الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاومة وحدود الممكن التاريخي

ناجح شاهين

2024 / 11 / 26
القضية الفلسطينية


"على المقاومة أن تهزم إسرائيل بالضربة القاضية، وإلا كانت خائنة أو عاجزة، أو أن مشروعها كله عبث لا طائل تحته."
هذا هو الموقف الذي يتبناه جزء لا بأس به من النخب والجمهور، بعضهم بحسن نية، وبعضهم الآخر بسوء نية مبيته تهدف إلى الحط من مشروع المقاومة والترويج لمشاريع الاستسلام بأشكالها المختلفة.
وفي مواجهة هذه العبارة التقريرية المدوية علينا أن نفكر بهدوء في احتمالات الواقع النظرية بصرف النظر عن التفاصيل الكثيرة التي تثير البلبلة ولا تنتهي إلى أية نتائج معرفية مفيدة. يمكن أن نقول إن خيارات ثلاثة هي المتاحة أمام الفلسطيني ومن تبقى من المناصرين العرب: فعل الاستسلام الصريح، و"فعل" الانتظار، وفعل المقاومة. وهذه الخيارات تستنفد اللوحة كلها.
أولا: الاستسلام الصريح الكامل الذي يعني أن نقبل عرباً وفلسطينيين ما تريده إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة دون اعتراض من أي نوع، أو دون اعتراض جدي، بمعنى التظاهر بالرفض عن طريق التنديد والشتائم كما يفعل بعض القادة الفلسطينيين وصولاً إلى القبول الفعلي العلني أو المضمر بالمشروع الصهيوأمريكي أياً كان هذا المشروع. وغالباً ما يؤمن أنصار هذا المشروع بأن السلامة تقتضي ذلك وأن ما تريده إسرائيل سيتحقق، مثلما أوضح داني دانون بلغة صريحة قبل خمس سنوات مبيناً أن الفلسطينيين قد خسروا الحرب كلها وأن عليهم أن يقبلوا شروط المنتصر مثلما تعارف البشر منذ فجر التاريخ. ليس هذا المشروع مثلما قال دانون فقيراً إلى المسوغات، ومن الواضح أن سنده المنطقي قوي جداً إن كان صحيحاً: إذا كنت لا تستطيع أبدا دحر عدوك، فلماذا تستمر في تعذيب نفسك وهدر الدماء والتعرض لأشكال المعاناة التي لا قبل للبشر بها؟!
ثانياً: يتلخص جوهر "فعل" الانتظار في أن الفلسطيني ومن يناصره من العرب ليسوا في حاجة "سريعة" إلى تغيير الواقع القائم، وأن بالإمكان ترك الأمور على حالها دون أن نفعل شيئاً سلبياً أو إيجابياً بانتظار تغير ميزان القوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. ليس الزمن الراهن زمناً عربياً/فلسطينياً وإنما هو زمن صهوني بامتياز، ولا بد أن الحكمة تقتضي أن نؤجل تسخين الصراع أو تأجيجه إلى لحظة مواتية لنا عوضاً عن الانخراط حالياً في نزاع قد لا تكون شروطه الخاصة والعامة مائلة إلى كفتنا. بمعنى من المعاني شغل هذا التوجه زمناً طويلاً انتهى فعلياً بانطلاق الانتفاضة سنة ،1988 وقد اتسم ذلك الزمن بإيقاع استيطاني وتهويدي معتدل السرعة، ولم يكن في سياقه ما يهدد بأن تقوم إسرائيل بالاستيلاء على أراضي 67 وطرد سكانها. وهو ما جعل فكرة الانتظار فكرة ممكنة نظرياً وعملياً. لكن أوسلو الذي تلا غياب الاتحاد السوفييتي واحتلال العراق وتفريق الصف العربي فتح الباب واسعاً لعصر جديد أحيا الآمال والتطلعات الصهيونية في تطهير أرض الآباء من الأغيار على نحو كامل. ومع التطبيع العربي المترافق مع إفلاس مناورات المفاوضات الشكلية وفوز دونالد ترامب بالرئاسة في العام 2016 تم تدشين زمن التهجير الكامل على نحو يكاد يكون رسميا. وهكذا أصبح الانتظار استراتيجية ميتة بالنظر إلى أنها تعني حرفياً انتظار أن يأخذ العدو الأرض كلها ويلقي بنا إلى أي مكان مثل البصرة أو كندا أو دولة غزة التي قد تشمل سيناء أو جزءاً منها. بالطبع هناك جزء من النخب أدرك أن هذا المصير مقبل لا محالة ولكنه واصل على طريقة الوالي العثماني جمع الغنائم استعدادا ليوم الرحيل الذي لا مهرب منه.
ثالثا: يأتي خيار المقاومة إذن بوصفه الطريق الذي لا يمكن تجنبه إذا كنا مقتنعين بأن الانتظار لم يعد ممكناً، شريطة أن نكون من رافضي فكرة الاستسلام من ناحية مبدئية. وفي هذا السياق نفذت المقاومة عملية السابع من تشرين دفاعاً عما تبقى من القدس والضفة مع العلم أن الخيار كان متاحاً لها لبناء دويلة في غزة وسيناء تنهي القضية الفلسطينية وتوفر لقيادة غزة وسكانها مقداراً لا بأس به من رغد العيش والأمن الشخصي وحرية الحركة على السواء.
هل كانت قيادة المقاومة مقتنعة بأنها ستحرر فلسطين بهذه العملية البطولية الذكية؟ قادة المقاومة جعلونا في غنى عن ممارسة هواية التحليل البائسة الشائعة هذه الأيام: أكثر من قائد وعلى رأسهم الراحل صالح عاروري أوضحوا أن نجاح العملية الكبير فاجأهم ووضعهم في سياق لم يكن مقصوداً على الإطلاق. ونستطيع أن نتوقع من خلال ما قيل أن المقصود كان أسر عدد من الجنود وربما المدنيين من أجل تنفيذ صفقة تبادل أسرى كبيرة والمطالبة برفع الحصار عن القطاع. لم يكن هناك من يفكر في أن العملية ستحرر فلسطين أو الضفة أو ستسفر فوراً عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وإذا كان هناك من وقع في هذه الأوهام صبيحة اليوم التالي للعملية فهو واهم وساذج ومتحمس على نحو شعبوي بسيط في أحسن الأحوال.
ما جرى كان هائلاً لأنه وجه صفعة قاسية مذلة للدولة العبرية وجيشها، وكان الرد الرهيب بما لدى هذا الجيش من إمكانيات أمريكية لا مثيل لها آتياً دون شك، وإن يكن مقدار الإرهاب الشامل الذي مورس في كل شبر من غزة غير قابل للتخيل قبل وقوعه.
استخدمت إسرائيل القوة كلها باستثناء الأسحلة النووية، وانتهكت القواعد كلها في ظل دعم أوروأمريكي لا يتزعزع. وكان الطرف الوحيد الذي مد يده لمساعدة المقاومة الفلسطينية هو المقاومة اللبنانية التي دخلت في مواجهة محدودة مع إسرائيل تتمثل في قصف المواقع القريبة من الحدود اللبنانية بعمق لا يزيد على سبعة كيلو مترات. وقد انتقد الجمهور الفلسطيني تلك الفترة الممتدة أشهر عديدة والتي لخصها الكلام الساخر حول ضرب العمود في الجنوب اللبناني. ومهما يكن من فجاجة هذه التقييمات فإن دعم المقاومة اللبنانية لم يكن مؤثراً في إعاقة الأعمال الوحشية الإسرائيلية في غزة، وإذا كان من خسائر مهمة قد وقعت في صفوف جيش الاحتلال في تلك المرحلة فقد كانت على يد كتائب المقاومة الفلسطينية التي برهنت على تلقيها تدريبات جيدة، وبرهنت على شجاعة أسطورية سمحت لها بالصمود في مواجهات كثيرة بل مواصلة القتال بعد أن وصلت دبابات الاحتلال إلى كل شبر من أرض غزة التي لا تزيد على 355 كيلو متراً.
ومثلما اضطرت المقاومة إلى تنفيذ السابع من تشرين دفاعاً عما تبقى لنا، فإن الاحتلال كان يخطط منذ زمن بعيد للتخلص ممن يعيقون السيطرة الإسرائيلية الكاملة على فلسطين والمنطقة كلها. وهكذا بدا أن ما وقع في السابع من تشرين مناسبة للقضاء التام على المقاومة الفلسطينية واللبنانية وضرب المشروع الإيراني كله بوصفه المشروع الرئيس المناوئ للهيمنة الصهيوأمريكية. وفي ظننا أن المقاومة اللبنانية لم تكن واعية من الناحية الأمنية بما يكفي لتخطيط العدو طويل الأمد والاختراقات التي كان قد حققها في موضوع "البيجرز" وغيره وصولاً إلى الحصول على معلومات واسعة حول القادة سمحت بإنجاز مهم في منحى اغتيال القادة توجه اغتيال القائد التاريخي الرمز حسن نصر الله.
وقد تبع ذلك الاغتيال تحديداً ارتباك لا تخطئه العين داخل المقاومة، كما بدأت أصوات صهيوأمريكية تتعالى داخل لبنان، ليستفيد منها نتانياهو عبر تصعيد الإرهاب ضد المدنيين بغرض تعميق الضغط على الحزب وابتزازه.
ليست المقاومة اللبنانية في تقديرنا في وضع يسمح لها، على الرغم من شجاعتها وذكائها في إدارة المعركة، بمواصلة الحرب أشهر أخرى، وقد تأتيها الطعنة من طوابير لبنان الخامس والسادس...الخ في أية لحظة. ولا بد لذلك من وقف النزف في هذه اللحظة خياراً وحيداً لا مفر منه.
لكن ماذا عن غزة؟ ستواصل غزة حربها منفردة وصولاً إلى اتفاق لن يكون عظيماً بالنسبة للكثيرين. لكن بقاء المقاومة أو جمرتها تحت الرماد قد يكون كافياً في هذا العصر من تدشين حرب التحرير في الوعي العربي والفلسطيني لأول مرة منذ العام 48، ونرجح من ناحية أخرى أن ما حصل في المستوى الكوني سيعيد إسرائيل إلى زمن البطء في الضم والتهجير والتخلي عن سياسة الهجوم النهائي السريع المميزة لزمن ما قبل السابع من تشرين.
طبعاً يظل محالاً التنبؤ بالمستقبل القريب ناهيك عن البعيد على نحو دقيق: هناك صعود منتظر للصين في العقد المقبل لا نعرف أيكون خيراً أم شراً، لكن الزمن الحالي الذي تستفرد به أمريكا بالعالم في ظل ضعف دولة مثل روسيا حتى عن حماية نفسها هو الشر في أسوأ صوره. وربما أن المقاومة كانت ستحقق أضعاف ما حققت بفعلها البطولي المبدع لو لم تكن اللوحة الدولية في قبضة الاستعمار الأمريكي وأدواته على نحو كامل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هذا ما ستفعله إيران بعد سقوط نظام الأسد


.. احتفالات في ساحة الأمويين وسط دمشق بعد سقوط نظام الحكم في سو




.. مراسل الجزيرة: تصاعد أعمدة دخان في العاصمة دمشق بعد تحليق مر


.. عاجل | مراسل الجزيرة: انفجارات عند المربع الأمني في دمشق الذ




.. ما الفرص والتحديات التي تواجه سوريا بعد إسقاط نظام الأسد؟