الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القفز بين منصتين

سامح قاسم

2024 / 11 / 24
الادب والفن


قد يبدو وصف العالم بأنه سيرك كبير مبالغة ساخرة أو استهانة بجديته. لكن، أليس السيرك استعارة شديدة الدقة عن الحياة بتناقضاتها؟ السيرك مزيج من الجدية والعبث، الجمال والغرابة، التوازن والفوضى. إنه مرآة مكبرة للوجود الإنساني، حيث يظهر الإنسان في أكثر حالاته تجردًا وعفوية، يصارع من أجل التوازن، يروض الوحوش، ويرتدي أقنعة البهجة، بينما في قلبه مساحات من الفوضى والخوف.
في السيرك، يبدو كل شيء محكمًا، ولكنه في حقيقته فوضوي. يمشي اللاعب على الحبل الرفيع، يتحدى الجاذبية، بينما الجمهور يصفق بحماس، وكأنهم يتحدون معه قوانين الطبيعة. أليس هذا ما نفعله جميعًا في حياتنا اليومية؟ نحاول أن نبدو متزنين، بينما نكافح سرًا ضد أزماتنا ومخاوفنا.
يقول دوستويفسكي: إن الحياة على حبل مشدود، ليست سوى تحدٍّ يومي للقوانين، حيث تُخلق البطولة من البؤس، والجمال من الخطر."
في السيرك، كما في الحياة، لا يمكن تجاهل فكرة التوازن. سواء كان الحبل المعلق، أو الأطباق التي يدور بها اللاعب على عكازه، أو حتى العلاقة بين الأداء والجمهور. ولكن التوازن نفسه هش، عرضة للسقوط في أي لحظة، وهو ما يخلق ذلك التوتر الإنساني الدائم بين الرغبة في التوازن والخوف من السقوط..
في السيرك، يرتدي المهرجون أقنعة، يُضحكون الآخرين بينما يُخفون ملامحهم الحقيقية. كم مرة نرتدي نحن أقنعة مشابهة في حياتنا؟ تلك الابتسامات التي تُخفِي الحزن، الكلمات اللطيفة التي تُخفي الغضب أو اليأس؟
المهرج في السيرك ليس مجرد شخصية كوميدية، بل رمز عميق للإنسان الذي يجاهد ليُبقي الآخرين سعداء، حتى وإن كان قلبه مثقلًا.
يصف لوركا هذا المعنى في أحد نصوصه قائلاً: "المهرج يبكي في الليل، حين ينطفئ السيرك وتفرغ الساحة. فهو يعلم أن الضحك، كالحزن، ليس سوى وهم مؤقت."
هذا التناقض بين المظهر والحقيقة، بين العبث والجدية، يجعل من السيرك استعارة صادقة عن العالم. كل واحدٍ منا يؤدي دوره على مسرح الحياة، بينما يراقب الآخرون العرض بعيون مترقبة.
البهلوانيون في السيرك، الذين يقفزون ويتحركون بخفة مذهلة، يقدمون صورة أخرى عن الحياة. هم مثال على المحاولة المستمرة للسيطرة على الفوضى.
نحن كأفراد، نحاول أن نجد توازننا بين مسؤولياتنا، أحلامنا، وأزماتنا، كما لو كنا نحاول القفز بين منصات مختلفة دون أن نسقط. كل قفزة تحمل في طياتها خطر الفشل، ولكننا نستمر لأننا نعلم أن البقاء ثابتين يعني الهزيمة.
يقول كامو: "على الإنسان أن يتخيل سيزيف سعيدًا، فهو لا يكف عن دفع الصخرة لأن الحركة في ذاتها انتصار على العبث."
هذه الحركة الدائمة، المليئة بالمخاطر، هي ما يجعل الحياة، رغم كل شيء، مغامرة تستحق العيش.
في السيرك، تقف الحيوانات كجزءٍ من المشهد. الأسود تُروَّض، الفيلة تقفز في الحلقات، وحتى القرود تؤدي حركاتٍ هزلية. هذا المشهد يحمل في طياته صراعًا إنسانيًا وجوديًا. الحيوانات ترمز إلى غرائزنا الطبيعية، ذلك الجانب الخام من النفس الذي نحاول تهذيبه باستمرار.
ولكن، هل نحن نروض هذه الغرائز بالفعل؟ أم أننا فقط نخفيها تحت قناع التحضر؟ يطرح جاك لندن هذا السؤال في روايته "نداء البرية"، حيث يقول: "إننا لسنا سوى حيوانات متحضرة، تسعى جاهدةً لترويض عوائها الداخلي."
في السيرك، تتأرجح العلاقة بين الإنسان والحيوان بين السيطرة والإذعان، وهذا يعكس بدقة صراعنا الداخلي مع أنفسنا.
في السيرك، يلعب الجمهور دورًا أساسيًا. فهو ليس مجرد متفرج، بل جزء من العرض. تصفيقه وهتافاته تحرك اللاعبين، تشجعهم على تجاوز الخوف.
الحياة تشبه ذلك. نحن دائمًا تحت أنظار الآخرين، نحاول إثارة إعجابهم، نبحث عن تصفيقهم، أو حتى مجرد انتباههم.
يقول نيتشه: "العالم كله مسرح، ونحن جميعًا ممثلون، لكن من يجلس في الصفوف الأمامية؟ ومن يؤدي دور المراقب؟"
هذا التساؤل يجعلنا ندرك أن الأدوار في السيرك، كما في الحياة، متغيرة. أحيانًا نكون اللاعب، وأحيانًا نكون الجمهور.
هناك سحر ما في السيرك، لكنه ليس خاليًا من الخوف. كل قفزة تحمل خطر السقوط، كل أداء قد ينتهي بكارثة. هذا المزج بين الفرح والخوف هو ما يجعل السيرك معبرًا عن جوهر الحياة.
وكما تقول فيرجينيا وولف: "الحياة ليست سوى ومضة بين فرحٍ مفاجئ ورعبٍ متوقع."
يعلمنا السيرك أن الفوضى ليست عدواً، بل جزء من التوازن، وأن الأقنعة مؤقتة كما يسقط قناع المهرج بعد العرض، فإن الحقيقة لا بد أن تظهر.
ويعلمنا أيضا أن القفز بين المنصات، سواء في السيرك أو في الحياة، هو جوهر التجربة الإنسانية. ويخبرنا أن الجمال في الهشاشة فكما أن السيرك يعكس هشاشة اللاعبين، فإن الحياة تظهر أجمل مع الوعي بهشاشتها.
إن هذا العالم ليس سوى سيرك كبير، حيث يؤدي الجميع أدوارهم، يتبادلون الأقنعة، ويبحثون عن التوازن وسط الفوضى. إنه عرضٌ مستمر، يتطلب منا الشجاعة لنقف على الحبال المعلقة، ونتقبل فكرة أن السقوط جزء من الرحلة، تمامًا كما أن التصفيق هو مكافأة للمجازفة.
"العالم سيرك لا نهائي، ونحن فيه مجرد لاعبين نطارد أحلامنا في دوائر من النور والظل." هكذا قال إيتالو كالفينو. ومن هنا. فلتكن حياتنا عرضًا جديرًا بالمشاهدة، مليئًا بالشجاعة، والإبداع، والإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقع لفنانة حول كارثة مدمرة في اليابان يثير زوبعة في البلاد.


.. السيدة الأنيقة أيقونة الرُقي والفن ?? ذكرى رحيل الفنانة القد




.. تأملات - الأدب بين ويلات الحرب والسلام


.. أغنية الوداع من أم كلثوم لجمهورها.. آخر أغنية على المسرح




.. صور نادرة جدًا لأم كلثوم