسيا"، هو ذلك المثقف الذي يقف على مسافة بعيدة من نظام قائم. ويكون أكمل تعبير عن "الأنتلجنسيا" بالأخص الدعوة إلى تصورات مستقبلية تبشر بنظام جديد يحل محل النظام القديم.
والواقع أن المجتمعات العربية لم تمر بعصر التنوير، ولا عصر الثورة علمية، ولا ثورة بورجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة، وأن كل ما حدث عندنا منذ الحملة الفرنسية 1789، لا يعدو أن يكون اتجاها إصلاحيا توفيقيا، استند إلى التراث حينا، وإلى الثقافة الأوربية حينا، وإلى الاثنين معا في بعض الأحيان، وانعكس هذا في الثقافة وهو ما ولد لدينا مدارس فكرية وسياسية ضعيفة ومقلدة؛ وعليه فنحن هنا أمام مفهوم للمثقف لا ينسجم مع المفهوم الأوربي المعروف، ويترتب على ذلك أن يتسع مفهوم المثقف ليشمل متعلمين لا يمتلكون ثقافة حقيقية. ولكنهم على قدر من الثقافة بالنسبة لمجتمعهم المتخلف. وذلك لأن المثقف العربي يخضع للشروط السياسية والإجتماعية التي تخضع لها الأمة، لأنه يعيش في مجتمع متخلف تقوم فيه أنظمة رجعية قمعية تحارب الثقافة وتطارد الوعي.
ومن ثم فإن المثقف العربي يواجه تحديا كبيرا أمام الظروف الغير ملائمة لتطور الثقافة والوعي، حيث ان التخلف يضعف الثقافة، والقمع يجعل المثقف خاضعا للسلطة، وقد تغير وضع المثقف اليوم عما كان عليه في الماضي، فالمثقف اليوم لم يعد في مجتمع تغلب عليه الأمية، وليس ذلك الذي يقرز الشعر في المناسبات، وليس ذاك الصوفي المعزول عن المجتمع، فقد أصبحت مهمة المثقف أن يتأمل ويستنبط من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهو الذي يعي روح العصر ويندمج فيه، ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وجعلهم أكثر إنسانية، لكونه يشكل شريحة متميزة داخل المجتمع فهو يسعى دائما إلى تعديل القيم.
فالمثقف يتموضع ضمن ثقافة معينة ناتجة عن الخبرات الإجتماعية والثقافية في مرحلة محددة، ويساهم في هذه الثقافة بالإنتاج والتطوير، حيث يضع باستمرار أساسيات هذه الثقافة موضع البحث والنقد، فهو محافظ على ما هو مألوف وناقده، وهذا النقد عمل شاق فالإختلاف عما هو مألوف أمر ليس سهلا؛ لذا فإن نجاح دور المثقف يقتضي استقلاليته في الرأي والفكر، وعدم تبعيته لسياسة السلطة أو بالأحرى وجوب عدم تبعية الثقافة للسياسة، مع ضرورة تعزيز العلاقة بين المثقفين والسياسيين.
وعلى المثقفين العرب العمل على توحيد جهودهم الفكرية والثقافية من خلال النقابات والمهن التي ينتمون إليها، والإتفاق على نقاط محددة تبين بوضوح مجال نشاطهم الثقافي والسياسي، حيث ان التخلف والأمية الفكرية منتشرتان بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية مما يزيد من أهمية وصعوبة دور المثقف. فهم مطالبون بحكم وظيفتهم العمل على نشر الوعي في المجتمع، بيد أن هذه الرؤية لم تتكون بعد عند المثقفين العرب أو رجال الفكر العربي، أو لم تتكون إلى الحد الذي يجعلهم فاعلين ومبدعين في مجتمعهم أو حتى في اختصاصهم.
فالقيادة السياسية العربية في معظمها لا تعي دورها التاريخي، فهي قيادة جاءت نتيجة ظروف معينة في كثير من الأحوال، كما أن معظم هذه القيادات لا تحترم الثقافة إلا باعتبارها مظاهر فحسب، وبالتالي فهي تُخرج المثقفين من المشهد وتحولهم إلى هوامش في السياسية. وفي المقابل فإن القيادة الثقافية أيضا لا ترى لنفسها دورا رئيسا في النضال ضمن الحركة الشعبية، ومادامت كذلك فهي لا تستطيع أن تساهم في المشروع الحضاري العربي المنشود. ومن أهم الإشكاليات التي تواجه المثقف العربي، وتحول دون ممارسته لدوره، وتقلل من فاعليته، ما يلي:
أولا: نخبوية الثقافة والمثقفين العرب، هذه النخبوية تعبر عن وجودها بشكل قطيعة بين المثقفين والناس العاديين الذين يفترض أن المثقف يتكلم باسمهم، ويوجه خطابه لهم. الأمر الثاني: هو عدم تحديد الأولويات، فإن المسألة الوطنية ودورها في تحقيق الكيان القومي وبناء الوحدة العربية، قد شاطر المسألة الإجتماعية الإهتمام الأكبر. وثالثا: عدم الفصل بين ماهو عملي وما هو نظري فالفكر يرتبط بالواقع في عملية تأثير وتأثر متبادل، وهذا الإرتباط هو أساس المعرفة ويعبر عن وحدة النظر والعمل. فالنظر غير منفصل عن إبداعه لواقع جديد.
هذا بالإضافة إلى ضرورة أن يكون للمثقف موقف من القضايا العامة وأن يعمل على توجيه الرأي العام والتأثير على السلطة، وهو ما يفتقده المثقف العربي، فقد واجه رواد التنوير الإستبداد كنظام وأيديولوجية، وأرسوا مبادئ التعاقد والحرية والمصلحة العامة، وكانت هذه ممهدات لتأسيس دور المثقف في المجتمعات الغربية الديمقراطية. فلا بد للمثقف من النضال الثقافي للتمهيد للديمقراطية حتى يكون للمثقف دوره في عملية التغيير.
وعلاقة المثقفين بالسلطة، تبدأ بحد اللامبالاة، مرورا بأشكال أخرى مثل علاقة الوصايا أو الإضطهاد أو المشاركة الحرة أو التحالف العضوي بينهما. فالنظام لا يمكنه أن يحيا بدون وجود سياسة عامة هي التي يضفي بها الشرعية على خطابه وتحركاته وأجهزته ووعوده وممارسته، والمثقف وحده هو الذي يمتلك إمكانية إنتاج هذا النوع من أنواع الخطاب، وهو بذلك يلعب دورا هاما ورئيسا بالنسبة للسلطة فمن يملك الكلام، فإنه لاشك يملك من خلاله سلطة للجذب يمكن أن تخترق حدود الشعور إلى دغدغة ما هو مستقر في اللاشعور. ومن هنا، يمكنه فرض أسلوب معين من النظر . فالمثقف الحقيقي هو الذي يستهدف تغيير الواقع فينطلق من قاعدة الرفض، ولا يستكين إلى تجليات البنيات الثقافية السائدة أو العلائق الإجتماعية الراهنة أو التوزيع المادي الإقتصادية القائم، فهو مطالب بمجاهبة بنيات راسخة مترسبة في لا وعي الناس، والتي كثيرا ما تعبر عن ذاتها بشراسة تتخطى الإمكانيات القليلة التي يحوزها هذ المثقف الرافض.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. أظهر وجهه السياسي وحدث خزانة ملابسه - أبو محمد الجولاني رجل
.. أوروبا - سوريا: أي سياسة هجرة ولجوء؟ • فرانس 24 / FRANCE 24
.. سوريا: أي مرحلة انتقالية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24
.. كاميرا شبكتنا ترصد احتفالات السوريين في دمشق فرحًا بنهاية نظ
.. لحظة وثقتها الكاميرات.. شاهد اقتياد متهم بقتل رئيس شركة ومنع