الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية القمع والتخفي

عصام عبدالله

2006 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


كان الصدام الاستعماري بين التمركز الأوربي والثقافات غير الغربية التي أعيد إحياؤها، السبب في تعجيل المنعطف ما بعد الديكارتي نحو (الغيرية) و(الآخرية)، أو قل (ما بعد الحداثة) في الفلسفة، حيث عمل فلاسفة الاختلاف في فرنسا تحديدًا على انتقاد (فلسفة الذات) أو الهوية باعتبارها أداة لتهميش (الآخر) سواء كان هذا (الآخر) كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو)… ومن ثم فإن مفهوم (الذات) بما هو كلية متجانسة قد زحزح عن مركزه، مفسحًا المجال أمام ذات متموضعة، أو بالأحرى متشذرة، يعاد بناؤها باطراد.
وحسب (هومي بهابا): (فإن الهوية ليست شيئًا مسبقًا، ولا إنتاجًا نهائيًا وإنما هي فقط سيرورة إشكالية من الارتقاء إلى صورة للشمولية. ومهما يكن تبدو صورة شمولية، من هذا القبيل، عصية الاستشراف، رغم سعي الإنسان الدائم إلى الامتلاء والكمال. تستدعي الذات الإنسانية إذن، وفي آن واحد، الذات والموضوع. فهو موضوع للتاريخ في حدود كونها ذاتًا فاعلة في سياقه. في حين يغدو (الآخر) البؤرة التي تتموضع فيها سلسلة الدوال التي توجه كل ما من شأنه أن يشكل حضورًا للذات. إنه الحقل الخاص بهذا الكائن الحي الذي ينبغي للذات أن تتمظهر من خلاله. وعبر مسار الرغبة في الآخر، لا يتحقق الفهم المؤقت لهذه الذات، وإنما يتموضع الاختلاف بين الذات والآخر). ويشدّد دريدا على أن التأكيد يعبر عن ذاته من خلال مسار الآخر: (فالآخر باعتباره آخر غير الذات، أي الآخر الذي يقابل الهوية الذاتية، ليس شيئًا يمكن رصده وتمثله داخل الفضاء الفلسفي للاستعانة بنبراس فلسفي. ذلك أن الآخر سبق الفلسفة، وهو يحتوي مستثيرًا بالضرورة (الذات) قبل أن يكون في مستطاع أية مساءلة عبقرية أن تبدأ. وفي سياق هذا الارتباط بالآخر يفصح التأكيد عن ذاته). وبذلك يعتبر هذا التأكيد للذاتية كما يقترحها دريدا محصلة الصدام بالآخر. فهو في البدء والمنتهى صدام أنطولوجي بين الذات والآخر.
إن كتابات ما بعد الحداثة، كما هو شأن كتابات ما بعد الاستعمار، تتبنى نزوعًا عامًا نحو تفضيل انتشار (الاختلاف) أكثر من إنتاج الثنائيات المتعارضة، وهو ما يقوض (الحضور) من أساسه. ولعل هذا ما عناه (جيل دولوز) بقوله: (إن الآخر ليس هو ذلك الموضوع المرئي، وليس ذلك الآخر. إن الآخر بنية الحقل الإدراكي، كما أنه نظام من التفاعلات بين الأفراد كأغيار. فحين تدرك الذات شيئًا ما، فإنها لا تستطيع أن تحيط به في كليته إلا من خلال الآخرين، فالآخر هو الذي يتمم إدراكي للأشياء).
أما جاك لاكان فقد أعتبر (الآخر) البؤرة التي تتشكل داخلها (الأنا) الذي يخاطب الآخر الذي يستمع. وبعبارة أخرى، تبنى الهوية والغيرية، والذات والآخر، داخل فضاء التمثيل … يقول (لاكان) في كتابه (لغة الذات): (في حدود أن (أنا الذات) مدمجة في جدليات النرجسية والتماهي باعتبارها مراحل حاسمة في حياتها، يمكن القول أن الذات مدرجة في موضوعية المحور المتخيل في الوقت نفسه بما هي علاقة رمزية ولا واعية بين الذات والآخر).
بيد أن فلاسفة الاختلاف قد ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ عمدوا إلى التشويش على وحدة الميتافيزيقا، وذلك من عدة وجوه، منها محاولة دريدا الرامية إلى جعل (الحلم) يتشكك في صفاء (الوعي)، واعتماد دولوز (الفن) كطريقة لدحض (التمثيل)، وايلاد فوكو اعتبارًا (للمنبوذ) من حيث تهديده المستمر لوحدة الدولة السعيدة.
فقد انخرط فوكو في تعرية مؤسسات الحضارة الغربية بشكل أركيولوجي عميق، كمؤسسة المصح العقلي والسجن والمدرسة والجامعة، وسائر المؤسسات البورجوازية التي تهدف إلى تدجين الناس وتطويعهم فكريًا وجسديًا؛ أي أن منهجه الاركيولوجي مكنه من الكشف عن (الآخر) المقموع من خلال تعرية آليات القمع.
وفي كتاب (الكلمات والأشياء) الصادر عام 1966، أثبت فوكو أن العلوم الإنسانية هي التي خلعت المشروعية على النظام الحديث مثلما أن الفكر الديني المسيحي كان يخلع المشروعية على (قمعية) النظام القديم. وهكذا حاول الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية هناك خلفيات هي الأساس الذي تبنى عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل (القبلية التاريخية).
ترتب على ذلك أن هناك نظامًا خفيًا وراء الظواهر هو الذي يشكل الشرط الحقيقي الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها أو بالأحرى يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة.
أما التفكيك عند دريدا فقد أضاء بعدًا جديدًا، أكثر عمقًا وأبعد أثرًا، وهو أن أية بنية تنظم تجربتنا - أدبية أم سيكولوجية أم اجتماعية أم سياسية أم دينية - إنما تتشكل وتنمو وتستمر من خلال عملية "إقصاء". ففي عملية خلق شيء ما سيكون حتميًا إغفال شيء آخر. وهذه البنى الاقصائية، قابلة أن تصير (قمعية)، وهو قمع تترتب عليه (آثار).
وكما سبق ونبهنا (سيجموند فرويد) إلى العلاقة بين القمع والتخفي، يؤكد دريدا على أن ما يقمع لا يختفي لكنه يعود دائمًا كي يزلزل كل البناء القائم، مهما كانت درجة الاستقرار التي يبدو عليها.
لقد فهم دريدا جيدًا، كجزائري يهودي يعيش في فرنسا، وعاصر معظم التحولات العالمية الكبرى في القرن العشرين، خطر المعتقدات الأيديولوجيات التي تقسم العالم إلى نقيضين تامين: اليمين واليسار، الغرب والشرق، الخير والشر، وأظهر أن هذه البنى القمعية [الدوجماطيقية] التي انبثقت مباشرة من داخل الميتافيزيقا الغربية، تهدد بالعودة دائمًا، مصحوبة بتأثيرات مدمرة. ومن ثم صارع من أجل إيجاد سبل للتغلب على الأنماط التي تقصي الاختلافات، وكل ما هو (آخر).
ولذلك يمكن القول بأن التفكيك ينطوي على بعد ثوري أو انقلابي، وهو ما أزعج بالفعل المحافظين في أوروبا وأميركا على السواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد