الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما فائدة الحياة إذا لم تظل مقاوماً؟

سامح قاسم

2024 / 10 / 15
الادب والفن


يحمل هذا السؤال في طياته دعوة عميقة للتأمل في معنى الحياة والغاية من وجود الإنسان فيها. فهو يشير إلى أن البقاء على قيد الحياة ليس الهدف الأسمى، بل إن القيمة الحقيقية تكمن في مقاومة كل ما يحاول كسر إرادة الإنسان، سواء كانت تحدياتٍ اجتماعية أو نفسية أو حتى وجودية. إن الحياة تأخذ معناها الحقيقي عندما تتحول إلى صراع مستمر من أجل تحقيق القيم والمبادئ السامية التي تؤمن بها.
المقاومة هي تعبير عن رغبة الإنسان في البقاء والتحرر من كل ما يقيده أو ينال من حريته. إنها إرادة داخلية تدفع المرء للوقوف بثبات أمام قسوة الحياة والتحديات المتكررة. في هذا السياق، تتجسد المقاومة في صورة النضال من أجل الكرامة الإنسانية، ورفض الخضوع للظلم والاضطهاد. وكما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الوجود يسبق المعنى"، وهذا يعني أن الإنسان هو الذي يحدد معنى حياته من خلال أفعاله، والمقاومة تمثل جوهر هذه الأفعال.
في كثير من الأحيان، يفرض الألم نفسه على حياة الإنسان، ويضعه أمام اختبارٍ حقيقيٍ لقوة إرادته. إن المقاومة هنا تتجلى في رفض الاستسلام والتغلب على الألم من خلال تحويله إلى طاقة إيجابية تدفع الإنسان نحو التغيير. يمكن أن نتأمل في مقولة الأديب اللبناني جبران خليل جبران: "إنما ينبت الحب في قلوب البشر من رحم الألم"، حيث يشير إلى أن الألم ليس بالضرورة النهاية، بل يمكن أن يكون بداية جديدة للحياة تنبض بالأمل. فعندما يختار الإنسان المقاومة بدلاً من الانكسار، فإنه يعلن ولادة جديدة تتخطى حدود المعاناة.
من خلال تاريخ النضالات الإنسانية، نجد أن المقاومة كانت دائماً مفتاح التحرر والانتصار على القهر. إن الشخص الذي يختار المقاومة، يختار في الواقع الحرية، فهو يرفض أن يكون عبداً للظروف أو تابعاً للأقدار. وكما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى"، وهذا يعبر عن حقيقة أن المقاومة، رغم قسوتها، تُعزز من قوة الإنسان وتمنحه القدرة على مواجهة كل ما يعترض طريقه. إنها تمنح الحياة بُعداً جديداً ومعنى أعمق يتجاوز مجرد البقاء إلى مستوى أعلى من الوجود الواعي.
لا يمكن الحديث عن المقاومة دون الإشارة إلى القيم الأخلاقية التي تظل تُلهم الإنسان للوقوف بوجه الظلم. المقاومة تُصبح هنا رفضاً لكل ما يناقض العدالة ويستغل ضعف الآخرين. في هذا السياق، نجد أعمال الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي تعكس تمجيداً للمقاومة الإنسانية ضد القهر، حيث يقول: "إذا أردت أن تنتصر على العالم، فلا تنحنِ لأحد". هذه الفكرة تُبرز أن المقاومة هي وسيلة للتمسك بالكرامة الإنسانية، وأنها السلاح الأقوى في مواجهة الظلم والجور.
في بعض الأحيان، يُفرض على الإنسان واقعٌ مليء بالصعوبات والتحديات، ويجد نفسه مجبراً على الانصياع أو الاستسلام لظروف لا يستطيع تغييرها. ومع ذلك، فإن المقاومة ليست بالضرورة أن تكون قتالاً جسدياً أو مواجهة علنية؛ بل يمكن أن تكون سلوكاً داخلياً وإرادة صامتة تُعبر عن رفض الانصياع والاستسلام. في رواية "الغريب" لألبير كامو، نجد بطل القصة ميرسو يقاوم بنوع من اللامبالاة العبثية، رافضاً الانصياع لمعايير المجتمع، مما يعكس نوعاً مختلفاً من المقاومة التي تتجلى في عدم الامتثال للأعراف المفروضة.
من بين أقسى التحديات التي تواجه الإنسان هي تلك المرتبطة بالموت والتفاهة. إن التفكير في الموت قد يدفع البعض إلى الانسحاب واليأس، لكن المقاومة هنا تُصبح نوعاً من الإصرار على العيش رغم عبثية الوجود. تتجلى هذه الفكرة في فلسفة ألبير كامو الوجودية، حيث يشير إلى أن الحياة قد تكون بلا معنى، لكن الإنسان يستطيع أن يمنحها معنى من خلال مقاومته للعبث واستمراره في السعي للبحث عن الجمال والقيم في عالم قد يبدو فارغاً.
لا تقتصر المقاومة على المجالات السياسية والاجتماعية، بل تتسع لتشمل الجوانب الثقافية والفنية أيضاً. فالإبداع هو أحد أشكال المقاومة التي تُعبر عن رفض الإنسان للأوضاع القائمة، وسعيه لابتكار عوالم بديلة تعكس رؤيته وطموحاته. الفنانون والأدباء كانوا دائماً في طليعة المقاومين، حيث يتجلى إبداعهم كصورة من صور المقاومة التي تقف في وجه القبح والظلام. في هذا السياق، يمكن أن نستحضر مقولة الشاعر محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، حيث تُصبح الكتابة والشعر وسيلة لمقاومة النسيان ولتحدي العدم.
وأخيراً، تأتي مقاومة الذات باعتبارها من أصعب أنواع المقاومة، إذ تتطلب من الإنسان أن يقاوم رغباته الضعيفة وشهواته التي قد تدفعه للانحراف عن القيم التي يؤمن بها. هذا النوع من المقاومة يتطلب شجاعة وإرادة قوية لمواجهة الصراع الداخلي، وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الصيني لاوتزه حين قال: "من قهر الآخرين كان قوياً، ومن قهر نفسه كان أعظم قوة". هنا تكمن عظمة الإنسان في قدرته على تحدي نفسه أولاً، قبل أن يواجه التحديات الخارجية.
في نهاية المطاف، يُمكن القول إن المقاومة ليست مجرد فعل استثنائي نقوم به في وجه الأزمات، بل هي جوهر الحياة ذاتها. الإنسان يولد ليقاوم، فهو يقاوم منذ اللحظة الأولى من وجوده حين يتنفس ويصرخ ليعلن عن بداية جديدة. إن المقاومة تمنح الحياة معناها، وتجعلها أكثر من مجرد أيام تمضي؛ فهي تمثل الإصرار على البقاء، والدفاع عن القيم، والسعي لتحقيق الأحلام، حتى وإن كانت الطريق مليئة بالصعاب.
ما فائدة الحياة إذا لم تظل مقاوماً؟ إنها دعوة لأن نحيا بحزم وإرادة، وأن نتمسك بحقنا في العيش بحرية وكرامة. المقاوِم هو الذي يرفض الاستسلام أمام الألم، والذي يبتكر في وجه العدم، والذي ينهض في كل مرة يسقط فيها. إنها الحياة التي تظل تُغني قصيدة المقاومة لكل من يؤمن بأن الإنسان يستطيع دائماً أن يكون أقوى من ظروفه، وأكبر من تحدياته، وأعمق من أي ألم يمكن أن يواجهه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبكات| الفنانون السوريون يغيرون مواقفهم من بشار الأسد.. كيف


.. رئيس قطاع الهندسة بمدينة الإنتاج الاعلامي من مهرجان البحر ال




.. «نجم المسرح» منصة اكتشاف المواهب الفنية بقيادة «قروب مافيا س


.. فكرة جميلة علشان الجماهير تروح الملاعب وتشجيع فرق كرة القدم




.. الفنان السوري فارس الحلو: أرفض حكم العسكر