الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشكلة الاعتدال العربي

موريس عايق

2006 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


لا يخاض الكفاح الايديولوجي على مستوى الافكار وحسب وانما ايضا على مستوى اللغة، فالاسماء والنعوت تكون ذاتها مجالا للصراع، فكل من الافرقاء يسعى الى تعريف نفسه والى تثبيت هذا التعريف، وهذا هو حال "الاعتدال" العربي.
يحيل الاعتدال الى الوسطية والنأي عن الغرائز والاندفاعات الجامحة، والى تحكيم العقل. المعتدل هو الحكم بين الجميع والضمانة لمصالحهم في مواجهة "المتطرفين" و "المغالين".
يسعى تيار الاعتدال العربي من خلال هذه المفردة الى تقديم نفسه على انه حماية من أهواء التطرف لدى الآخرين، وضمانة التعقل والوسطية وهي المفردة ذات التاريخ الطويل في الفكر الاسلامي وان كان خطاب الاعتدال غير اسلامي واحيانا مناهض له.
لكن من هم المعتدلون العرب؟
تيار الاعتدال العربي "السني" كما تم تعريفه امريكيا واعلاميا يتكون أساسا من السعودية ومصر والاردن وحلفائهم في مواجهة تيار "الممانعة الشيعية" المكون من ايران وسوريا وامتداداتهما كحزب الله وحماس (الشيعية باطنا والسنية ظاهرا كما يبدو)
ولكن ما الذي يميز هؤلاء المعتدلون عن الممانعين خلا الموقف من المشروع الامريكي؟
ليس وضع حقوق الانسان أو الشفافية أو نسب الفقر وسوء الادارة الاقتصادية وهي كلها ليست أحسن حالا في مصر منها في سوريا، ووضع الحريات السياسية و تقدم النظام السياسي السعودي لا يستحق مجرد المقارنة بنظيره الايراني، ولا مجال للموازنة بين الفساد والتسلط الذي ميز عهد فتح "المعتدلة" بنظافة كف حماس "الممانعة".
وحده الموقف من المشروع الامريكي هو فحوى التمييز بين الممانعين والمعتدلين. المعتدل هو الموافق على المشروع الامريكي بينما يرفضه التيار الممانع، ولكن حتى هذا ليس معطى بسيط كما يبدو للوهلة الأولى، فليس هناك ما يوحي في سلوك الممانعين برغبة في المواجهة والصدام وانما على العكس امتازت جبهاتهم بهدوء يندر وجوده على جبهات المعتدلين. ولكنهم يبقون في خندق ممانعة السياسة الامريكية في المنطقة.
اما لغة الحرب -والتي يفترضها البعض مقياسا للتمييز- فهي ليست بذات جدوى، فمصر والتي تخلت عن لغة الحرب مع اسرائيل لصالح لغة السلام لم تتوقف عن حربها الداخلية ضد شعبها وبشتى الذرائع كحال الممانعين وهذا يشمل جميع المعتدلين. فالتخلي عن لغة الحرب تم حصريا مع اسرائيل وليس بمواجهة شعوبهم.
ان كانت السمة الوحيدة لتحديد تيار الاعتدال العربي هي الموقف من المشروع الامريكي فما الذي يحدد تيار الاعتدال العربي ثقافيا؟
وما هو خطابه؟
من الصعب على المرء أن يحدد بدقة ما الذي يجمع هذا الكم الهائل من المتنافرين تحت يافطة الاعتدال.وهذه الضبابية- والتي يمارسها المعتدلون- في تعريف الاعتدال ستمتد الى المفهوم المضاد "الممانعين"، والذين سيبدو من الصعوبة بمكان ادراك ما يجمعهم.
ما الذي يجمع معتدلين ليبراليين مع معتدلين وهابيين -اليسار الديمقراطي مع الجامع الأزهر- ويضاف اليهم معتدلين قواتيين، أو على العكس ما الذي يحدد الممانعين وخاصة أن بعض المعتدلين (دلال البزري مثلا في مقالة "أيها الممانعون العرب" في الحياة 06|11|05 ) يرى أن الأحداث الأخيرة في القاهرة هي نتاج الممانعين، على الرغم من حصولها في بلد "معتدل"؟
هل يكون المقصود بهذا هيمنة ثقافية للممانعين على مصر؟
ولكن أليست هذه التيارات هي السند الفعلي للنظام المعتدل ومرتبطة بفكر الأزهر (مؤسسة معتدلة) وايديولوجيا النظام السعودي (المعتدل هو الآخر)، وأكثر من هذا أليس حضورها أضعف في بلد ممانع كسوريا؟
ان عدم وضوح المعتدلين في مفاهيمهم هو ميزة، فهم يستطيعون مخاطبة أمزجة مختلفة، ومسألة أخرى لا تقل أهمية هي ادعائهم الدائم بوجود "خطر محدق" من قبل الآخرين. الممانعون يحتكرون المجال العام.
لكن مع هذا هناك سمة أساسية يمكن لنا(كما هو مفترض) أن نحدد على أساسها ماهية الاعتدال، وهي التي تنطلق من اسمه "الاعتدال". ادراك الواقع وعدم المغالاة في دفعه بأي اتجاه. اي أن الاعتدال سياسة الممكن والتوسط في المطالب في مواجهة "ظفراوية" الممانعين. لكن ما يهمله الاعتدال في هذا السياق هو الواقع ذاته والجائر بظلمه والذي يستند اليه، تعريف ذاته كمعتدل لامعنى له أمام الواقع، انما أمام الممانعين، اما حال الواقع فتبقى مسألة مبعدة.
ان الواقع غير معتدل -وهذا هو المسكوت عنه من قبل المعتدلين- تتحكم به علاقات القوة والبطش والفقر، ومع هذا يطالب المعتدلون بالاعتدال في مواجهته.
هنا لابد لنا من ملاحظة سريعة عن الاصول الفكرية لعدد كبير من المعتدلين وهو اليسار الثوري سابقا. المعتدلون كانوا يوما ما ممانعين، ان أهمية هذه الملاحظة تكمن في أن المعتدلين أبناء تجربة انتهت بشكل مفجع اما الى هزيمة تامة أو الى أنظمة استبدادية تستدعي شعارات ثورية لتبرير وجودها. بدء الاعتدال العربي هو الاعتراض على هذه النتيجة، محاسبة ذاتية لتبرير المغادرة تاليا.
ينطلق المعتدل من أرضية مصيبة في نقده وهو واقع حال التجربة الثورية "الممانعة" وما انتجته، ولكنه ينتهي الى نتيجة غير منطقية وهي أن ما نحياه اليوم هو وحسب جراء هذه التجربة. ما يهمله هو أن التجربة ذاتها أتت ردا على ظلم أساسي موجود، على احتلال واقع، على استغلال وحروب مستمرة تشن علينا،على التجزئة التي فرضت. ظلم استدعى مقاومة وأيا كانت أخطاؤها -وهي غير قابلة للتبرير انطلاقا من الظلم الأساسي( الاحتلال، الاقصاء من المشاركة السياسية، القمع والفقر والفساد...الخ)- فانها لا تعني اننا هنا بسبب حصري منها. لم يكن الواقع الفلسطيني اليوم نتيجة لحماس انما لعشر سنوات من الاعتدال الفلسطيني والعسف الاسرائيلي ولعقود سابقة من الاحتلال والتشريد ويمكن القياس في جل الحالات على هذا الاساس.
من الممكن للمعتدل (وكان ليكون مكسبا) الانطلاق بنقده من واقعتين الظلم الأساسي والظلم الثانوي (وهما تعبيران استخدمهما فيصل دراج عند حديثه عن علاقة الصراع بين الانظمة والاسلاميين، حيث ظلم الأنظمة هو ظلم أساسي بينما الظلم الناتج عن رد رد الاسلاميين هو ظلم ثانوي) الذي انتجته تجارب المقاومة، وأن يؤكد أن أيا من الظلمين لا يبرر للآخر وجوده. لكن هذا ما لم يفعله المعتدل العربي، على العكس طالب بالعودة الى الممكن الواقعي، ضمن تصور ثابت وغير قابل للتغيير لموازين القوى، مماعنى أن الواقع الموجود هو الممكن الوحيد. هذا ما دفع في النهاية المعتدل الى التصالح مع الظلم الاساسي (القوي) والتطبيع معه اي انه حقيقي وموجود ولكنه طبيعي ولا يستحق بالتالي المواجهة والاعتراض بحكم كونه مستمر ودائم ويصبح بعدها خارج امكانيات التغيير. هكذا تصور لا يمكن أن ينتهي الا الى أن سبب المشكلة ليس الظالمين انما سياسات المظلومين، سبب المأساة ليس الاحتلال الاسرائيلي انما سياسات حماس،وليس التهديد الاسرائيلي واختراقاته المستمرة للبنان وقضايا الاسرى واحتلال مزراع شبعا، وليس حتى النظام الطائفي انما حزب الله وسلاحه.
المصالحة مع "العالم كما هو" تشكل جوهر الاعتدال وهو ما يحدده كايديولوجيا محافظة (وعي مزيف للواقع). لكن أزمة الاعتدال (تحديدا الحداثي منه) في هذه المصالحة هو واقع القوة ذاته، فهم سيكونون بعيدين عن الشارع الذي يعاني وهذا ما سيدفعهم الى تعزيز ظاهرة"الخطر المحدق" والليبراليون لن يروا أنفسهم في نظام كالنظام السعودي أو حتى المصري ولكنهم متوافقون معهم بالموقف السياسي لهذا سيكتشفون ممانعا في داخل النظام، ليس وزير الخارجية انما امام المسجد الحرام. الاول سيكون موضوعا للمدح والثاني للردح،الاول معتدل والثاني ممانع وبهذه الطريقة سيتم اكتشاف الممانعين وراء أحداث القاهرة. المعتدل يدرك تماما ضعفه وهشاشته،ليس لقوة خصمه انما لأن الواقع الذي يدعو الى الاعتدال على أساسه مفرط بظلمه ولا يمكن للذين في الأسفل أن يعتدلوا. واقع المعتدل أن يرى ممانع في كل مكان على الرغم من سيادته على وسائل الاعلام.
المعتدل والذي يدافع عن واقع "مغال" في سوءه سيندفع الى سياسات بعيدة حتى عن الاعتدال (الا في مواجهة الأقوياء). المعتدل اللبناني اليوم اقصائي في مواجهة "الشمولي والممانع" اللبناني. يرفضه كمعارضة ويمنعه من المشاركة ويصر على احتكاره التام للقرارات الوطنية الكبرى على الرغم من انها قرارات تفترض المشاركة من الجميع (التعايش المشترك) في الاحوال العادية، فما حالها في ظروف استثنائية. المعتدل يريد كل شيء ليطمئن ومن يطالبه بالمشاركة هو ممانع، وهذا مايثبت أن الممانعين مهيمنون وخطرون. هذه الاقصائية والتطرف لدى المعتدل ليس لها من تفسير-او احد اسبابها على أقل تقدير- شعوره بالضعف وان مرتكزات قوته لا تنبع منه،انما باستنادها على مشروع خارجي من ناحية، وعلى أنظمة لا تقوم على أية شرعية من ناحية أخرى. "الممانعة" و"الاعتدال" عندها لن يبدوا كمفاهيم لمقاربة الواقع العربي، انما على العكس أدوات لتزيفه، مفاهيم تسعى لانتاج تصور وظيفي للعالم الذي نحياه ولكن مشكتلها انها ركيكة في تركيبها وفجة في انحيازها( على سبيل المثال اكتشاف المعتدلين لعروبتنا وضرورة بناء استراتيجية عربية ضد ايران وليس ضد اسرائيل، حيث تصبح ايران خطرا يهددنا كعرب اما اسرائيل فمسألة في نظر) .
فعوضا عن اعتداله تنتهي في النهاية الى النفخ في قرب الانتماءات الطائفية والمذهبية، وعوضا عن موافقتها على المشاركة مع الآخرين، تتوق الى اقصائهم تحت شتى الذرائع (اسلامية، ممانعة، ارهاي..الخ). عوضا عن حوار مع شعوبها تنتهي الى تبرير مؤسسات القمع، ولا شرعية لها الا وظيفيتها ضمن نظام اقليمي
من خطاب الاعتدال هذا نتج مفهوم الهلال الشيعي، وطرح سؤال عروبة الشيعة، وانطلقت ماكينة الدعاية المذهبية في لبنان فأي اعتدال هو هذا الاعتدال؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟