الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحت وطأة الغياب: بين صرخات الصمت ورغبات المستحيل قراءة فلسفية في نص -بين أوراق بيض وأقلام حادة- – نيسان سليم رأفت – العراق . بقلم : كريم عبدالله – العراق .

كريم عبدالله

2024 / 11 / 9
الادب والفن


يعد نص / بين أوراق بيض وأقلام حادة / للشاعرة : نيسان سليم رأفت نصًا يعكس بعمق حالة وجودية تغمر الذات البشرية في تعقيداتها، وتتكشف فيه أبعاد من الصراع بين الروح والجسد، بين الحقيقة والخيال، وبين الأمل واليأس. عبر لغة شعرية مكثفة، تتلمس الشاعرة مساحات الوجود الإنساني بكل ما تحمله من اضطراب، لتكشف عن معركة داخلية مستمرة بين الأبعاد الحسية والعقلية. إن النص يتخذ من الألم والمعاناة، والميل إلى العزلة، وافتقاد الهوية، مرتكزًا لطرح أسئلة فلسفية عن معنى الحياة، وغاية الوجود، وطبيعة الحب والخيبة.

1. الوجود بين الغرابة والموت الصامت:
يفتح النص أبواب تساؤلات فلسفية حول الوجود البشري الذي يعجز عن تلمس معناه في عالم مليء بالضباب والارتباك. / أعيش في حياةٍ أغرب من أن تكون حقيقة / هو قول يعكس حالة وجودية تشبه إلى حد كبير ما طرحه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول غربة الإنسان في عالمه. في هذا النص، يتعرض الإنسان إلى شعور بالانفصال عن ذاته وعن العالم من حوله، كأن الحياة لا تمثل سوى سراب، / منقوشة بالأزمات وحيرة السؤال في عيون اليتامى /. يُختزل الوجود هنا في ضياع غير مبرر، إذ يصبح السؤال عن المعنى مرهونًا بالمعاناة المستمرة، الأمر الذي يعيدنا إلى الفكرة الكامنة في فلسفة سارتر حول العدمية وفكرة "التنقيص" (negation) التي تحيط بالإنسان في عالمه اللامنطقي.

في هذه العزلة، يصبح الليل، كما في النص، ليس فقط توقيتًا زمنيًا، بل هو لحظة مكثفة من وجودية الإنسان المُعذّب. إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لحظة هيمنت فيها الظلمة والعدم على الذات، / أنا وحدي والليل الميت /. لا معنى لهذا الليل سوى أنه حاضر، لكنه حاضر في عالم من الفراغ، عائم بين الواقع واللاواقع. كما يقول هايدغر: الإنسان موجود في العالم بشكل دائم، لكن هذه الوجودية تكون غريبة، محكومة بالزمن والموت . لذا، يعكس النص حالة من العيش الذي لا يعدو كونه سعيًا مستمرًا للهروب من الواقع، بل إلى تهديده بالصمت والغياب، ليصبح الإنسان في حال لا يُحتمل فيها سوى البقاء في / الانتظار/.

2. اللعب بالخيال والحب:
/ يقولون الحب لا يُشبع بالتخيل /، هذه الجملة تُسَجل إشكالية فلسفية حول العلاقة بين العقل والمشاعر، وبين التخيّل والواقع. هل يمكن للحب أن يتأسس على الخيال وحده؟ وهل الخيال في ذاته كافٍ لتشكيل حقيقة العواطف أو تجسيدها في الوجود الفعلي؟ يمكن أن نتخيل هذا الحوار على ضوء مفهوم / الوجود المزدوج / الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، حيث إن الشخص لا يعيش فقط في واقع فعلي ملموس، بل في / واقع خيالي / يعكس طموحاته وأوهامه.

لكن، على الرغم من الارتباط بين الحب والخيال في هذا النص، إلا أن الحب في صيغته الكاملة لا يبدو أنه يتحقق، بل يظل في حالة من التذبذب بين الرغبة والندم، بين المثالية والخيبة. الشاعرة تتوق إلى حب / لا يجعلني مُحملةً بمعروفِ من أحبني، بل باستحقاقِ حبه لي /. في هذه العبارة، نلمس فكرة فلسفية متجذرة في الوجودية: حب ليس عن عطاء فقط، بل عن استحقاق. ربما هذا هو / حب الذات / بمعناه الأكثر تعقيدًا، حب مشروط بالاستحقاق الروحي، الذي لا يتوقف عند الإعطاء المستمر دون تلقي ما يوازيه.

ومع ذلك، يظهر في النص أن الحب يُختزل في الغياب، في فقدان الصوت، في الجرح الذي لا يُشفى. يتحول / النهر الدافق / إلى / حجر/ يسحق اللسان ويجرح الكلام. هذا التحول من سيل الحياة إلى صخرة الجفاف يعكس تصورًا فلسفيًا مقلقًا: أن الحب، كإحدى أعظم التجارب الإنسانية، لا يعادل أحيانًا سوى الجفاف الروحي والتمزق الداخلي. إنه / رغبة مستحيلة / تكمن في القلب، ولكنها تبقى دائمًا على هامش التحقق الفعلي.

3. الوجود والعزلة:
/ نزعت الستائر الشفافة واستبدلتها بأخرى عازلة للضوء... لا أحد يعرف الشمس بداخلي /. هذه الصورة الرمزية تعكس تطورًا نفسيًا وفلسفيًا نحو العزلة المطبقة، العزلة التي تمنع الضوء من دخول النفس، فتحجب الحقيقة والواقع عنها. يصبح الإنسان في هذا الوضع مثل / المحكوم عليه /، كما تصفه فلسفة / اللامعقول / في فكر ألبرت كامو، حيث يتنازع بين ألمه الداخلي ورغباته المكسورة، في محاولة يائسة للهروب من ثقل الحياة والوجود.

لقد تحوّلت الشاعرة من / الهادئة / إلى / الكارهة /، متنكّرة لكل شيء كان من قبل، ما يعكس ظاهرة العدمية التي يصفها نيتشه، حيث يصل الفرد إلى مرحلة يرفض فيها كل القيم التي تشبّع بها طوال حياته، وتصبح الوحدة هي / الواقع الوحيد /. التحول إلى / الكرهة / بدلاً من / العشق / يكشف عن الفجوة العميقة بين الفرد وذاته، وبين الفرد والعالم. هنا، يتجسد الألم في صورة غياب / الشمس /، حيث لا يعد للوجود معنى إلا من خلال رفضه.

4. الكتابة والخطيئة:/ خطيئة /. في النهاية، تصبح الكتابة – على الرغم من كونها وسيلة للإفصاح عن الذات – أداة غير قادرة على إزالة الجراح أو إصلاح الواقع. كما تقول الشاعرة ، / يرى الجميع في حرفي خطيئته /. هذه الجملة تثير تساؤلًا فلسفيًا عميقًا حول وظيفة اللغة في التعبير عن الحقيقة. هل الكلمات قادرة على تجسيد الألم؟ أم أن الكتابة هي مجرد تمرين في عبثية البحث عن معنى لا يمكن إدراكه؟ نعود هنا إلى فلسفة ميشيل فوكو في أن الكلمة لا تكشف الحقيقة بقدر ما تخلقها، وأن اللغة نفسها محكومة بالسلطة التي لا تُمكن الفكاك منها.

الخلاصة:
نص / بين أوراق بيض وأقلام حادة / ليس مجرد سرد أدبي، بل هو تراجيديا وجودية تحفر في أعماق الروح البشرية وتطرح أسئلة فلسفية أساسية حول الحياة والموت، الحب والخيبة، الذات والآخر. إنه نص يعكس محنة الكائن الحي في عالم لا يعترف بالمعنى، ويبحث عن خلاص مستحيل. في النهاية، يعكس هذا النص الصراع الأبدي بين الإنسان ووجوده، بين حاجته إلى الحب والبحث عن الأمل، وبين عجزه الأبدي عن إيجاد معنى دائم أو راحة حقيقية.

النصّ :

بين أوراقٍ بيض وأقلام حادة
أعيش في حياةٍ أغرب من أن تكون حقيقة
منقوشة بالأزمات وحيرة السؤال في عيون اليتامى
….
الساعة الثانية بعد منتصف الليل
في الردهة العاشرة.
غرفة 12 أقف أمام غرفة العناية المشددة أترك مساحات صدري مفتوحة لينفذ إليها الصقيع وأمهّد له ليرقد على ندبات عظامي المستسلمة لغربان الفجر وهي تنتظر أوان صرختي
أراقبه من خلف الزجاج كالأبكم والمشلول، لا أصل إلى ما أتمناه لنفسي
أعيد تفحص هاتفي
لا شي وارد
أنا وحدي والليل الميت
مزيجٌ يستعصي عليَّ تفسيرهُ
لغتهُ لا تسعى إلى تخفيف الألم،
لا تطهر من ذنبٍ ولا تضمد جرحاً
تذبح في أوقاتٍ نزعت عنها الألوان
بمتعة بالغة الخطورة
كل من حولي سرابُ وأكاذيب
يختفون كحلقة الدخان حين ألاعب سيجارتي


يقولون الحب لا يُشبع بالتخيل
كيف ؟ وكل خيالاتي فيها أسرارُ مجدِ النشوةِ التي لم تُكتشف .
رغبتي أن أنالَ حبًا لا يجعلني مُحملةً بمعروفِ من أحبني
بل باستحقاقِ حبه لي فأنا أمرأه تخاف الخطيئةَ وتحبّها
وينقذني منها التلعثمُ
حتى بقيت وحدي أنا وذاتي المهجورة من صوته وقسوته وكيف يتحول أمام عيني
النهر الدافق إلى حجر فيجرح لساني الكلام
أنا البارعة في كتابة النصوص الطويلة
الآن أجرّ الحبر بيأسٍ
ما يشبه صباح الخير فلا أجد من يرد على مسامعي خير الصباح
….
نزعت الستائر الشفافة واستبدلتها بأخرى عازلة للضوء..
لا أحد يعرف الشمس بداخلي
وكم هو مؤلم أن ألا أنطفئ.
لقد تعكر صفو روحي الهادئة
صرت الكارهة لا العاشقة
أهرب من الحضور، ويؤلمني الغياب
أتساقط واقفة فينتزع مني الحنين
إلا من شعوري نحو ذاك الطليعي اللئيم
بابتسامة صفراء وعضة على شفاهي العطشى أسخر مني
أنا من جميلاتِ الحرب
ومن عرائس المسيح
وآخر أوراق الجرائد،
هكذا كافأتني البلاد وهي تدسُ مناديل السواد في رحم قلبي .
وما من أحد يكفِل نَذري
حين أكتبه
يرى الجميع في حرفي
خطيئته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: الممثل الأمريكي شون بن يثني على مهرجان مراكش السينما


.. كل الزوايا - الناقد الرياضي احمد عصام يوضح أخر الاخبار عن تج




.. انفراد .. أول حوار الممثلة العالمية كيت وينسلت تكشف أسرار ال


.. أحمد سامى بدوى مدير عام لجنة مصر للأفلام: أسعار تصوير الأفلا




.. فيلم الحريفة 2 يحصد 3.4 مليون جنيه فى أول أيام عرضه بالسينما