الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
فوضى الطبيعة
فارس التميمي
كاتب
(Faris Al-timimi)
2024 / 10 / 26
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
تقديم:
الحياة والموت يُشكّلان الأساس والمحور في هذه المقالة.
ولكي يكون واضحا من البداية شكل المسار الذي سوف يسير عليه الحديث في مواقع مختلفة من المقالة، فقد وجدت من الضروري أن ننتبه إلى النقاط التالية:
* إن مفهوم الحياة أينما يرد هنا لن يتحدد بوصف واحد ثابت لا يتغير.
* إن مفهوم الموت هنا هو المفهوم الذي قد ترسّخ في وعينا وتصوّرنا، وهذان المفهومان سوف يبقيان لزمن طويل قاصِرَين عن إدراك حقيقة الحياة والموت وتصويرهما الصورة الواضحة! هذا إذا ما افترضنا أننا قد وصلنا يوما ما بالفعل لإدراك صفحة من صفحات الحقيقة! ولن يمكن وصف الموت قبل أن نستطيع أن نحدّد وصفا للحياة، واضحاً ومفهوماً ونتفق عليه قدر الممكن.
* لن نجد فرقاً كبيراً بين الحياة والموت، كما هو الحال بقياس مفهومنا الحالي عنهما، إذا ما اعتمدنا لهما المفهوم العلمي الأكثر شمولية وخصوصية في نفس الوقت. مثال على ذلك: أن الكائن الحي الذي نعتبره ميتا، هو مازال وسيبقى حيّا، ولكن بشكل وصورة أخرى، وذلك لأن العناصر الأساسية التي كونت خلايا جسمه ستبقى نفسها بعد التحلل والاندثار الظاهري للجسم، وسوف تبقى قدرتها على المشاركة في حياة كائن جديد.
* هذا الموضوع سيكون متشعبا وربما غير منسق، ذلك لأنه سيأخذ المسارات التي تتبع الوصول لأي موقع على طريق مسار الطبيعة، لذلك سيكون من الأفضل لمن ليس لديه نفس طويل في القراءة، أن ينسحب قبل أن يهدر وقته الثمين وهو يقرأ ما لا يريحه ولا يعجبه.
فوضى الطبيعة:
الطبيعة مفهوم يختلف تفسيره أو تحديد هويته حسب فهم وهوى الكاتب، القارئ، المتحدث والمستمع.
عموم الناس تفهم أن الطبيعة هي الجمال المتمثل في كل الكائنات الحية من نبات وحيوان، والشمس والألوان والماء والهواء النقي بعيداً عن المدن المكتظة. وأنها حيثما كانت الروائح الزكية المنبعثة من الورود، ورائحة أوراق الشجر وخضرتها المختلفة الدرجات. وأنها البعد عن صخب التجمعات البشرية. وأنها حيث نسمع أصوات الطيور التي تعجبنا أول سماعنا لها في معظم الأحيان*1، في حين أننا غالبا ما ننسى أو نتناسى إزعاج نقيق الضفادع ليلا، وطنطنة الذباب والبعوض نهاراً، وثقل دم الحشرات المزعجة والمتنوعة وقُبح أشكالها! ناهيك عن عدم قدرتنا وعجزنا عن الإجابة المقنعة عن دورها وأهميتها الفعلية في هذه الحياة!
*1: رغم أن معظم الناس يبالغون في الغالب بتصوير عشقهم لسماع تغريد الطيور، إلا أنه ليس هناك نوع من الطيور يمكن أن يستمتع الإنسان بسماع تغريده لأكثر من وقت محدود، وسرعان ما يشعر بالملل من سماعه! ذلك لأن قدرة الطير على التغريد بنبرات أو تغريدات لا تتعدى الواحدة أو اثنتان، ولذا لا يمكن مقارنتها بالموسيقى التي أبدعها الإنسان المعاصر، المتعددة النغمة والسلّم، والتي يتفاعل معها ويتأثر بها الإنسان فعليا وفي حالاته النفسية المختلفة.
أما الطبيعة حسب المفهوم العلمي الكلاسيكي، فهي كل شيء مما نراه وما لا نراه من حولنا ونعيش معه، مما لم يتدخل الإنسان بصناعته، أو تكوينه الفيزيائي، والكيميائي، والهندسي. وهذا يشمل ما هو صغير بحجم الذرّة التي لا نراها بأعيننا ولا حتى بالمجهر، إلى الأجرام الكونية الهائلة الأحجام التي تبعد عنا ملايين السنين الضوئية. فالطبيعة هي الكون كله مما لم يتدخل بتكوينه أو صناعته الإنسان، كائن من كان المصمم والمنشئ الأول لهذه الطبيعة.
لقد أصبحت الطبيعة بمفهومها الحديث "إلهاً جديداً"، ظهر مؤخراً في عصرنا الحالي! وقد لا يزيد عمر هذا الإله عن قرن من الزمن، إذ ليس هناك ما يشير أو يوَثّق لبداية حصول هذا الإله الجديد على مركزه هذا، قبل هذه الفترة الزمنية المفترضة! لكنه بسرعة عجيبة استطاع أن يفرض احترامه على العالم كله، وثبّت حقوقه المزعومة ومطالبه على الجميع، ومن دون أن يبعث رسولا، ولا كلّف نفسه أن يرسم خطاً واضحاً للمطلوب من الناس فعله، فأصبحت الطبيعة الإله الحديث المعاصر "مودرن" الذي يعيش بيننا، والبشرية في معظم أحواله تخشاه وتقدم له فروض الطاعة، شاءت أم أبت!
هذا الإله الجديد في هذه المرة قد خلقته عقول طبقة العلماء والمثقفين والمتعلمين من الناس، وليس عقول الحكّام وأتباعهم المنتفعين والأميين والبسطاء! أولئك الذين رسموا وصمموا من قبل زماننا هذا، صور وشخصيات مئات وربما آلاف الآلهة التي عُبدت! وأقصد هنا وعلى حد سواء، الناس الذين يعترفون بالطبيعة وبأهميتها ويستعذبون، بل يعشقون عبادتها، *2!
*2 لقد أصبح احترام الطبيعة ظاهرة ليس من السهل تجاوزها أو الاعتراض عليها، فترى المجتمع بأكمله يواجه الدعاوى التي توجه التهم المختلفة للإنسان وتلقي باللائمة عليه بأنه هو المسؤول الأول والأخير عن التغير المناخي الذي يجتاح العالم.
كذلك أولئك الذين لا يعترفون بحقها أن تكون إلها! فالاثنان على حد سواء لم يكن أمامهما غير خيار واحد، هو الطبيعة أولاً وآخراً! وليس هناك من يجرؤ على استنكار أي ظاهرة طبيعية عنيفة ومدمّرة ولا حتى مجرد التعليق بالاستغراب والأسف لحدوثها! إنه غضب الطبيعة، "الإله المعاصر"! ويبدو أنه لا توجد للإنسان حقوق عند هذا الإله المعاصر! وهو في الوقت نفسه مسنود ومدعوم في كثير من المواقع والفترات، من قبل دول العالم القوية المقتدرة، التي تتبارى في إبراز دورها في مساندته وعبادته، حتى لو كان ذلك نفاقا محضا، وتأييد كل ما يُعتقد أو يوصف أنه من متطلبات رغباته وراحته! رغم أنه لم يطلب شيئا من أحد، لا من أناس بسطاء ولا متمكنين وقادرين، ولم يطلب مساندة من دول لكي تتطوع لخدمته!
فعندما يخطر في بال "الطبيعة الإله" أن تصحو فجأة لتزمجر وترعد وتهتز وتثور غضباً وحقداً وكراهية في وجه كل ما حولها، ومن دون سابق إنذار أو حتى إشارة، ومن دون أن نفهم لماذا هي منزعجة هكذا، وبهذه القسوة والعنف غير المبرّر، خصوصا وأنها في الغالب تعود للهدوء بعد فترة قصيرة، ولكن بعد أن تدمّر ما تدمّره وتحطم وتسحق وتنهي حياة الآلاف من الكائنات الحية، تلك الكائنات التي يُفترض أنها كانت وبشكل من الأشكال تنعم برعاية الطبيعة لها، ولوجودها في أحضانها هنا وهناك! وبعودتها لهدوئها تكون بالفعل كما لو أنها قد مرّت بنوبة صَرَع وتشنجات، مثل التي تصيب الإنسان المسكين المصاب بالصرع، والذي هو بحد ذاته حالة من حالات الخلل الفوضوي الشائع في تكوين الطبيعة وتشكيلات تصاميم كائناتها! ولكن المصاب بالصرع مسكين لا يؤذي غير نفسه مطلقا، وهو ليس براضٍ ولا يعجبه ما يحدث له، بل ذلك مفروض عليه، والسبب في حالته هي الطبيعة "الآلهة" نفسها!
وبعد أن تهدأ الطبيعة من نوبة الصرع هذه، يظهر عليها وبوضوح مُخجل، أنها قد أدركت تماما ما قامت به من فعل سمج سخيف ومتهور! فعلٌ لم يكن له داعٍ مهما حاول أنصارها أن يُجَمِّلوا من صورة الفعل الشنيع الذي قامت به، خصوصاً في محاولتهم لتغطية الفضيحة وتلافي الإحراج عندما يطلقون عليها (أمّنا الطبيعة Mother Nature)، وذلك باعتبار أن لا أحد يمكنه أن يغضب من أمه أو يستنكر فعلها مهما كان سيئاً ومعيباً!
بعد ذلك تعود بعد هدوئها وسكونها، لتنظر من حولها وهي أشبه ما تكون بامرأة مسكينة قد أصابتها نوبة صرع، فحطمت ما حولها وبيدها وبدون أن تقصد، والآن هي تنظر لآثار الدمار الذي خلفته! ثم بعد ذلك يتحول حالها لمثل حال الديك الذي يخرج مهزوماً مندحراً من منازلة مع ديك آخر، فيركض بعيدا للنجاة بنفسه، ثم يقف هناك على مسافة من الديك المنتصر لينفض عن ريشه غبار الهزيمة، وكأن شيئا لم يكن، أو كأنما لم يشاهد أحد هزيمته واندحاره! إذ أنه وبكل صلف وغباء وعدم اكتراث بما حوله، يَصْفُق جناحيه ببعضهما ليصيح معلناً عن نفسه وعن وجوده مرّة أخرى! مدعيا بذلك أنه منتصر لأنه مازال حياً! (القسطنطينية لم تُفتح من الغزوة الأولى!) *3، وهذا القول يذكرني بشخص كان مغرماً بحروبه مع الطواحين، كما كان يفعل طيب الذكر الجنرال (دون كيخوته) في رواية (ميجيل دي سيرفانتس) في بداية القرن السابع عشر.
لقد كانت لنا سنوات عجاف مع محارب الطواحين ذاك!
*3: عندما لم يجد صدام مفرا أمامه غير أن يخرج من الكويت، بعد أن دمرت القوات الأميركية كل العراق ولم يبق له غير عرشه، وصار لزاما عليه أن يذيع بيان أوامره للقوات العراقية بالانسحاب من الكويت، ذكر في نهاية البيان فقرة اعتبرها هو وحسب مفاهيمه البائسة تهديداً مبطناً، وإعلاناً عن بقائه حيا ومحتفظا بقدرة يستطيع بها حكم العراق، فجاء عندها قوله (القسطنطينية لم تُفتح من المرّة الأولى)!
إن معظم الناس في زمننا هذا - بعلم ومعرفة أو بدونهما- قد أصبحوا يهتفون بضرورة المحافظة على البيئة أو الطبيعة، رغم أن معظمهم لا يعون ولا يعرفون: أي مدى يجب أن تصل له البشرية في مراعاتها للطبيعة وإعادة الأمور إليها؟
وأي مرحلة من مراحل أو حقب الطبيعة ستكون هي المثلى، والتي يجب أن نعيد أو أننا نسعى لإعادة حالة الطبيعة لها؟
وأي مرحلة من مراحل التطور المدني والبناء والتكنولوجيا علينا أن نتوقف عندها، ونقرّر أن ذلك يكفي، وأن لا اكتشافات ولا تحسينات ولا تطوير للصناعة ضروري بعد تلك النقطة؟!
إلى أين نعود؟ هل للحقبة الجليدية أم الحقبة التي قبلها أو بعدها؟
أم هي حقبة ما قبل الديناصورات أو حقبة الديناصورات نفسها، أو ما بعدها مباشرة، قبل الطوفان أم بعده؟
تصّور لو أن الديناصورات مازالت تعيش معنا على هذا الكوكب الذي أصبح يعجّ بالبشر!
تصّور لو كنا في يوم ما نتواجه مع (الأخ) الديناصور (ريكس Rex) مهيوب المقام وسيد العنف في عصره!
كما أنه من الواضح أن المناطق الصحراوية والجبلية الجرداء، لا تأتي في حسابات المتحدثين والمهتمين بشؤون الطبيعة، رغم أنها من عناصرها المميزة والتي تحتل أجزاء واسعة من سطح الكرة الأرضية! فلم يتطرق أحدهم يوما لذكر محاولات الإنسان الجادة والمستميتة، في سبيل تحويل الصحراء والمناطق الجبلية، إلى أراض تعود بفوائد اقتصادية على الناس الذين يسكنونها. ومن الأكيد أن الجهود التي بذلتها العديد من البلدان الآسيوية خصوصا في العقود الأخيرة، ما يثبت قدرة الإنسان على تغيير شكل الطبيعة نحو الأحسن والأفضل مما هي عليه أصلا. هذه الطبيعة التي لا تعرف العناية بنفسها كما يجب، لذلك تراها في كثير من مواضعها رثّة، خشنة المظهر والمحتوى، لا تتقبل العيش فيها حتى أتعس الكائنات الحية!
ومن الأكيد أن الأمر يختلف من بلد لآخر، فما يصدق مثلا في كندا لا يصدق في العراق، ولا في الصين، ولا في الكثير من دول أوروبا الغربية!
وهنا في هذا المقام سوف يكون كلامي غالبا عن العالم الغربي بصورة عامة، وما فيه من كائنات حية موضع حديثنا هنا، ومواقف ومفاهيم أتباع "إله الطبيعة" الذي يبدو أن الكثيرين في هذه البلدان يدينون له بالطاعة المطلقة، ويعطون الأولوية لطاعتهم للقوانين التي هم فرضوها على أنفسهم وعلى الآخرين نيابة عن إلههم هذا، ذلك الإله الذي لا أعتقد أن هنالك من يعرف ماذا يريد؟!
الكائن الحي أول خروجه للعالم:
إن ما يشعر به الكائن الحي من أنواع الحيوانات الراقية أول خروجه لهذا العالم، هو إحساسه بثلاثة أحاسيس، أو انفعالات، أو ردود أفعال، وهي:
الجوع والخوف والألم.
في كثير من أنواع الكائنات الحية يتأخر الشعور بالخوف ربما لأشهر، مثلما هو الحال مع الإنسان، في حين أنه لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة بعد الولادة، حتى يبدأ الخوف يسيطر على الكثير من أنواع الحيوانات والطيور المستقلة كلياً أو جزئياً في قدراتها المعيشية! ويكون الخوف العنصر الأول والمهم في توجيه تفاعل المولود مع محيطه! وهذا الوصف والتشخيص مُعتمد على الصفات التي تولد مع الحيوان، وليست تلك التي يكتسبها فيما بعد من أبويه أو أبناء نوعه. وقد يكون من المنطق القول بأن الخوف لدى الإنسان، هو من جملة هذا الذي له وجود أساسي في تركيبة كل حيوان منذ بداية حياته، ولذلك هو يبقى ملازما لكل إنسان مهما حاول أن يخفي مظاهره.
الولادات الحديثة لأنواع الطيور الداجنة والبرية، والتي لا تحتاج لمساعدة أو وجود الأبوين للحصول على غذائها أو لتعلمها تناوله، يبدأ لديها الخوف عند مواجهتها لأول مرة لكل كائن متحرك ترى جرمه أكبر من جرمها، وذلك بعد مرور دقائق من ولادتها وخروجها للعالم، حتى لو أنها لم تشهد أبويها ونشأت يتيمة الأبوين، كما هو الحال مع الكثير من أنواع الطيور الداجنة التي يتم تكثيرها بواسطة حاضنات البيض من صنع الإنسان*4.
*4: كل الطيور البرية أو الداجنة التي يتم تكثيرها باستخدام حاضنات البيض بدل الحضانة الطبيعية، تخرج الأفراخ لأول مرة للحياة ولا ترى أمها، ولا أي طير من نوعها أكبر منها عمرا لكي تتعلم منه سلوكها وردود أفعالها تجاه المحيط، لكنها سرعان ما تتعلم البحث عن الطعام والخوف من كل الأجسام الحية الكبيرة المتحركة، ويستمر الخوف معها حتى يتوفر ما يطمئنها تماما لمحيطها.
وكذلك الحال مع الكثير من أنواع الحيوانات الداجنة والبرية، التي تعتمد في بداية عمرها على أمهاتها في تحصيل طعامها بالرضاعة مثلا. لكن الأمر سيختلف في الكثير من الحالات، عندما تدرك هذه الحيوانات وتطمئن أن هذا الكائن الغريب عن نوعها لا يقصد إيذاءها، خصوصا إذا ما لاحظت أن أمها أو أبويها لا يتخوفان منه، أو عندما تراه أنه يهيئ طعامهم ويقدّمه لهم بيده. وهنا يحضر الإحساس بالجوع ويصبح له دور إيجابي في سلوك الحيوان، فيصبح الحيوان محكوما بين إحساسين: الخوف والجوع!
في كثير من الأحيان يبدو أن الإحساس بالخوف غالبا ما ينتقل من الآباء للأبناء وربما الأحفاد أيضا، عن طريق الجينات الوراثية، فتنتقل خبرة ومعرفة ومخاوف الآباء للأبناء والأحفاد، مثل صفات الشكل الظاهرة وربما حتى المشاعر والأحاسيس أيضا عن طريق هذه الجينات*5. لكن المشكلة أن ذلك من الصعب إثباته في الوقت الحالي علميا، من دون إجراء تجارب علمية أصولية معتمدة! كذلك أنه ليس من الواضح أن هذه الظاهرة مرتبطة بالحس الغريزي، أو ربما أن الغريزة ليست أكثر من تراكم الخبرات لدى الحيوان، والتي ينقلها لأجياله عن طريق جيناته الوراثية، بعد أن يتكون لها وجود مادي في الجينوم الوراثي نفسه!
*5 إن الطيور التي تتعرض بشكل طبيعي للافتراس من قبل طيور أخرى مفترسة أكبر منها حجما، تنتبه عند رؤيتها لهذه الطيور المفترسة ويظهر عليها الخوف والذعر، حتى عندما تكون الطيور المفترسة تطير على ارتفاعات شاهقة، رغم أنها تراها تطير لأول مرة، ولم يسبق لها أن شاهدتها فعليا أو تعرضت لمحاولة لافتراسها من قبل هذه الطيور المفترسة! ويتأكد هذا على سبيل المثال بشكل أكثر وضوحا في سلالات الحمام، الذي يستخدم للطيران المتنوع الأغراض أو للسباقات. وتضمحل أو تنعدم هذه القابلية في السلالات التي أصبحت منذ قرون أو ربما عقود لا تستخدم للطيران. فتكون هذه غالبا عديمة الخبرة والمعرفة بما موجود غيرها من كائنات تشكل خطورة على حياتها.
بعد أن استقر الإنسان البدائي في تجمعات إنسانية بسيطة، وبدأت محاولاته في الزراعة تعطي ثماراً، وبعد تعرفه على هذين الإحساسين (الجوع والخوف) لدى الحيوانات في محيطه والقريبة منه، ومن ثم إدراكه لقيمتهما لدى كل أنواع الحيوانات، كانت تلك هي العتبة الأولى الأساس، التي مكنته من تدجين وترويض كل الحيوانات التي شعر أنها ستكون مفيدة له. هذه الحيوانات التي نراها اليوم تعيش تحت سيطرة وتحكّم الإنسان بها تحكّما تاماً. وقد تكون الصقور المستخدمة في الصيد آخر ما دجّنه الإنسان وجعله يخدم أغراضه في الصيد. ومن دون أن يدرك الصقر نفسه حقيقة ما يدور حوله، وكيف أن الإنسان استطاع استعباده كلية وبصورة فيها الكثير من الإجحاف والتسبب بالألم والموت له، رغم أن الصقر طوال مدة خدمته للإنسان، لم يكن مطلقا يقصد خدمته بأي حال من الأحوال، وهو ما قد يتصوره خطأ من لا يعرف حقيقة العلاقة بين الصقر الأسير وسيده الإنسان! إن إحساس الصقر في عمر البلوغ بالجوع هو الذي يوقعه في الأسر، وهو الذي يجعله فيما بعد يستجيب للعبودية للإنسان، في مظهر التأنيس والتدريب بالاعتماد على علاقة غير متكافئة بينهما، تتمثل في تحول الإنسان من الصائد/الآسر للصقر إلى مُطعِم له ومتفضل عليه!
من يتابع ما يجري في كثير من البلدان التي تتمتع بقدرات معيشية واقتصادية عالية، لابد أن يلاحظ الكثير من الناس من المهتمين بتربية الحيوانات البرية المفترسة مثل الأسود والنمور بأنواعها، الذين تمكنوا من إيصال هذه الحيوانات المفترسة إلى مستوىً من التدجين والتعلق بأصحابها، لدرجة أنها أصبحت تعيش معهم كما تعيش القطط والكلاب المنزلية. مثل هذه الظاهرة لم تكن مألوفة حتى أواخر القرن الماضي، ولم يشهدها الناس خارج استعراضات السيرك، والتي لم تكن تلك الحيوانات المفترسة اليفة فيها للدرجة التي نشهدها اليوم. ولم يكن غير الفهد الأفريقي (Cheetah) قابل للتدجين عندما تتوفر الشروط اللازمة لتدجينه. ربما بعد خمسين سنة أو نحوها من الآن يصبح من المألوف تربية مثل هذه الحيوانات المفترسة في المنازل مثلما هو حال القطط والكلاب.
في تجارب التضريب للسلالات المختلفة للدجاج، استطاع الإنسان أن يخترق حواجز الطبيعة البرية المتحفظة للدجاج، وتمكن من إنتاج سلالات منه تعيش معظم حياتها وكأنها مكائن لإنتاج البيض! بالإضافة إلى سلالات أخرى لإنتاج اللحم، وأخرى يصعب تعدادها أصبح لها أشكال وهيئات ومواصفات غريبة، وبعيدة كل البعد عما يبدو عليه الدجاج البري الذي هو أصل هذه السلالات. إن الدجاج المنتج للبيض بسلالاته المختلفة المنتَجة حديثا، يبدو وكأنه ليس له دور في حياته غير أن يأكل ويشرب ويبيض، وتعيش الدجاجة الواحدة منه وبصحبتها ثلاث أو أربع دجاجات غيرها، ربما لأكثر من سنة ونصف يقضينها في قفص، لا يعطيهن مجالا للحركة أكثر من نصف متر مربع، ومن دون أن يلتقين بالديك مطلقا، ولم يسبق لهن أن تعرفن على شكل الحياة على الأرض الطبيعية، ولم تعبث أي منهن يوما وتلعب بالتراب لتغطي ريشها به، ولم تَفرد أجنحتها لكي تعرض ريشها لأشعة الشمس، بطريقة هي نفس ما كان يفعله أجدادها الدجاج البري، أو الدجاج الذي يعيش حياة شبه حُرّة في الأرياف، ومن دون أن يسبق لها رؤيتهم يفعلون ذلك، ولكنها ستفعل كل ذلك لو أتيحت لها الفرصة للخروج من القفص، والعيش في مكان فسيح مفتوح يتيح لها الفرصة لفعل كل ذلك، وبدون سابق تعليم ولا تلقين أو إيحاء من الآباء! كذلك سوف تتصرف مع الديك عند مخالطتها له لأول مرة، مثلما تفعل الدجاجات التي نشأت سوية في مجتمع دجاجي منفتح، يتمتعن بالحرية التامة والحياة الاجتماعية فيه!
لكنه سيبقى غير واضح تماما لماذا تبيض الدجاجة الأليفة يوميا وتترك بيضتها خلفها؟ ولماذا تبيض وبغزارة الكثير من سلالات الدجاج الأليف، والتي هي من الأساس لا تمرّ بفترة الشعور الأمومي، ولا تشعر بالحاجة أو الرغبة في حضانة البيض؟ أما عن كيف استطاع الإنسان معرفة أن ذلك ممكن فعله مع الدجاج؟ فذلك بالتأكيد كان نتيجة جهده وتركيزه في هذا الاتجاه، وقد كان جهدا مجزيا أفضل الجزاء، فقد أصبح البيض على سبيل المثال ولحوم الدجاج من أرخص المواد الغذائية عالية البروتين في عصرنا الحالي.
من الواضح أن كل هذا قد حصل خلال عملية التدجين الطويلة التي تمّت للدجاج، وما تبعها عندما تحول من طير بري Jungle Fowl إلى سلالات متنوعة من الدجاج الأليف، والتي يُعتقد أنها قد بدأت غالبا قبل ثمانية آلاف سنة أو أكثر، فكل ما نراه من سلالات مختلفة من سلالات الدجاج الأليف، إنما هو منتج بالتضريب والانتقاء المتعمد من سلالات تم إنتاجها أصلا من الدجاج البري، الذي مازال موجودا في البراري في بعض مناطق العالم*6.
*6: هناك أربعة أنواع من الدجاج البري مازالت تعيش في مناطق مختلفة من شمال الهند وسريلانكا، وجنوب الصين، وإندونيسيا وماليزيا.
كذلك الأمر بالنسبة لسلالات الحمام الأليف التي تتجاوز اليوم عدة مئات من السلالات، التي تختلف أشكالها اختلافات جذرية. بل حتى صفاتها وقدراتها الجسمية وسلوكها، تختلف كثيرا بعضها عن البعض الآخر. ويبدو أن العديد من سلالات الحمام الغريب الصفات، أصبحت تُنتَج في البعض من دول العالم على أيدي هواة الحمام ربما كل عدة سنوات، والأمر مستمر مادام هواة الحمام متحمسين للأمر ويحرصون على القيام بذلك. والأمر نفسه يحدث مع العديد من أنواع الطيور التي أصبحت أليفة وتعيش في أقفاص محدودة الأحجام في المنازل.
إن إنتاج الدجاج الأليف للبيض وبمعدل بيضة واحدة يوميا، هو أشبه ما يكون بعملية غير إرادية، وليس هناك ما يشير لمعرفة الغاية من هذه الغزارة في إنتاج البيض، رغم أن مستوى إنتاج البيض في نفس السلالة من الدجاج البياض، قد تتأثر بشكل مفاجئ وربما تتوقف لأيام عدة، لو أن الدجاجة نفسها كانت تعيش مُطلَقة وبحريتها وتعرضت لتغيير مفاجئ في مسكنها الذي اعتادت عليه، أو أن شيئا ما قد أرعبها وأفقدها اطمئنانها! وهذا السلوك (إنتاج البيض الغزير) يختلف عما هو عليه لدى الدجاج البري، ذلك لأننا لا يمكن أن نعتبره مقصودا لحفظ النوع، كما هو التفسير العلمي السائد لسعي الحيوانات للتكاثر! كذلك لأنه لا يُشترط وجود الذكر لإنتاجها هذا الكم من البيض، والبيضة ليست ملقّحة لكي تكون صالحة لإنتاج كائن جديد. كما أنها حالة تستمر في الحدوث طوال أيام السنة، وبدون توقف إلا لسبب طارئ أو مرض. لكنها تتأثر بعوامل عدة منها: طول ساعات النهار وإحساس الدجاجة بالضوء والاطمئنان للمكان، لأنها عندما يتغير مكانها الذي ألفته، فإنها في الغالب سوف تنقطع عن الإنتاج لأيام قد تطول أو تقصر، ثم تعود مرة أخرى عندما تشعر بالاستقرار في مكانها الجديد، وكل تلك العملية لا تحتاج لوجود الذكر (الديك)! والحقيقة أن الملاحظ على جميع سلالات الدجاج الداجن أن الإناث لا تبدي عاطفياً رغبة في وجود الذكر! ولا يشعرن بعاطفة واضحة تجاهه! ومعظم الدجاجات ربما تفضل أو ترغب في الحياة بدون الديك! لأن في سلوكه تجاه الدجاجات الكثير من العنف والتسلط وعدم الكياسة*7. وهذا على ما يبدو سببه عدم شعور الدجاج البياض بمشاعر الأمومة، فهي ليست لديها رغبة في حضانة البيض ولا رعاية الصغار، وهذا بالتأكيد من الصفات التي يبدو أنها قد افتقدتها أثناء عملية التضريب لإنتاج الدجاج البيّاض بهذا المستوى، وهو بالتأكيد من فعل تدخل الإنسان الفاعل في الطبيعة والمفيد لمعيشة الإنسان.
*7: في هذا الجانب تسعى إناث أنواع الطيور البرية والأليفة إلى الارتباط بالذكر من نوعها لتكوين أسرة، يتعاون على تأسيسها الأنثى والذكر معا في جو من التنسيق والتفاهم الذي يثير الإعجاب والاحترام، ومثل هذا في الحمام الداجن والبري وكل أنواع العصافير البرية والداجنة.
وهنا في إشارة ربما ليست ذات علاقة قوية بهذا الموضوع، لكنها تعطينا فكرة عن مدى التصور غير الصحيح عما نراه أمامنا في الطبيعة وهي: أن حقيقة السلوك الشائع عن ذكر الدجاج (الديك) ليست كما يشاع عنه، في أنه دائما يهتم بكرامته واعتزازه بنفسه، فهو في حقيقته أناني، وسلوكه في الغالب مجرد ظاهرة شهرة لا أساس لها من الحقيقة! وما صياح الديك طوال اليوم وفي كل الأوقات وبدون تمييز للوقت، إلّا إشارة لما في نفسه من شعور ورغبة في إثبات وجوده، فهو لا يتخلى عن رغبته في التظاهر بالاعتزاز بنفسه! وأعتقد أنه بذلك خدع معظم الناس في هذه المسألة، وقد يكون سلوكه متفردا بين الذكور لمعظم أنواع الطيور!
*هل يمكننا تصور أن الديك يمكن أن يكون (قوّادا؟!).
نعم (قوّاد) وهذه ليست مُزحة، فأنا لم أكن أتصور أنني يمكن أن أصدق ذلك حتى رأيته بنفسي وتأكدت منه! وأصِبتُ بخيبة أمل كبيرة من جانب، ولكن من جانب آخر لم أستغرب ذلك لأننا شهدنا الكثير من الغرائب في هذه الدنيا! ولا أعتقد أن هناك مسؤولية يمكن إلقاؤها على أحد، غير أنها مسؤولية الجينات الموَرّثة وما يحصل فيها من عطب وخلل كيميائي، أو ربما شيء آخر!
أما عن إنتاج البيض في معظم أنواع الطيور، فهو على ما يبدو عملية إرادية أو شبه إرادية تنتج بفعل هورموني مرتبط ومعتمد على مجريات الوضع النفسي للأنثى. وتحتاج الأنثى بداية لوجود الذكر، ثم الإعجاب به، ثم يتحوّل الإعجاب إلى حُب، ومن ثم الارتباط به والشعور المتبادل بهذا الارتباط والإحساس بالطمأنينة التامة.
يحاول الذكر بعد ارتباطه بالأنثى في بعض أنواع الطيور مغازلة إناث أخريات، خصوصا عندما تكون زوجته مشغولة في حضانة البيض أو رعاية الصغار. ولكن مراقبتها له كفيلة بأن تحقق قدراً لا بأس به من الالتزام الأخلاقي المطلوب منه، وبدون الحاجة للطلاق ولا للمحاكم! وهنا أعتقد أن معظم إناث أنواع الطيور المختلفة، إن لم يكن كلها، فعلا يستحقّن الاحترام وأن نرفع لهن القبعات إذا كنا نرتديها، وذلك لهذه المكانة المحترمة التي حققتها الأنثى لنفسها، إنْ كانت هي من اختارت هذه القدرة والتحكم بفسيولوجية جسمها. أما إن كانت "الطبيعة الإله" هي التي قد منحتها هذه القدرة، فلابد أنها كانت مرغمة على هذه المنحة! ذلك لأن الطبيعة لم تكن كريمة يوما في مُنَحِها!
لن أتحدث عن عملية التكاثر لدى أنثى الإنسان، باعتباره من أرقى أنواع الحيوانات اللبونة حسب ما يُعتقَد! ذلك أن هذا الرقيّ المزعوم، يبدو أنه أيضا وصف وسمعة لا أساس لهما من الصحة، وربما مثل سمعة الديك، فالواقع المشهود يشير لخلاف ذلك! أو على أقل تقدير أن هذا الرقيّ الذي اعتبرته مزعوما، هو في الحقيقة لا يتماشى مع واقع ما يحتاجه ويستحقه الإنسان فعليا، سواء في حياته البدائية الأولى أول نشأته، أو حياته المعاصرة المتحضرة، كما أن هذا الرقيّ لا يستقيم مع حاجاته العملية والاجتماعية والنفسية*8.
*8: إن قائمة العيوب الجسمانية والسلوكية والأحاسيس المضطربة التي تتصف بها الكائنات الحيوانية، ليس من السهل تحديدها وبيان أثرها السلبي المدمّر على الكائن الحي، والإنسان واحد من هذه الكائنات الحية وربما أهمها وأكثرها من الذي يحظى بالعديد منها.
لكني سوف أشير لجوانب من هذه النواقص أو العيوب، وذلك من باب المقارنة والتساؤل عن السبب الذي جعل الإنسان يكون هكذا، ولم يستطع أن يحقق وضعا أفضل؟ وسيكون ذلك في المواقع التي تأتي فيها الحاجة للمقارنة، وللاعتبارات التي تفترض أن الإنسان أفضل وأرقى ما يمكن أن يكون عليه الكائن الحي مقارنة بالكائنات الأخرى، وأنه بسبب تلك المكانة المفترضة، كان من المُتوقع والمنطق أن يتمتع بصفات أرقى وأفضل، لكي يحفظ كرامته وتوازنه الجسمي والنفسي، وحتى لا يكون ألعوبة بيد أعضاء جسمه وحسب أهوائها وغبائها في ردود أفعالها في كثير من الأحيان! تلك الأعضاء التي تفعل ما تفعل به من تصغير وإهانة، خصوصا مع تقدمه بالعمر وعجزه عن إصلاح أعطال أعضائه*9!
*9: في هذا الموقع أرى من الضروري التطرق بصورة مختصرة إلى ما يبدو واضحا فيه، أن الإنسان لا يمتلك من الصفات والقدرات التي يحتاجها لحفظ كرامته وتوازنه النفسي والمجتمعي. هذه الصفات التي تُعَدّ في العصر الحديث من أهم ما يحتاجه لكي يتواصل في معيشته مع الآخرين بصورة تحفظ له كبرياءه وكرامته. لكن المؤسف أنه لم يتمكن من أن يصل إلى الكثير من الصفات التي يتمتع بها الحيوان، الذي ربما لم يكن بحاجة لها كما هو الحال مع الإنسان. فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تتعرض أنثاه للاغتصاب، وغالبا ما تكون غير قادرة جسميا على منعه. في حين أن الحيوانات الأخرى كلها قادرة على منع ذلك، ولا يمكن للذكر من أي نوع من الحيوانات أن يغتصب أنثى من نوعه أو أي نوع آخر من الحيوانات! وعملية التزاوج التي تحصل بين الذكر والأنثى تستوجب الرغبة التامة من قبل الإثنين في إتمامها. وفي هذه الحالة فقط يتم تلقيح الأنثى وبدون ذلك لا يحدث التلقيح. أما في حالة الإنسان فإن الإشكال والقصور مضاعف، فالأنثى ليست فقط معرضة للاغتصاب من قبل الذكر، لكنها أيضا مجبرة أن تتحمل مسؤولية وتبعات الحمل، إن كان جسمها الذي يبدو أنه لا يعمل بإرادتها مهيأ لحدوث الحمل الذي من المتوقع أن الأنثى المغتصبة ترفضه نفسيا، أم أنه غير مهيأ أو غير مستعد، وهذا فيه كفاية لما يدفعنا لإعادة النظر في مزايا تكوين الإنسان في حال مقارنته بباقي الحيوانات!! كذلك هناك الإذلال والإهانة التي يمكن أن يفرضها الإنسان على الآخرين من بني جنسه، والتي لا نرى مثيلا لها في أي نوع من أنواع الحيوانات.
إنها..... الذرة!
لقد بدأت علاقتي بالعمل مع الصقور قبل أكثر من أربعين عاما. ثم بعد بدايتها مباشرة وجدت نفسي بحاجة للتعامل مع حيوانات أخرى غير الصقور، كائنات من هذه الطبيعة الحية والمتمثلة بأنواع من الحيوانات البرّية، التي تقع كلها في قائمة الضحايا في هذه الحياة. وهذه الضحايا هي ما تسمى (الفرائس) التي تعتاش عليها حيوانات أخرى برّية مفترسة. ورغم أنني لم أكن أتعامل إلاّ نادرا مع حيوانات مفترسة غير الصقور، إلا أنني كنت دوماً أشعر بأنني أتعامل مع سيد الحيوانات المفترسة... الإنسان!
نعم، هو الإنسان الذي كان ومازال يتربع على قمة قائمة الكائنات المفترسة! فهو لا يترك شيئا يمكنه افتراسه، حتى أنه لديه رغبة مكبوتة أو مُعلنة في أن يفترس مَنْ هم حوله من أبناء جنسه، ويمكن أن تلمح تلك الرغبة في عيون الكثيرين، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يأكل أبناء نوعه فعلا ومَجَازاً!
منذ الصغر كنت أسمع مقولة يردّدها كبار السن يقولون فيها:
"كلّ آية...... الله مُسَلِّط عليها آية!"
ولأنني كنت أسمع هذه الجملة عندما يكون هناك حدث قد وقع، أو فلم نشاهده على شاشة التلفزيون، من الأفلام التي تصور حيواناً يصطاد ويفترس حيواناً آخر. فقد كنت أفهم المقصود من ذلك: هو أن هذا الحيوان المفترِس قد أعطاه خالقه القدرة والحق لكي يفترس الحيوان الآخر لأنه يحتاج أن يعتاش عليه! وفي الغالب لا يتمتع الحيوان الفريسة بأي قدرة أو قابلية تُذكر ليدافع بها عن نفسه، بل ربما ليس له حق في الدفاع عن نفسه، فهو حسب المأثور وكما يُقِرّ المثل، منذ بداية وجوده مقرّر له أن يكون فريسةً للمفترِس! ذلك لأن الحيوان المفترس يحتاج أن يأكل للبقاء حياً، والطريقة الوحيدة هي افتراس الحيوانات الأضعف! وهذا هو الذي أطلق عليه الإنسان المعاصر حديثاً اسم (قانون الغاب). ويبدو أن الإنسان المعاصر لم ينتبه إلى أن هذا الذي سماه "قانون"، قد وضعته "الطبيعة الإله" نفسها للتحكم بكل أمور الحياة وتسييرها، على أقل تقدير حسب المفهوم البشري السائد!
إن الإنسان المعاصر الذي يرفع راية الإيمان والعبودية للطبيعة، يحاول كل جهده إيجاد الذرائع والتبريرات المختلفة لتفسير ما يحدث من أفعال قتل عبثي يومياً، بل في كل لحظة في هذه الطبيعة من حولنا، ويعمل على تفسير ذلك بأنه الضرورة لإدامة التوازن الطبيعي، معلّلا ذلك بأنه لولاه فإن الأمور يمكن أن تتخطى إمكانية السيطرة عليها، عندما يزداد نوع من أنواع الحيوانات عن الحد الذي تسمح به "الطبيعة الإله"! ولذلك فإنه من الضروري أن يوجد نوع آخر يعتاش عليه لكي يحدّ من تكاثره! وينسى هؤلاء أو يتناسون دائما انه لابد وأن يكون هنالك من يتربع على قمة السلسلة الغذائية، والذي يأكل الجميع ولا يستطيع أحد أن يتغلب عليه ويأكله، ولقد كان هذا قبل أكثر من 65 مليون سنة متمثلا بعدد من أنواع الديناصورات مثل "تي ريكسTyrannosaurus rex "! وهذا إقرار من الجهات العلمية التي أطلقت عليه هذه التسمية بأنه فعلا ملك الديناصورات استناداً لمفهوم القوة والغلبة! *10
*10: حسب التسمية اللاتينية لهذا النوع من الديناصورات فأن الكلمة rex تعني ملك باللاتينية. عاشت الديناصورات في كل أرجاء الكرة الأرضية، على الأرض وفي السماء وحتى في البحار.
وبمرور السنين بعد أن أدركت بعض الأمور من حولي، وبعد أن أصبحت منشغلا بالوهم الذي تحكمه التصورات الموروثة عما وراء الطبيعة واللاهوت، بدأت أفسر كل ما مرّ عليّ من قبل بما يتوافق مع توجهي واهتمامي، ورغبتي النفسية في تفسير الأمور في ذلك الوقت بما يتوافق مع مفاهيم الموروث. فأصبح تفسيري لنفس المقولة أنها تعني: أن الله يمحو أو ينسخ آية ويأتي بآية أخرى، وهذا تفسير توافقي صحيح نسبياً، حتى من وجهة نظر المشتغلين بالدين، ولكن وجهات النظر الأخرى تبقى تنتظر الذين يستمعون لها ويتعرفون عليها!
إلى هنا لا توجد مشكلة، لكننا مازلنا لم ندخل في صلب الموضوع!
لقد كان عملي مع الطيور يستحوذ على معظم تفكيري إن لم يكن جميعه، وذلك من خلال متابعة مشاهداتي اليومية لما يحدث من أمور يعتبر حدوثها طبيعياً، ولا شذوذ فيها عن قواعد مسار الطبيعة المعروف، ومنها أعتقد أنني توصّلت لاستنتاج هو:
أن خلاصة الطبيعة والحياة فيها تتمثل في:
إن الخلايا تستمر في النشوء والتكون في الظروف المناخية المناسبة، من مكونات المادة العضوية من الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين في أركان الكون القريب والبعيد، وهذا هو ما يتماشى مع منطق طبيعة نشوء الحياة منذ مليارات السنين، ومع استمرارية التكوّن والنشوء في البيئة من حولنا ومن دون أن نعرف أين وكيف تتكون؟ ولكن الذي يبحث عنها بحثا علميا دقيقا ومدروسا، يمكن أن يجدها ويجد الكثير من أنواعها! وهذه قد يكون تكوينها من مكونات مختلفة نوعاً ما عن غيرها من الخلايا الأخرى، التي تكونت قبلها أو معها أو سوف تتكون بعدها، وقد تشارك في تكوين بدائي لكائن جديد، قد يكون نباتا أو حيوانا جديدا كلية، أو ربما مشابها لكائن آخر سبقه.
إن عملية تكون الخلايا خارج أجسام الكائنات الحية المستقلة التي نعرفها، وتوالد هذه الخلايا أو تكاثرها، لابد أنه مستمر منذ أزمان موغلة في القِدَم، وذلك يحدث في أي بقعة على سطح الأرض عندما تكون الظروف اللازمة لهذا التكون الجديد ملائمة! ونحن هنا لسنا بصدد كيفية أو لماذا تتكون هذه الخلايا، لأن ذلك بكل بساطة إنما هو خوض في مجال ليس لنا قدرة - في هذا الوقت- على الخروج منه بنتيجة علمية مختبرية يؤيدها ويعتمدها العلم التطبيقي. وقد لا تؤدي إلّا لواحدة من محاولات الوصول لقناعات لاهوتية، تدّعي اليقين في تفسير ما يقع في الطبيعة من خلال قوى ما وراء الطبيعة.
وكلامنا هنا إنما هو كله عن الطبيعة، وما نشهده ونلمسه فيها من مواد ومكونات أساسية متوفرة في هذا الكون.
هنا قد يكون من المناسب أن نتساءل عن الكثير من الأمور، حتى لو أننا لم نحصل لها على أجوبة علمية مقنعة، ومنها:
* ماذا يحدث لو قتلنا كل الحيوانات والحشرات والنباتات الضارة؟
* ما علاقة الإنسان الفعلية بالتغير المناخي؟
* هل يمكن إيقاف تغير المناخ من خلال تغيير الحياة المدنية للإنسان؟
* هل القانون الكوني الذي نحيا في ظلاله الآن، هو الوحيد الذي يمكننا العيش فيه؟
* هل المقصود من وجود القوانين الكونية الطبيعية هو مساعدتنا لكي نعيش، أم أننا نعيش لأننا تكيّفنا لهذه القوانين؟
* هل هنالك شيء حقيقي اسمه توازن بيئي طبيعي؟
* هل المُسَلّمات التي تعارف عليها البشر بكل أقوامه، في أن الميّت لا يحيى بعد موته، وأن دفنه أو حرقه أو رميه بالبحر حسب معتقد القوم هو ما يجب فعله؟ ومتى أصبح من الطبيعي أن يتركه أهله في مدفنه أو محرقته أو في البحر، ومن أين جاء هذا الاتفاق بالإجماع بين البشر؟
إن الخلايا التي تتكون خارج أجسام الكائنات الحية، وهي مستقلة في معيشتها من دون أي علاقة مع أي كائن حي، ولا تتعامل إلا مع مكونات مركبة وأساسية من الطبيعة نفسها مثل الهواء، والماء، وأشعة الشمس، والتربة، هذه الخلايا مؤهلة للتطور والمرور بسلسلة من مراحل النمو والتعقيد التركيبي، لكي تُنتج تدريجيا تركيبات أو جسيمات تسعى للبقاء والاستمرار، مثلما تسعى "الذرة" التي هي الأساس الواضح والمعروف، لكل هذه المواد التي أنتجت هذه التركيبات. إنها صيغة معقدة في وضع شديد التعقيد! ومما يزيد في تعقيده أنه لكي يكون واضحاً في نتيجته النهائية أو شبه النهائية، فإنه بحاجة لملايين السنين لكي يصل إلى مكون مستقل عما عرفناه من مكونات هذه الطبيعة. وهذا ما يفسر لنا دوام اكتشاف كائنات حية بسيطة بحجم البكتيريا مثلا، أو كائنات أخرى أحادية الخلية، في أعماق البحار بوضوح أكثر مما هو عليه الحال على سطح الأرض، ربما لأن سطح الأرض مزدحم بالكثير من المكونات والكائنات الطبيعية الحية، مما يجعل إمكانية تمييز الجديد منها صعب نسبياً.
وقد تكون هذه الخلايا مشابهة مثلا لخلايا الجلد في الكائنات الحية، أو في عضو من أعضاء جسم الكائن الحي المهمة، أو أي تركيب آخر لا تنطبق عليه تماما صفات وشروط الخلية الحية الكلاسيكية، مثلا كما في العظام، والأظافر، والشعر، والجلد المتقرن. الكثير من هذه الخلايا مازلنا لا نعرف لها قيمة ولا أهمية، ولا فائدة لها في جسم الكائن الحي في هذا الوقت! فهي من بقايا مراحل التطور التي مرّ بها الكائن الحي، لكنها لا تقوم الآن بوظيفة واضحة لاستمرار حياة الكائن الحي، ناهيك عن الأذى والسلبيات الناتجة عن استمرار وجودها في الكثير من الأحيان، مثل الشعر والأظافر. وهناك خلايا أخرى تشكل تركيبات واسعة الانتشار في جسم الحيوان والإنسان، لكن أهمية وجودها جدليّة وغير واضحة، وهي تلك التي تكون الأعصاب العميقة في الجسم، وهذا يضيف ظاهرة من الظواهر التي تهزّ قيمة وأهمية التكوين في كل الكائنات الحية، مما يعطي انطباعا ودليلا على الكثير من مظاهر العبثية في تكوين ووجود الكائنات الحية!
إن كل ما في الكون من حولنا حيّ، لا بل أنه ينبض بالحياة دائما، والموت المطلق ليس له وجود حقيقي في الكون كله، بل أن الموت هو في الحقيقة ليس غير ما قد عرفه ووصفه الإنسان عندما تتوقف الحركة المنظورة والمحسوسة، والتفاعل والتجاوب في الكائنات التي نعرفها، والتي نعرف المدى الواضح من حركتها. فالحياة أساسا حسب معرفتنا الحالية تبدأ من الذرة التي لا تتوقف فيها الاليكترونات عن الدوران حول نواتها.
يبدو مما يحدث من عمليات حيوية داخل أجسام كل الكائنات، أن كل هذه الخلايا لها هدف وغاية منشودة واحدة تسعى لتحقيقها، وهي أن تعيش كل منها بحيويتها لأقصى زمن ممكن، وذلك بأن تبقى محافظة على تركيبة كيانها الذري/الجزيئي المتآلف.
فكل واحدة من هذه الخلايا تسعى للمحافظة على توازن تركيبتها الكيميائية لكي تعيش أقصى ما يمكنها! ويتضح في واقع الأمر أن كلا منها لا تعبأ بما يمكن أن يحدث لأي خلية أخرى، عاشت أو ماتت، ولا يهمها عواقب مواقفها الأنانية وغير المسؤولة عندما تتسبب بأذى للكائن الحي بأكمله! وهي التي لا تشكل ربما غير واحدة من مليارات الخلايا في جسم الكائن الحي! وهي بذلك تعلن بوضوح أنها لا تقصد ولا يعنيها حياة أو موت الخلايا الأخرى، من تلك التي من نفس نوعها أو من غيرها، حتى لو أنها كانت تتعايش معها بسلام في الأوقات الاعتيادية. وهنا لابد من ذكر مثال على هذا السلوك، وهو ما نعرفه عن قتال الخلايا الدموية المختلفة للأجسام الغريبة التي تدخل جسم الكائن الحي، الذي هو في حقيقته قتال للدفاع عن نفسها هي لكونها لا تنسجم مع الخلايا الدخيلة، وليس بقصد الدفاع عن جسم الكائن الحي كله، ذلك لأنها لا تهتم لكل الأجسام الغريبة التي تدخل جسم الكائن الحي أو تلك التي تتكون داخله، رغم أن تلك الأجسام قد تشكل أقصى الخطورة على الجسم بأكمله، فمن الواضح والمعروف أن خلايا الدم التي نعتبرها خلايا دفاعية عن الجسم، لا تقوم بأي دور دفاعي ضد الخلايا السرطانية في نفس الجسم، ولو أنها كانت لها مهمة دفاعية ضد كل ما يهدد حياة الكائن الحي، لكان لابد أن يكون لها موقف من الخلايا السرطانية، والكثير من أنواع الفيروسات التي تدمّر جسم الإنسان والحيوان، من دون أن يكون للجسم مقدرة على الدفاع عن نفسه، وهو يمتلك جيوشا جرارة من خلايا الدم الدفاعية، التي تكون في مثل تلك الحالات مثل جيوش المرتزقة! هذا طبعا إذا ما تركنا الحديث مؤقتا عن خلايا أخرى خارج جسم الكائن الحي، وما هو أصغر من الخلايا الجسمية مثل الفيروسات، والبكتيريا، والفطريات، والطفيليات بأنواعها المختلفة، والتي تريد أن تعيش هي الأخرى، ولا تدرك (واستخدام كلمة الإدراك هنا مجازية للتوضيح) أنها يمكن أن تكون السبب في موت الكائن الحي بأكمله، المختلف والمتعدد الأعضاء والتراكيب، والذي تعيش هي من ضمنه، ولابد له أن يعيش بأكمله لكي تبقى هي حية معه، لكنها ستكون سبب موته بأكمله بعد أن تستوطن جسمه، وغالبا من دون قصد في إيذائه وتدميره، إذ أنها مدفوعة بأمل أنه سيستوعبها ويتقبّلها كلاجئة مسالمة لا تقصد الأذى! ولكنها في واقع الحال لاجئ مدمّر، عابث، غبي، وأحمق، لا يعرف ماذا تجرّ أفعاله على الجسم المفعم بالحيوية بأكمله!
ينقسم عالم الكائنات الحية إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول هو الكائنات التي تولد وتعيش لتكون مشاريع قتل وافتراس، من قبل الكائنات المنتمية للقسم الثاني. وهذه كانت مشكلتها من الأساس أن الطبيعة، أو كائن من كان السبب في وجودها، لم تزودها بوسائل للدفاع عن نفسها ضد من يريد قتلها، لأنها وُجِدت حسب ما تنص المبادئ اللاهوتية لتكون مشروع قتل، ومن ثم وليمة أكل! ولذا فقد كان نصيبها في الغالب أن تكون نباتية الهوى تستأنس بمداعبة النباتات، التي لم ولن تعترض على ما يُفعَل بها، وقد وُجدت أيضا لكي تؤكل من قبل كل من لديه رغبة بالأكل، فهي مثل ذلك الولد الذي لعنه أبوه في الأسطورة، وأراد له أن يُصبح لونه أسوداً ويقضي طيلة حياته هو وذريته عبيداً لإخوتهم البيض! وهذا طبعا حسب المفاهيم الأسطورية التي لا علاقة لها بالعلم، وها نحن نعود في عصرنا الحديث، لنلقي اللوم على أقوام اعتقدت وآمنت بتلك الأسطورة، ومن بعد اعتقادها وإيمانها ذلك سلّطَت سخطها وكراهيتها على كل إنسان لونه أسود، واعتبرته أقل شأنا ممن كان لونه أبيض، وسهّلت وأحلّت استعباد ذوي البشرة السوداء!
والقسم الثاني هو الكائنات التي تحتاج أو لابد لها من قتل المنتمين للقسم الأول لكي تعيش! وهذه لا أعتقد أنها تحتاج إشارة لكي نعرفها مَن تكون، فهي موجودة حولنا وكلنا ننتمي لها ولو بدرجات متفاوتة!
وأثناء تنفيذ سيناريوهات القتل هذه، فإننا نرى مشاهد ومواقف ليس هنا المجال لوصفها أو لذكرها، إذ أنها لا تثير غير الاشمئزاز والشفقة على جميع ممثلي هذه الحياة، قاتلهم وقتيلهم ومن دون فرق كبير بين هذين الدورين! *11
*11 من أبسط الأمور التي يمكن أن تخطر في فكر الساعي لمعرفة لغز من ألغاز هذه الحياة المليئة بالألغاز، هو التساؤل المشروع، حتى لو أنه كان ينطوي على غباء، أو أعجمية فكرية، أو علمية، أو حتى إيمانية بما وراء الطبيعة، ذلك التساؤل هو:
ألم يكن من الأفضل أن تكون الكائنات كلها تعتاش على النباتات؟ لكي نبتعد عن مشاريع القتل والانتقام بالقتل المقابل!
ألم يكن ممكنا أن تعيش الكائنات من دون حاجة لهذا الشعور بالجوع وبالشبع، الذي يتكرر لدى كل الكائنات، إذا كان هناك فعلا قصد وهدف سام من وجود هذه الحياة؟
كم من الألم تنتجه حركة هذه الحياة يوميا في المليارات من الكائنات الحية؟
هذا طبعا لو كان ممكنا استخدام أجهزة استشعار الألم في كل الكائنات الحية!
هل كان من الضروري أن يَتكوّن الألم مع تكوّن الكائنات الحية؟ *12
* 12 إن ظاهرة الشعور بالألم التي تشعر بها كل الحيوانات، وعلى أقل تقدير تلك التي تمتلك جهازا عصبيا، إنما هي ظاهرة تستوجب التساؤل، حتى لو كان لها تفسير علمي مقنع نوعا ما، لكنه بالتأكيد ليس مقنعا في كل المواضع. فالشعور بالألم ضروري عندما يكون هذا الشعور دافعا للكائن الحي لتعديل السبب الذي وراء الشعور بالألم ومن ثم إزالته، إلا أن الألم سيكون معضلة للإنسان وللحيوان، عندما يكون من غير الممكن تعديل أو تغيير أي وضع لإزالته، وهذا ما يحدث في حالات الآلام الداخلية التي لا يستطيع أن يبلغها الإنسان من دون تدخل طبي/جراحي حديث.
في هذه الطبيعة العشوائية والمكتظة بالكائنات الحية، من تلك التي نراها والتي لا نراها، تدور دوماً وفي كل لحظة وبدون توقف، عجلات التخطيط لإعادة تدوير وتكوين الجديد من الكائنات من القسمين، وهذه الكائنات المتكونة حديثا تُقبِل على الحياة برغبة، وعفوية، وسذاجة، وجهل تام بما يمكن أن تكون الحياة قد خبأت لها من مفاجئات! وتدور أيضا عجلات النمو والتصنيع لهذه الكائنات، ومن دون أن تعطى أهمية لتطوير المصنوع والمنتج من هذه الكائنات، وتحسين قدراتها الدفاعية عن نفسها، أو عن طريق اختيار أسلوب جديد للعيش رأفة بها! لا، ذلك لم ولن يحدث أبدا! إنه غير ممكن، فذلك سيبدو مخالفاً للتصميم الأساس والمتفق عليه! فالتصنيع مستمر بنفس أسس التصاميم التي مرّت عليها ملايين السنين، فلا يتم أي تطوير ولا تحسين ربما لفترات وعصور تزيد على الملايين من السنين. وعندما تحدث سوف تُسمّى طفرات وراثية، وكأنها شيء معيب قد حدث ضد رغبة المُصَمِّم!
نحن نعلم أن في كل الصناعات الحديثة التي أبدعها الإنسان، يسعى صانعوها ويبحثون دائما عن الفرصة لتطويرها. فيبحثون عن الأفضل في كل صفة من صفات المصنوع. كما أن صانعي هذه المصنوعات، يعطون في الغالب ضمانا يتعهد بالمسؤولية عن الخلل في المصنوع، وإمكانية استبداله أو إرجاعه واستعادة المبلغ المدفوع فيه. لكن صناعة الكائنات الحية أمر آخر يختلف كلية، فليس هناك مطلقا مبدأ إرجاع البضاعة، أو الاعتراض على العيوب التي تظهر عليها، والتي لا دخل فيها للمنتِج بقصد، فلا نحن ولا أي كائن في هذه الطبيعة القاسية الهَرِمة المُجحِفة، الذين يولدون فيها من كل الكائنات وعلى كل المستويات، ليس فينا من له الحق في ضمان من أي نوع كان! فنحن لم يكن لنا ضمان، ولن يكون لنا في أي مرحلة من مراحل عمرنا! لا، بل أننا كلما كبرنا زادت حاجتنا للصيانة وزادت معاناتنا لعدم توفرها أساسا، رغم تدخل الإنسان على الخط في محاولات منه لتصحيح أخطاء التصميم، في الهيكل وفي المحتويات من ماكينة وملحقاتها، ومع عدم توفر قطع الغيار يصبح الأمر وكأنه فخ نقع كلنا فيه! لأننا قبل خمسين سنة عندما كنا في ريعان الشباب، لم نكن نعلم أو لم نكن نهتم، وربما لم يكن يخطر على بالنا، أننا سنصل لهذا الحال البائس، بانتظار أن تأتي النهاية على عجلات النقّالة لكي نُرمى بعد ذلك في النفايات/السكراب! السكراب، الذي لا يستفيد منه أحد ممّن مازالوا أحياء، وطبعا نحن منذ اليوم الذي نولد فيه لهذا العالم، نمشي مع الموت أو العَوَق والعجَز كرفاق صحبة لنا يصاحبوننا، ونحن مُرغمين على مصاحبتهم، نكرههم لكننا لا نملك أن نبتعد عنهم، فليس لدينا خَيار في ذلك، وعلينا أن نتوقع التصاقهم بنا في كل لحظة، هذا إذا كنا قد تم تكويننا أو تركيبنا أساساً بالشكل الذي نتمناه! فكلٌ منّا قد وجد نفسه فجأة في هذا العالم على ما هو عليه، وعليه أن يتقبل ذلك ومن دون اعتراض، وإلاّ فإنه سيكون عاقّا ناكراً للجميل وجاحداً، ولا نعلم أي جميل هذا الذي ننكره؟ وأي جحود هذا الذي نواجه به كل ما قد فُرض علينا، ونحن لم يكن لنا رأي ولا قرار في أي منه؟! إنها عبودية يُقنّنُها ويُقرّها الإنسان ومن ثم يفرضها على نفسه! ويُصِرّ على أنها هي التي يجب أن تسود، ويجب أن تحكم العقول والنفوس والسلوك!
منذ سنوات وأنا أصارع فكرة ظلّت تطرق أبواب فكري بين الحين والحين! تلك هي باختصار وإيجاز: كيف يمكن أن يقضي الإنسان كامل أو معظم وقته مع كائنات حية من غير البشر؟ كائنات من غير تلك الأنواع التي اعتدنا على وجودها قريبة منا يوميا، وربما في كل ساعة، ونحن نتبادل معها مواقف الودّ والمحبة، مثل ما يحصل في علاقة الناس بأنواع الحيوانات المنزلية، أو الحيوانات الحقلية التي بينها وبين الإنسان مصالح ومنفعة. تلك الكائنات التي ربما يغلب على مواقف الغالبية منها مواقف عدم الانسجام والتآلف، وغيرها من المواقف التي تشوب علاقات الناس بعضهم ببعض.
لقد كان لتلك السيدة البريطانية (جين جودال Jane Goodall) أول تأثير عليّ للتفكير بهذا الاتجاه. جين، هي المرأة التي اختارت أن تعيش سنوات طويلة مع الشمبانزي، في تنزانيا منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. وكان ذلك لغرض دراسة سلوكهم ومقارنته بسلوك الإنسان. وقد كانت من أول من دخل هذا المعترك الجادّ، والذي يتطلب تضحية كبيرة للاستمرار فيه. وبالتأكيد كانت أول امرأة تقرّر المضي في هذه الصحبة للقرود من أجل دراسة سلوكهم. كانت أول مرة أعرف عنها هي بداية الثمانينات، أي بعد حوالي عشرين عاما من بداية دراستها للشمبانزي، وذلك من خلال برنامج كان يُعرض على شاشة قناة BBC التلفزيونية البريطانية، ومنها كنت أتصور أو أتأمل لو يكون باستطاعتي أن أدرس الصقر الحر Saker Falcon، ولكنني كنت أعرف أن رغبتي تلك وفي ذلك الوقت لم تكن عملية وكانت غير واقعية، فقد كانت دراسة من ذلك النوع تحتاج لتضحية بأمور كثيرة من جانب الدارس، أولها الحياة العائلية والشخصية، وهذا ما لم أكن متهيئا له، كما أنني كنت في عملي اليومي فعليا أحاول أن أتابع قدر ما أستطيع هذا الصقر الحر، الذي كنت ومازلت مغرما به، ولكن متابعتي له كانت فقط من نواحي سلوكه وهو يعيش حالة الأسر، وليس وهو يعيش حراً! إضافة للأمراض التي كان يصاب بها وهو يعيش حالة الأسر. وقد كان الصقر الحر من الصقور التي لا يُعرف عنها الكثير، وذلك لأن نطاق وجوده في الطبيعة هو مناطق شرق أوربا بامتداد نحو سيبيريا ومنغوليا والصين، حيث يقضي معظم أشهر السنة، وثم يهاجر في أواخر الخريف وبداية الشتاء جنوبا نحو مناطق باكستان وإيران والعراق والجزيرة العربية. ومعروف أن الإتحاد السوفييتي في ذلك الوقت لم يكن مفتوحاً للأغراب لأغراض الدراسة بسهولة. كما أن الصين لم تكن تتعامل مع الأغراب بانفتاح في كل ما يخص الحيوانات التي تعيش فيها، لأنها هي التي تسيطر على كل البحوث والدراسات العلمية، وتعطي الفرصة في ذلك لأبنائها فقط. أما منغوليا والتي تعيش فيها سلالة من سلالات الصقر الحر النادرة، في منطقة ضيقة من جبال التاي Al Tai، فقد كانت بلدا شبه مغلق، ولم يكن من السهل حتى زيارتها قبل بدايات تسعينات القرن الماضي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي.
وللاختصار فقد كان هذا المشروع مؤجل لأجل غير مسمى، وحسب الظروف المستقبلية التي تتحكم بحياتنا، ولم أستطع التفكير به جديا وأبدأ في تطبيقه إلاّ بعد أن بلغت مرحلة التقاعد، وتمكنت من الحصول على حرية شبه تامة ومناسبة، لتطبيق مشروع هو أقرب ما يكون لمحاولة دراسة ومعرفة سلوك الطيور القريبة منا، والتي تعتبر من الطيور الأليفة التي تم تدجينها منذ آلاف السنين، وذلك لأن الواقع يفرض علي عدم إمكانية القيام بدراسة تتطلب العيش في البراري ولمدة طويلة، في هذا العمر الذي نحتاج فيه (وأنا بالفعل أحتاج) أن لا أذهب بعيداً عن الأطباء والمستشفيات والأدوية! حيث لا يسهل الاستئناس بشيء إذا ما كان هنالك هاجس المخاوف من البعد عن مؤسسات الرعاية الصحية!
عندما بدأ الحيوان يتحول إلى إنسان، أبدع في تركيب وصناعة الكثير من الإضافات لكيانه، وأصبحت تلك الإضافات فيما بعد جزءاً لا يتجزأ من كيان هذا الحيوان، الذي تطور عقله وبعض من خصائص جسمه ليصبح إنسانا، فأصبحت ضرورة من ضرورات حياته بشكل عام. فبعد أن كان لا يجد أمامه شيئا يفعله يوميا غير البحث عن الطعام والشراب، وربما اللعب والعبث مع أقرانه في التجمع الحيواني، فإنه استطاع أن يكوّن المجتمع، وأصبح يرتبط مع الآخرين المشاركين معه في التجمع، بمصالح مشتركة تطورت حتى نشأت العائلة، ومن ثم أجيال العائلة الواحدة، وبعدها تشكلت القبيلة أو العائلة الكبيرة، وبعد ذلك بدأت تظهر الفوارق بين الأفراد من حيث القدرات والقابليات، وكسب انتباه واهتمام الآخرين في العائلة أو التجمع، وتعدّت رغبات المجموعة ما كانت تفرضه الغريزة فقط على الفرد منها، وبصورة تكاد تكون موحدة، فأصبحت هناك رغبات مختلفة ومتفاوتة في الكثير من الأمور. وهذه بدأت تظهر كإبداع يُحسب لهذا الحيوان، الذي دخل عالم الإنسانية حديثا، فظهرت صناعة الأدوات التي يستخدمها في الصيد. ومن ثم الفنون بداية برسم كل ما هو مهم في حياته من محيطه. فبدأ يرسم الحيوانات التي يرغب باصطيادها ليعتاش عليها، والحيوانات التي يهابها ويخشى منها على حياته. وبدأت الفنون الأخرى تظهر تدريجيا بظهور الموسيقى، وبقيمة الأصوات التي كان يستمع لها، مما تطلقه الطيور المختلفة وربما البعض من الحيوانات. ثم ظهرت الأديان كترجمة للخوف الدائم والملازم لهذا الكائن، الذي تطوّر دماغه وذهب بعيداً عن أصله الحيواني، نتيجة تعقّد دماغه وازدياد حجمه وتعدد المواقع التي أصبحت ظمن اهتماماته. وهكذا خرج من نطاق التبعية المادية الصرفة في حياته، إلى مسارات مما هو غير مادي وغير محسوس من قبل أصله الحيواني!
كيف تكوّن ذلك ولماذا؟
هذا أمر سيمرّ وقت طويل قبل أن نستطيع معرفته ومعرفة أساسه وكيف ولماذا نشأ؟
وهل هو من ظمن إنجازات الطبيعة التصميمية البحتة؟
أم أنه جزء من قدرات ذاتية تشكلت من خلال هندسة خلوية داخلية في الغالب، موقعها الدماغ الذي كان هو العلامة الأوضح في تطور الإنسان؟
أو أنه ربما يكون نتيجة شيء أعمق جذوراً في جسم هذا الكائن الذي أصبح يسابق الزمن بتطوره؟
لقد حاول الإنسان منذ بداية حياته الاجتماعية محاكاة الطبيعة وتقليدها، لغرض اتقاء تأثيرها السلبي عليه، ولكي يستفيد مما يحتاجه منها في حياته. فقد قلّد الحيوانات عندما بدأ يستخدم جلودها لتغطية جسمه في فترات البرد. وبدأ يصنع أدواته البدائية التي استخدمها في الصيد، متمثلة بقرون ومخالب الحيوانات عندما صنع رؤوس الرماح والسهام وما يشبه السكين من الحجر. وبعد قرون من الاستقرار توصل إلى معرفة كيف تنبت الحبوب أعشاباً وهذه الأعشاب تنتج بِدَورها الحبوب من جديد. وكان بذلك أساس الاستقرار الزراعي الذي عرفه، والذي تطور فيما بعد لتكوين مستوطنات وتجمعات بدأت تعيش حياة استقرار، ونتجت منها الأعراف والممارسات المجتمعية المختلفة.
عندما بدأ الإنسان تدجين الطيور، كانت طيور الدجاج في الغالب من أهمها، وهي التي استخدمها لاستفادته منها. وقد يكون ذلك منذ أكثر من عشرة آلاف سنة. وقد كان إنجازا بشريا يضاف لإنجازات الإنسان في تحدّيه للطبيعة القاسية، وفي إثبات قدراته الجادة وصموده في وجه الصعوبات المعيشية، التي كانت عائقا كبيرا لمسيرته على طول تاريخ البشرية. ثم جاءت من بعد ذلك محاولته تخطي حدود الإنتاج الطبيعي المحدود لهذا النوع من الطيور، عندما بدأ يحاول تجاوز الحاجة للدجاج الأمهات، في القيام بحضانة وتفقيس البيض من دون الاعتماد على الأمهات في هذه العملية. ويُذكَر أن محاولته هذه كانت مبكرة أكثر بكثير مما يتوقع، إذ تذكر البحوث التاريخية أن المصريين القدماء قد نجحوا في تفقيس البيض في أكواخ طينية قبل حوالي 3000 سنة! والصينيون كانوا يقومون بتفقيس البيض حوالي 250 سنة قبل الميلاد، حتى وصلنا لتاريخنا الحديث عندما صنعت أول حاضنة للبيض في أميريكا سنة 1844. وهذه الخطوات كانت صاحبة الفضل في رفع مستوى إنتاج الدجاج، لدرجة أنه أصبح متوفرا في معظم أنحاء العالم، وبأسعار تكاد تكون أرخص من جميع أنواع اللحوم الأخرى. ولولا نجاح الإنسان في هذا التحدي، لكان من الصعب على نسبة عالية من البشر الحصول على لحوم الدجاج والبيض كما هو سهل اليوم. وهنا يُدلّل الإنسان على أنه في تحدّيه للطبيعة وإصراره على تعديل النواقص والخلل في تصاميمها، إنما يقوم بخدمة أساسية وجوهرية وفعالة في سبيل توفير القوت اللازم لمليارات البشر. وهذا بدوره يدلل على أن الطبيعة إذا ما كانت هي الأول فإنها لا يجب أن تكون الآخر!
مسار الطبيعة في تكون الكائنات الحية:
عندما يتسنى لنا مراقبة ومتابعة مراحل المسار الذي تسلكه الكائنات الحية في طريق تكونها قبل خروجها لهذا العالم، أي في مراحلها الجنينية المتتالية حتى بلوغ الولادة، فإننا بلا شك سنلاحظ مسارات تكاد تكون قريبة الشبه من بعضها، رغم أننا لا نستطيع رؤية ما يحدث للأجنة المتكونة في أرحام الحيوانات اللبونة، بدون الاستعانة بالوسائل والأجهزة العلمية الحديثة. وما كان يعرفه الإنسان حسب تصوراته، إنما كان مجرد تصورات وتخمينات خطأ، تراكمت لديه من خلال تجمع الخبرات والتصورات المتوارثة، والناتجة عن طريق رؤية الأجنة التي تُجهض قبل بلوغها مرحلة النمو الكاملة. وهذا ما قد تبين لنا بعد أن أصبح من السهل وبواسطة أجهزة الطب الحديثة مراقبة نمو الأجنة في الأرحام. ومعرفة جنسها ومعرفة تفاصيل الخلل المحتمل في تكوينها وبكل دقة. أي أن العلم الحديث مازال وسوف يستمر في تصحيح مسارات وفوضى الطبيعة وتعسفها في كل جوانب الحياة! تلك الفوضى التي تبدأ في أجسام الكائنات الحية، وتتخطى ما يحيط بنا مما نراه في كل الكون الذي نعيش فيه!
في الأطوار الجنينية المتتابعة في نمو الكائنات الحية، والكلام هنا عن الطيور التي تتكاثر بواسطة حضانة البيض، وكل إنسان لديه قدرة جيدة على الملاحظة مدعومة بمعلومات علمية بسيطة، يمكنه الحصول عليها من خلال قراءة مراجع بسيطة تتحدث عن مراحل تكون الجنين داخل بيضة الطير، سوف يلاحظ أن عملية تكون الجنين قد تتوقف في أي وقت من حضانة البيض، وبدون سبب واضح أو مفهوم، بالرغم من أنه -على سبيل المثال- هنالك أكثر من مئة بيضة يتم حضانتها في جهاز تفقيس واحد، يوفر لجميع البيض نفس الظروف من حرارة ورطوبة وتقليب دوري، على مدار اليوم وللمدة المقررة لحضانة البيض. وطبعا يمكن معرفة ذلك من خلال فحص البيض، بواسطة مصباح الفحص المخصص لهذا الغرض. وبصورة عامة تبدأ علامة نشوء الحياة في البيضة في اليوم السادس على الأغلب، عندما تبدأ الخيوط الحمراء المتعرجة في الظهور، والتي تمثل الأوعية الدموية التي تنبعث من نقطة داكنة اللون، وتسير باتجاهات مختلفة وبدون نسق أو ترتيب واضح. وإذا لم تظهر هذه الخيوط وهذه النقطة الداكنة بعد هذه الأيام الستة، فذلك يعني أن البيضة غير ملقحة وليس لها حظ في إنتاج كائن حي. والبيض غير الملقح لا يعنينا هنا، لأنه غير مستوفٍ لشروط نشوء الحياة وبدايتها في تكوين كائن حي داخل البيضة. والذي يعنينا هو ذلك البيض الذي قد بدأت فيه علامات نشوء وتكون الحياة، والذي سوف تتسارع فيه عملية تكون ونمو الجنين، حتى يبلغ مداه ويحين موعد الولادة والخروج من البيضة. لا شك أن عملية نمو الجنين داخل البيضة واكتماله في حالة الدجاج في فترة ما بين 20 إلى 21 يوما، هي عملية مذهلة لمن يتابعها، رغم عدم وضوح تكوّن الأعضاء الداخلية للجنين، ولا يمكن تمييز حتى التفاصيل الخارجية للجنين الذي يتسارع في نموه الواضح يوميا. إنها عملية تختلف كثيراً عن عملية نشوء الحياة في إنبات بذرة من البذور أيا كان نوعها، رغم أن البذرة تنفلق وتظهر فوق سطح التربة وتبدأ تتسارع في نموها، ثم تبدأ تفاصيلها بالظهور والتشكل تدريجيا، لكن تكوّن الجنين داخل البيضة مسألة تختلف كثيرا في إثارتها لاهتمام المراقب المتابع لعملية النمو.
إن مسار تكوّن الحياة ونمو الجنين، أي جنين كان، يُشترط له العديد من الشروط والظروف اللازمة التي لا يمكن الإخلال بأحدها، وإلا فالنتيجة تكون إما تشوه الجنين أو توقف نموه وموته قبل ولادته. وهذه الشروط في الغالب تكون خارجية ولا علاقة لها بالجنين داخل البيضة مثلا. ذلك أن البيضة الملقحة بمحتواها يُفترض أنها تمتلك أو تحتوي مستلزمات نشوء الحياة واستمرار نموها، وهي بحاجة فقط لتوفر الظروف الخارجية من حرارة ورطوبة وتقليب دوري.
وللحديث بقية.....
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. إسرائيل تستولي على المنطقة العازلة في الجولان وتهاجم أنظمة أ
.. الكرملين: بوتين هو من قرر منح الرئيس السوري بشار الأسد حق ال
.. سجون الأسد في سوريا.. كيف الوصول للأقبية السرية؟
.. ماذا عن عودة السوريين المقيمين في تركيا إلى ديارهم؟
.. سوريون مقيمون في لبنان يعودون لبلادهم.. ما هي المعابر المفتو