الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول الفساد في العالم العربي: السمكة تفسد من الرأس!

سالم جبران

2006 / 12 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


يتعمَّق ويتسارع الوعي العالمي لمحاربة الفساد. ومع المبادرات لتشريع قوانين معادية للفساد عالمياً، يزداد حراك منظمات المجتمع المدني في العالم كله لمنع جهاز الدولة من أن يكون دفيئة للفساد واللصوصية والسرقات الكبرى شبه العلنية، ولتقديم المجرمين إلى القضاء والعقاب.
ومن المتفق عليه عالمياً، الآن، أن الدولة الراقية ليست فقط الدولة العصرية اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، بل أيضاً الدولة التي لديها قوانين وأخلاقيات وضوابط حازمة تجعل من الصعب ممارسة الفساد والسرقة من المُلْك العام!
وقد أقرّت المنظمات الدولية مؤخراً عدداً من الاتفاقيات للتعاون الدولي لمحاربة الفساد.
وفي مقابلة في "الجزيرة" قال الأستاذ باسم سكجها رئيس منظمة أقيمت حديثاً لمحاربة الفساد، في الأردن، إن منظمات المجتمع المدني العربية تقدِّر أن حجم الفساد في العالم العربي يصل إلى 300 مليار دولار سنوياً!!!
وقال السيد سكجها إن الفساد الشرس والمفترس في العالم الثالث عموماً هو سبب أساسي لبقاء المجتمعات متخلفة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وتعاني من أزمات حادة ومتفجرة أحياناً، مما يدفع المجتمعات إلى الانهيار والفوضى والحروب الأهلية والمتاهات المأساوية.
ما هي الأسباب الرئيسية في التفشي شبه القانوني وشبه العلني وشبه الرسمي في العالم الثالث، ومنه الدول العربية؟
أولاً: إن كل هذه الدول هي دول حديثة الاستقلال، ليست فيها تقاليد للدولة ولإدارة الدولة، وجهاز الدولة عادة غير مُجَّرب بما فيه الكفاية وغير مدَّرب بما فيه الكفاية.
ثانياً: في أكثرية دول العالم الثالث قامت بعد عدة سنوات من الاستقلال الحقيقي أو الشكلي، انقلابات عسكرية جاءت بطغمة عسكرية ألغت الدستور وأبقت البلاد بلا دستور، أو مع دستور على مقاس مصالح وتطلعات وجنون الطغمة العسكرية التي وصلت إلى الحكم على دبابة.
ثالثاً: التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتجذُّر التقاليد القَبَلية أو الفلاحية المغرقة في التخلف يجعل الحاكم لا يتصور أنه حاكم وليس مالكاً، ببساطة يجعل الحاكم يعتقد أن البلاد كلها بخيراتها وناسها هي.. مُلْك شخصي له!
ما من دولة من دول العالم الثالث فيها حاكم يعتقد أن عليه أن يعيش من "معاش" شهري يأخذه قانونياً، وبالطرق الرسمية من خزينة الدولة، بل يعتقد أن بإمكانه أن يأخذ ما يشاء، هو وعائلته الصغيرة والكبيرة!
وعندما يترسخ هذا النهج "المألوف" ويبدأ بالانتشار، وعندما تصبح كل البطانة العليا(أعضاء مجلس الثورة!)، والبطانة الادارية ( مجلس الوزراء) والبيروقراطية(رؤساء الشركات والمسؤولون عن النفط وعن الاستيراد والتصدير)، يتصرف مالياً وغطرسةً، مثل الحاكم القادر على كل شيء، عندها تصبح كل الدولة وإمكانياتها عرضة للنهب واللصوصية.
لذلك ليس من باب المبالغة القول إن غير الفاسد، أو النظيف أو المستقيم في الجهاز الإداري في العالم الثالث، هو "النشاز". إن الرشوة تنتشر بشكل مذهل على كل المستويات، وفي أماكن عامة في دول العالم الثالث تجري ممارسة الرشوة كما لو كانت "قانونية" ولا تحتاج إلى الإخفاء!
إن الموظف في جهاز الدولة لا يحس ولا يتصرف فعلاً وكأنه "ممثل جمهور". بل بوصفه سيداً، مسؤولاً، "صاحب ورشة"، يحق له ان يأخذ ما "يحتاج" إليه.ويتفق علماء الاجتماع أنه حتى لو كان رأس الهرم "نظيفاً" وليس سارقاً، فإن الجهاز الذي يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية، ويفتقر إلى الرقابة الحازمة، يغرق في الفساد والرشوة والمحسوبية.
كل الدلائل تقول إن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قائد الثورة المصرية كان نظيفاً وشريفاً ونزيهاً. وكان مملوءاً بقضية وطنية كبرى، وعندما مات كان في حسابه الشخصي في البنك 375 جنيهاً مصرياً. ومع هذا فإن الجهاز الإداري في مصر كان غارقاً حتى الأذنين في الفساد. كذلك يقول أساتذة العلوم السياسية إن الرئيس الراحل حافظ الأسد رئيس سورية خلال أكثر من ثلاثين عاماً كان متواضعاً، ونظيف اليد، شخصياً. ولكن هذا لم يمنع تفشي الفساد والرشوة بشكل ضاغط وخانق في المجتمع السوري.
إن القضية الجوهرية والحاسمة هي أن القوانين العامة والرقابة الصارمة والعقابات الصارمة، هي ما يجب أن يضمن نظافة الجهاز العام ونجاعته لا أخلاقيات الرئيس فقط.
إن المسؤولين، من فوق إلى تحت، في العالم الثالث لا يفرِّقون بين "دولة" وبين "مزرعة شخصية"، لا يفرقون بين موقع المسؤولية في دولة أو مؤسسة وبين التصرف بأموال المؤسسة كما لو كانت ملكاً شخصياً للمسؤول.
مفهوم الدولة، ومفهوم المُلْك العام، لم يتجذّرا بشكل كافٍ، بحيث يشعر الموظف أنه موظف، وأن المال الذي في الصندوق أمامه، ليس ملكاً شخصياً له.
بقاء رئيس السلطة والجهاز الموالي له مدة طويلة، أحياناً طويلة جداً في السلطة، يُغري ويقود إلى التصرف بالمال العام وفي مرحلة متقدمة إلى النظر إلى المال العام، بل إلى الدولة كلها، وكأنها مُلْك شخصي للحاكم وللبطانة التي تحته.
غياب الديمقراطية الحقيقية وغياب تغيير السلطة بشكل دستوري ومنظم، وغياب الديمقراطية وغياب القوانين الرادعة واحتقار الجهاز الحاكم للشعب- كل هذا يحوِّل الحكام إلى لصوص عالميين ويحوِّل الجهاز إلى خدم عند الحكام لا خدم عند الشعب "سيد البلاد وأساس كل السلطات".
وهذا يقودنا إلى الاستنتاج المنطقي القاطع: في ظل نظام ديمقراطي يتقلص الفساد، ويصبح غير شرعي وغير قانوني، أما في ظل الدكتاتورية ونظام الصنم الواحد والحزب الواحد، فليست هناك رقابة ولا ضوابط تمنع الفساد أو تمنع تعمًّق طاعون الفساد.
إن العالم الثالث، ومنه عالمنا العربي، بحاجة إلى عدد من الإجراءات للانتقال من التخلف المأزوم إلى النهضة والانتعاش والتقدم، بحاجة إلى الثورة العلمية والتكنولوجية، وهذا لا يتم بدون نهضة تعليمية عميقة وشاملة، بحاجة إلى محو الأمية، بحاجة إلى ترشيد وتخطيط المجتمع من خلال السيطرة على زيادة النسل غير المحدودة، بحاجة إلى نشر وعي المواطنة، لأن القبلية العمياء لا تسمح بوحدة الشعب، وبحاجة أولاً وأخيراً إلى الانتماء للوطن فعلاً لا قولاً، والانتماء للوطن لا يتلخص بعبادة الزعيم الوثن، بل بانتماء القائد /الرئيس/ الملك أيضاً، إلى الوطن بوصفه مواطناً.
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج الحاسم وهو أن محاربة الفساد لا تتم فعلاً بالوعظ الأخلاقي وغالباً ما يكون الواعظ ضد السرقة في الجهاز الإداري، هو لص من الوزن الثقيل!
هناك حاجة إلى مشروع قومي يربط بين الديمقراطية والرقابة والتعليم ومحاربة الأمية ومحاربة البطالة ومحاربة الشعوذة والتطوير المنهجي للانتماء القومي والمدني، للانتماء إلى المجتمع والوطن وتشجيع العطاء للمصلحة العامة وتقدير النظيف ضميراً ويداً، بحيث يصير نموذجاً.
ومن الواضح أن كل هذا يعني بالضرورة أن الحاكم ليس "صاحب عزبة"، يملك ما يشاء، بل هو أيضاً محكوم بالقوانين العامة، بل يجب أن يكون نموذجاً للمواطن الملتزم بالدستور والقوانين، نظيف اليد. في الدول الديمقراطية يعلن السياسي عند انتخابه للمنصب، عن أملاكه التي عنده، قبل تولي المهمة. والمفروض أن يعلن عن أملاكه أيضاً عندما ينهي مهمته!
كل الزعماء الذين وصلوا إلى الحكم على ظهر دبابة أو بالانتخابات، او بالوراثة، في العالم العربي والعالم الثالث صاروا مليارديرية ووضعوا أموالهم عند "الأصدقاء في الغرب"، بينما الشعب جائع ومتخلف ويزداد جوعاً وتخلفاً.
من هنا، فأن النهضة الشاملة للمجتمعات المتخلفة في العالم الثالث، وفي عالمنا العربي أولاً تتطلب مشروعاً متكاملاً للثورة السياسية والثقافية والإدارية والعلمية. وعنوان هذه الثورة هو انتزاع السلطة من الحاكم الفرد المتسلط إلى الشعب، وإسقاط نظام الوصاية وإقامة النظام الديمقراطي حيث كل مواطن هو مواطن كامل والحاكم تابع للشعب. وليس الشعب قطيعاً للحاكم، كما هي الحال في عالمنا العربي وفي العالم الثالث. هذه هي الطريق الحقيقية لمجابهة الفساد واستئصاله!

(سالم جبران –شاعر ومفكر وإعلامي فلسطيني يعيش في الناصرة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل