الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آخر الثوريين الحالمين

عبد الحسين شعبان

2024 / 10 / 30
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


قبل بدء حرب الإبادة ضدّ لبنان كنت قد عثرت على ورقة بين أوراقي المبعثرة وراء صفّ من الكتب العتيقة في مكتبتي غير المتناسقة، وأنا أعيد بعض ما استعرته منها لأغراض المراجعة والتدقيق. ابتسمت وأنا أقرأ بعض تدويناتي عن تشي جيفارا، وكأنه نور سحيق أفلت من قبضة زمن مختلف.
رحت أفكّر، لبضعة دقائق في حنين غريب، بتلك المرحلة فندّ من تلك الأوراق الطريّة النديّة على الرغم من جفافها صوت أغنية قديمة "جيفارا مات" وهي قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومع أنه نسيم عذب وريح خفيفة تسبق المطر، لكنه لحن حزين وقاس: جيفارا مات، جيفارا مات، آخر خبر بالراديوهات وفي الكنايس والجوامع... مات المناضل المثال، ياميت خسارة عالرجال...
وبدلًا من إعادة أوراقي العتيقة إلى مكانها نفّضت عنها الغبار ووضعتها على طاولتي ولا أدري لماذا دسستها بعد ذلك في حقيبتي، ربما خوفًا عليها من الضياع في زحمة الأوراق والقصاصات والصحف والمجلات، ولعلّ تلك العادة كنت التمست جدواها لفترة زادت عن خمسة عقود من الزمن، حيث كنت أخبئ تلك الأوراق لأعود إليها أحيانًا، وكم تكون مفاجأتي كبيرة حين أجدها راهنية، بل وآنية، وهكذا كنت أحتفظ ببعض القصاصات والأوراق والرسائل في حقيبة اليد، حتى وإن كنت لا أستعملها.
عادت بي الذاكرة الملعونة إلى 57 عامًا إلى الوراء يوم وصلنا خبر اغتيال جيفارا في بوليفيا إثر وشاية واندساس، كيف ظلّ الرجل متماسكًا وثابتًا وواجه مصيره بكلّ جرأة وشجاعة، وهو القائل "كن هادئًا وصوّب جيدًا، أنت تقتل رجلًا".
يومها بعد 7 أكتوبر / تشرين الأول 1967، وكنت حينها في الصف المنتهي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، نظمنا اجتماعًا مهيبًا في كلية التربية، وتبادلنا التعازي، بل أن الكثير من أصدقائنا كلانوا يخصوننا بذلك، وقد رويت ذلك في كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، بيروت، 2011).
وعلى الرغم من أننا حينها لم نكن من التيار الذي اقتفى أثر الجيفارية، بل اعتبرناها تجربة غير قابلة للاستنساخ، فضلًا عن أن الدعوة إلى تشكيل البؤر الثورية على حساب العمل المنظم ليست السبيل إلى تغيير الأوضاع، لاسيّما بالزحف من الريف إلى المدينة، لكن ذلك لم يمنعنا من إظهار أنواع التضامن مع أحد أبرز ثوريي عصره، بل أحد أكبر الثوريين في العالم الذين وضعوا أحلامهم قيد التنفيذ، واسترخصوا حياتهم في سبيل تلك الأحلام التي بدت لهم الحقيقة الوحيدة على حد تعبير المخرج الإيطالي فيليني.
وبغض النظر إن كان الثوري الحقيقي أخطأ الحساب أو لم يقدّر ظروف المواجهة ويحسب ميزان القوى بدقة، سواءً بالتقليل من قوّة العدو أو بتضخيم قواه الذاتية، لكنه لمجرد اختياره لحظة المجابهة "هذه اللحظة الثورية"، فإن واجب التضامن معه يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، وقد هلّل ماركس إلى السماء لكمونة باريس يوم اندلعت بقوله "هبوا لاقتحام السماء"، على الرغم من ملاحظاته عليها وشعوره بأنها يمكن أن تذبح، فلم يعد الوقت مناسبًا للنقد أو إبداء الملاحظات طالما أن المعركة بدأت، ولا مجال للتفرّج عليها.
من المعروف أن ماركس قد حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر، من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في آذار / مارس 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمرا واقعا، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصر ماركس اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها".
ومثل هذا الأمر يتكرر عادة في التاريخ، منها مواجهة الزعيم العربي جمال عبد الناصر للمخطط الإسرائيلي العدواني في العام 1967، على الرغم من الملاحظات حول الأعداد للمعركة عسكريًا، وحريّة الجماهير للمشاركة فيها، ولعلّ أية معركة حقيقية تحتاج إلى حشد أوسع الطاقات وإطلاقها في مواجهة العدو.
لم يكن أدنى شك من أن المواجهة تتطلّب مستلزمات أخرى، لكن الوقت ليس وقت شماتة أو تشفّي أو استقالة عن المشاركة أو تسقّط الأخطاء طالما أن المعركة بدأت، وإلّا سيصبّ مثل هذا الأمر في طاحونة العدو، أمّا النقد والتقييم، وحتى المساءلة بإعادة قراءة التجربة، فيأتي لاحقًا، ولطالما بدأت حرب المواجهة في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، فلا مجال إلّا بالانحياز لفلسطين وللمقاومة ولمجابهة العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الشاملة، والاساس في ذلك أن هذه الحرب هي حرب عقول وإرادات، وحرب علوم وتكنولوجيا.
وهي حرب وطنية وتحرّرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، استهدف منها العدو الصهيوني، ولاسيّما بوحشيته ولا إنسانيته الخارقة فرض الإذعان، بل وجعله ثقافة وتيئيس الأمل في التحرير، ومحاولته شن حرب نفسية ناعمة موازية للحرب الهمجية العسكرية العنيفة المنفلتة من عقالها، وربما هذه الحرب أكثر خطورة وإيلامًا وخبثًا ودناءة من الحرب العسكرية ومن العدوان الإجرامي.
وهكذا أخذت بعض الأصوات ترتفع بحجة "العقلانية" و"الموضوعية" و"تجنب الصراع" لضخ شتّى الاتهامات للسيّد حسن نصرالله، الذي أعاد صورة جيفارا بكلّ رمزيته وكارزميته وجلاله إلى ساحتنا مجددًا، بعد أن نسي أو تناسى كثيرون هذه الأمثلة الرائدة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها في اختيار وتوقيت لحظة المجابهة والإعداد الكافي لها وتحمّل نتائجها، لكننا لا ينبغي أن ننسى أن العدو ووجوده في قلب الوطن العربي هو مشروع "حرب مستمرّة" و"بؤرة توتّر دائمة"، بل و"قنبلة غير موقوتة" لا يمكن التكهّن بأية لحظة ممكن أن تنفجر، وتلك هي حقيقة الصراع التي لا ينبغي أن تغييب عن البال.
الثوريون الحقيقيون بلا أحلام يصدأون، فالحلم هو جزء من شخصية الثوري الحقيقي، وطالما ظلّ الثوري ثوريًا فالحلم يبقى طازجًا ولا يتحوّل إلى حلم معلّب،
وعلى طريق الحالم الكبير والثوري الكبير والشهيد الكبير نصرالله، سقط حالم آخر هو يحيى السنوار وفي الميدان أيضًا، لكن أرواح الثوريين مثل أفكارهم تتناسل، بل إنها لها أجنحة، هكذا ستطير على حد تعبير ابن رشد، نعم للأفكار أجنحة مثلما للبطولة أجنحة، وأجنحة الثوريين الحالمين لا ترفعهم إلى السماء فحسب، بل تنثر أرواحهم في ربوع تربة الوطن لتنبت ثمّ تزهر وبعدها تثمر ثم تنضج، وهذه الأرض المروية بالدم والشمس والأحلام والمتطلّعة إلى الحريّة والحياة، لا يمكنها إلّا أن تكون كذلك، فليس هناك شعب تحتلّ أراضيه ولا يقاوم إلّا إذا كان شعبًا من العبيد، وأظنّ أن الشعب العربي الفلسطيني هو شعب حرّ توّاق إلى الحريّة والحياة، مثله مثل الشعب اللبناني وشعوب الأمة العربية كافّة.
كنت وأنا أقابل آخر الثوريين الحالمين بعد تحرير الجنوب اللبناني، وانسحاب العدو الإسرائيلي "خانعًا" قلت له "أرى القمر هذه الأيام أكثر إشعاعًا، وكأنني أراه لأول مرّة، ربما هو قمر بني هاشم الذي زاده ضياءً"، فبادرني "إنه منكم..." إنه "نور النجف"، واستوقفني حيث كان قد درس في مدرستها التي مضى عليها ألف عام، ومرة أخرى في اجتماع لدعم المقاومة، كنت أتأمله بابتسامته الخجولة ونظرته الحالمة، يوم اجتمعت جميع فصائلها الفلسطينية واللبنانية وشخصيات فكرية وثقافية حين كانت روحه هناك، إلى حيث الحلم الليموني، إلى التحرير.
وفي كلّ مرّة كنت أتطلّع إليه أو أشاهده في التلفزيون تقصر المسافة عندي بين الحلم والواقع، بل يتداخل الحلم مع الواقع في قصيدة أو لوحة أو سمفونية هي التي تجمع الحياة بالحريّة والإنسان بالقيم والثوري بالأمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفرق بين (الكَتَبَة) و (الكُتّاب)
محمد بن زكري ( 2024 / 11 / 1 - 14:41 )
الفرق كبير ، والمسافة واسعة ؛ بين الكاتب الذي جمعه (كَتَبَة) ، والكاتب الذي جمعه (كُتَّاب) .
فقد يكتب كاتب ما مائة مقال ، ويكون المقال طويلا ممطوطا مستلقيا بجسمه المتضخم على عديد الصفحات ؛ لكن المحصلة النهائية : ضجيج ، و كلام إنشائي استعراضي مرسل و مُمِلّ ، و(حكيْ قهاوي) . ولمثل ذلك الصنف من المقالات قراءٌ كُثر متماهون مع ذلك الكاتب الذي جمعه (كَتَبَة) .
وبالمقابل ، قد يكتب كاتب ما مقالا واحدا ، ويكون المقال قصيرا مركز الأفكار في بضع فقرات ، بطرح موضوعي (أو تغلب عليه الموضوعية) . وقد تتفق أو تختلف مع محتوى المقال ؛ لكن الأمانة تقتضي أن تقدر للكاتب تميّزه الذي يرسّمه كاتبا من النوع الذي جمعه (كُتّاب) . هذا ، على أنّ الأمر (هنا) ليس مستغربا من الكاتب والمفكراليساري الكبير عبد الحسين شعبان ، كما هو الحال مع محمود أمين العالم ومهدي عامل وطيب تيزيني ...
المستلبون والحواة سيعتبرون المقالة تماهيا (مؤدلجا !) مع تيار الاسلام السياسي ، وتبريرا لـ (خطأ وخطيئة !) حماس وحزب الله ، وبكائية على (الولائي) حسن نصر الله ، ومرثية لـ (الإرهابي !) يحيى السنوار .
التحية والتقدير للدكتور عبد الحسين شعبان


2 - نص يدل على الانحطاط واحتقار العلم والعقل باعتبار ا
المتابع ( 2024 / 11 / 1 - 21:06 )
باعتبار -دهن الدوني-كما يقول العراقيون في القتل والارهاب بل واسقاط دولة لبنان وحرمان اهلها حتى من انتخاب رئيس وحكومة للبنان-اقول اعتبار الكاتب البائس-وهو شخص عطال بطال لايدري كيف يعيش ومرفها ويسمي نفسه مفكرا لاادري وفقا لاي معيار او جهة -اقول يعتبر المجرم الارهابي حسن نصر الله بل وحتى شارب الدم واكل اللحوم البشريه السنوار يعتبره ثوريا بل قمة الثوريه مستعملا معايير ربما من سوق الشلايتيه وليس من نشاط وتقدم وتطور وابداع المجتمعات الديناميكية في مئات السنين الاخيره-عيب رجاء صحيح ان مجتمعاتنا جاهلة متخلفه ولكن ها لايسمح لنا العدوان على علوم وفنون وفكر وعقول المجتمعات المتقدمه-يا لسوء الحظ لمثل هذه الكتابات البائسه غير المسؤله ويكتبها اشباه اميون يسمون انفسهم مفكرين


3 - الا يشترط ان الثائر يكون تقدميا ؟ه
منير كريم ( 2024 / 11 / 1 - 23:21 )
السيد الكاتب
هل لك ان تجيب على سؤالي
الا يشترط بالثائر ان يكون تقدميا ؟
فاين التقدمية في فكر هؤلاء الرجعيين الارهابيين ؟
اجب رجاء


4 - 2سرجينسكي
صاير سياسي ( 2024 / 11 / 2 - 14:06 )
ا تعليك اتلاثه طائفي بغيض ناس ماتوا بشرف مو مكاديه وشحاذيين بالغرب

اخر الافلام

.. سياسات ترامب الجمركية: سلاح ذو حدين؟ | بتوقيت برلين


.. ترامب بعد إعلان محمد بن سلمان عن الـ600 مليار دولار: سأطلب م




.. منظمة إرهابية أجنبية.. ماذا يعني تصنيف ترامب للحوثيين؟ | #ست


.. عاجل | كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام منتدى دافوس




.. وقف إطلاق النار في غزة.. كيف يؤثر على مصر؟.. وزيرة التخطيط و