الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المساواة في الألم

سامح قاسم

2024 / 10 / 16
الادب والفن


في الحياة، يتعرّض الكثيرون للأذى والمعاناة بأشكال مختلفة، سواء كانت نتيجة أحداثٍ شخصية أو مآسٍ جماعية. ردّ الفعل الذي يبديه الضحايا تجاه الألم والمعاناة يتجاوز كونه استجابة عاطفية أو جسدية؛ إنه تعبير عن إرادة الإنسان في الحفاظ على إنسانيته والبحث عن معنى للألم الذي يُلحَق به. لذلك، يُعَدّ ردّ الفعل ضروريًا في تمكين الضحايا من استعادة الكرامة، وفي خلق شعور بالمساواة في الألم، حيث يتشارك الجميع في مواجهة قسوة الحياة بصورة متساوية.

عندما يتعرّض الإنسان لأذى جسدي أو نفسي، فإن ردّ فعله هو أول خطوة نحو استعادة كرامته وكينونته. في الواقع، يمكن القول إن ردّ الفعل يمثل إعلانًا للذات في مواجهة العدوان أو القهر. إنه يُظهِر أن الإنسان، حتى في أضعف حالاته، لا يزال قادرًا على الاحتفاظ بجوهره الإنساني. في هذا السياق، يمكن الاستشهاد بقول جان بول سارتر: "الحرية ليست ما نملكه فقط، بل ما نفعله عندما يُفرَض علينا الألم." فالتفاعل مع الأذى يعكس قرار الضحية في مواجهة الألم بدلاً من الاستسلام له، وبذلك تستعيد جزءًا من كرامتها ووجودها.

في الأدب، نجد أصداء هذه الفكرة تتجلى في أعمال مثل "البؤساء" لفيكتور هوغو، حيث يظهر جان فالجان كرجل يسعى لاستعادة كرامته وإعادة بناء حياته رغم كل ما تعرّض له من ظلمٍ واضطهاد. إنه بفعله هذا لا يستعيد فقط حريته، بل يستعيد كذلك كرامته، مؤكدًا على حقّه في الحياة والإحساس بالعدالة.

يتجلّى الشعور بالمساواة في الألم عندما يدرك الضحايا أنهم ليسوا وحدهم في معاناتهم، وأن غيرهم قد مرّوا بتجارب مشابهة أو حتى أقسى. هذه المعرفة تخلق شعورًا عميقًا بالتضامن الإنساني، حيث يصبح الألم رابطًا مشتركًا بين الأفراد. وهذا الشعور بالمساواة في الألم يساعد على تخفيف الإحساس بالعزلة والوحدة التي ترافق المعاناة، ويساهم في تشكيل روابط إنسانية قوية، تُتيح للضحايا الشعور بأنهم جزء من مجتمعٍ رحيم يشترك في الأحزان والأفراح.

يمكن أن نجد هذه الفكرة في الفلسفة البوذية التي تُعلّم بأن "المعاناة جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية"، إذ يُعتَبر التأمل في آلام الآخرين خطوةً نحو التعاطف والتفاهم العميق مع الذات ومع الآخرين. فحينما يدرك الإنسان أن معاناته ليست فريدة من نوعها، فإنه يشعر بنوع من الراحة النفسية، ويدرك أن الألم جزء من مسيرة الحياة المشتركة.

في كثير من الأحيان، يصبح رد الفعل الذي يبديه الضحايا وسيلة للشفاء النفسي والروحي، إذ يمكن تحويل الألم إلى قوة داخلية تعزز من الإرادة وتدفع إلى العمل من أجل التغيير. في علم النفس، يُعتبر التعبير عن المشاعر والتفاعل معها خطوة حاسمة في عملية الشفاء. ذلك أن الأذى الذي يُكبَت في الصدر ولا يجد متنفسًا يمكن أن يتحول إلى جرحٍ غائر لا يندمل. من هنا يأتي دور رد الفعل كعملية تطهير تُحرر الروح من عبء الألم المتراكم، وتفسح المجال للتجاوز والتعافي.

يقول نيتشه: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى."، وهذه العبارة تلخص تجربة العديد من الضحايا الذين وجدوا في مواجهة الأذى فرصة لتحويل المعاناة إلى قوة داخلية دفعتهم نحو تحقيق أهدافهم، أو حتى نحو مساعدة الآخرين على تجاوز آلامهم. هنا يتحول رد الفعل من مجرد تعبير عن الألم إلى جسر يصل بين المعاناة والتحول الإيجابي.

عندما يُستَخدَم ردّ الفعل تجاه الألم كأداة للمقاومة ضد الظلم، فإنه لا يعود مجرد تعبير عن معاناة فردية، بل يصبح إعلانًا للتحدي والمطالبة بالعدالة. في الحركات الاجتماعية والتاريخية، كان رد الفعل على القمع والأذى أساسًا لتحريك التغيير. عندما يواجه الأفراد الألم بقوة ورفض للخضوع، فإنهم يؤكدون على حقهم في الحياة بكرامة، ويُسهمون في دفع المجتمع نحو العدالة والمساواة.

إن الكتابة والشعر يمكن أن يكونا أدوات فعالة في مقاومة الأذى، إذ ينقلان صوت الضحايا ويحوّلان الألم إلى كلمات تمثل فعلًا من أفعال التحدي. الشعراء مثل محمود درويش، الذي كتب عن معاناة الشعب الفلسطيني، يستخدمون الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والتمسك بالأمل، حيث يقول: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة."، ليجعل من الألم طاقة تحرك الشعوب نحو مقاومة الظلم.

الشعور بالمساواة في الألم ليس فقط وسيلة لتعزيز التضامن الإنساني، بل هو أيضًا حقٌ ينبغي الدفاع عنه. فالاعتراف بمعاناة الضحايا وإعطاؤهم المساحة للتعبير عن آلامهم هو جزء من واجبنا الأخلاقي كمجتمع، وهو ما يعزز شعورهم بالعدالة ويخفف من جراحهم. إن تجاهل أو تقليل من قيمة معاناة الآخرين يمكن أن يزيد من شعورهم بالعزلة والظلم، لذا فإن التعاطف والاعتراف بمعاناتهم هو خطوة نحو العدالة والمساواة.

في هذا السياق، تقول الكاتبة الأمريكية مارتن لوثر كينغ الابنة: "الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان."، مشيرةً إلى أن عدم الاعتراف بألم شخص واحد يمكن أن يؤدي إلى تقويض العدالة للجميع. فالاعتراف بالمعاناة والمساواة في الألم يعني أن كل حياة لها قيمة، وأن كل جرح يجب أن يُشْفى.

في النهاية، يمثل رد الفعل تجاه الأذى والمعاناة جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، إذ يعكس رغبة الضحايا في استعادة كرامتهم وتأكيد حقهم في الحياة. من خلال رد الفعل، يستطيع الإنسان أن يحول الألم إلى طاقة تغيير، وأن يجد في التضامن مع الآخرين العزاء والتعزية. الشعور بالمساواة في الألم ليس مجرد تعبير عن التعاطف، بل هو وسيلة لتعزيز التضامن والعدالة، ولإعادة بناء الروابط الإنسانية في وجه قسوة الحياة.

من خلال قبول الألم والتفاعل معه، نستطيع أن نحول التجربة القاسية إلى فرصة للتعافي والتعلم، ونستطيع أن نخلق مجتمعًا أكثر إنسانية وعدلاً، حيث يُعامَل الجميع على قدم المساواة في كل ما يتعلق بمعاناتهم وحقوقهم. بذلك، يصبح رد الفعل على الألم ليس فقط وسيلة للنجاة، بل هو أيضًا فعل مقاومة يعيد تعريف معنى الحياة والكرامة والعدالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطلة فيلم -سنو وايت- تخطف الأنظار.. وكريم فهمى يقبل يدها


.. شبكات| الفنانون السوريون يغيرون مواقفهم من بشار الأسد.. كيف




.. رئيس قطاع الهندسة بمدينة الإنتاج الاعلامي من مهرجان البحر ال


.. «نجم المسرح» منصة اكتشاف المواهب الفنية بقيادة «قروب مافيا س




.. فكرة جميلة علشان الجماهير تروح الملاعب وتشجيع فرق كرة القدم