الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!!مذكرات سمير أمين وعصر الرأسمالية الشائخة

صالح سليمان عبدالعظيم

2007 / 1 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


يعيد سمير أمين من خلال مذكراته، التي صدرت حديثاً، تشكيل العلاقة الجدلية الانتقادية بين المثقف وبين الفضاء الإنساني المحيط به. فعبر مسيرة حياة فكرية ونضالية تتجاوز النصف قرن، يرصد أمين في كتابه المعنون "مذكراتي"، سمات وملامح مشروعه الاقتصادي السياسي الاجتماعي الكوني، الموجه بالأساس لمحاربة الرأسمالية، ومحاربة الحلول الواحدية الدوجماطيقية تجاه ما يختص بمشكلات العالم الثالث والرابع الخاصة بالتنمية ومحاربة التخلف والاستغلال.

ورغم أن هذه المذكرات قد جاءت في تسعة فصول، إلا أنه يمكن التعامل معها على أساس أنها تنقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسة. يتعلق الأول منها بالطفولة، ويتعلق الثاني بالتعليم الجامعي والحصول على الدكتوراة، وأخيراً يتعلق الجزء الثالث بمسيرة حياة أمين العملية، والتي توزعت، بشكلٍ أساسي، ما بين قارتي أفريقيا وأوروبا.

يتطلع القارئ من خلال قراءة المذكرات الخاصة بأي شخصية، خصوصاً إذا ماكانت في حجم قامة أحد مفكري القرن الماضي الإشتراكيين اللامعين مثل سمير أمين، إلى قراءة تفاصيل دقيقة، وخفايا غير معروفة. إضافة إلى ذلك، يتطلع القارئ إلى الوقوف عند جوانب القوة والضعف الإنسانيين في حياة الشخصية التي تسرد مذكراتها الخاصة بها.

وفي رأيي أن أجمل المذكرات الشخصية هى تلك التي يبرز فيها هذا التضافر بين الجوانب المعروفة عن الشخصية وبين الجوانب الإنسانية الحياتية المعيشة البسيطة وغير المعروفة. إضافة إلى العلاقات الحميمة بالآخرين العاديين بالأساس، هؤلاء الذين لا نعرفهم، ولم يحكي التاريخ عنهم شيئاً.

لم تُبرز المذكرات علاقات سمير أمين العادية مع الناس البسطاء سواء في الفترة العمرية التي قضاها في مصر، أو تلك التي قضاها في العديد من الدول الأفريقية، رغم تركيزه بدرجة كبيرة على الدور الذي لعبته أسرته في تربيته ورعايته، وبشكلٍ خاص أجداده الذين كانوا على درجة كبيرة من الإنفتاح والاستنارة. كان من الممكن أن تثري هذه العلاقات مذكرات أمين وتضيف إليها جوانب جديدة وإنسانية تُلين من صرامة تحليلاته ذات الصعيد الاقتصادي السياسي العالمي.

هذه الجوانب أكاد لا أعثر عليها في مذكرات أمين، رغم حياته الواسعة والرحبة والإنسانية، ورغم إشاراته الكثيرة في معظم صفحات كتابه للكثير من الأصدقاء الذين ارتبط بهم في علاقات حميمية عبر سنين عمره المديدة. وعلى ما يبدو أن أمين لم يستطع أن يتخلص من مشروعاته الفكرية التي طاردته في مذكراته، واحتكرت حيزاً كبيراً منها، حيث أصبحت حياته هى مشروعاته الفكرية، وأصبحت مشروعاته الفكرية هى حياته، بدون أى شكل من الإنفصال، وبدون أية زوائد حياتية أخرى.

وُلد سمير أمين في القاهرة عام 1931 لعائلة مصرية قبطية، حيث نال تعليمه في واحدة من أرقى مدارس العصر، وهى مدرسة الليسيه ذات التعليم الفرنسي. وبعد انتهاء تعليمه الثانوي، سافر إلى فرنسا حيث درس الرياضيات، وبرع فيها، لكنه انتقل بعد ذلك لدراسة الاقتصاد السياسي، الذي حصل من خلاله على درجة الدكتوراه. أكد أمين من خلال رسالته للدكتوراة على فكرة الاستقطاب الرأسمالي، والتي يتم من خلالها إدماج اقتصاديات الدول النامية ضمن الاقتصاديات الرأسمالية العالمية، والطرق التي تُحقق من خلالها الأخيرة تراكماتها النقدية والربحية المختلفة. ويمكن القول بأن مشروع سمير أمين الفكري لم ينفصل، رغم الأشكال المختلفة التي اتخذها والتطورات الفكرية التي مر بها، عن تصوره وإيمانه بفكرة الاستقطاب الرأسمالي تلك.

وفي هذا السياق، تبدو مذكرات سمير أمين اقرب للتذكير بمشروعه الذي لم يتخل عنه طوال حياته. بل يمكن القول، بدرجة كبيرة من الثقة، أن هذه المذكرات، التي تتشابه في كثير من تفاصيلها العريضة مع أعمال سمير أمين الفكرية نفسها، قد كُتبت من أجل التذكير بالغطرسة الرأسمالية بعمومياتها، مصحوبة بالرغبة في الحض على مقاومة الهيمنة الأمريكية، والتواطؤ الأوروبي، والمنظمات الدولية التابعة، وعلى رأسها مؤسسة كوفي عنان الممتلئة بعناصر المخابرات الأمريكية على حد تعبيره.

من هنا يمكن تفهم كتابة مثل هذه المذكرات لمفكر بحجم سمير أمين، حيث منحته هذه المذكرات القدرة على التحرر من الأطر الفكرية الصارمة، كما منحته القدرة على مسح تاريخ الاستقطاب الرأسمالي منذ مابعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، مع التركيز على الهيمنة الأمريكية بالأساس، وعلى المشروعات الاشتراكية الديمقراطية المقاومة لهذه الهيمنة الأمريكية. فالمذكرات، في النهاية، يمكن اعتبارها إطاراً عاماً معادياً للإمبريالية بكافة أشكالها وتجلياتها المختلفة.

يرى سمير أمين عبر مذكراته أن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في فرض هيمنتها على أوروبا واليابان أولاً من خلال ثلاث آليات تمثلت في مشروع مارشال 1947، وإنشاء حلف الأطلنطي عام 1949، ثم معاهدة سان فرانسيسكو عام 1951. فمن خلال هذه الآليات الثلاث خضعت أوروبا تماماً للهيمنة الأمريكية، سواء من خلال البرجوازيات الخاصة بها، أو من خلال الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية الأخرى. وكانت فزاعة الخوف من الإتحاد السوفييتي هى الحجة التي أطلقتها أجهزة الدعاية الأمريكية الديماجوجية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وطوال الحرب الباردة، والتي استطاعت من خلالها أمريكا أن تضمن التبعية المطلقة من جانب أوروبا لها.

وتنبني الفكرة الرئيسية لمشروع سمير أمين المضاد للرأسمالية على جانبين أساسيين. يتعلق أولهما بمعرفة الكيفية التي يحدث بها التراكم على الصعيد العالمي، وهى المسألة ذات البعد النظري التحليلي التفسيري العميق. ويتعلق ثانيهما بالتفكير السياسي المباشر بشأن العلاقة بين التحرر الوطني وبناء الإشتراكية؛ أى بشأن المصير المباشر لبلدان العالم الثالث. ولعل ذلك هو ما يربط بدرجة كبيرة بين الجانب النظري التحليلي في مشروع أمين وبين الجانب السياسي النضالي المقاوم؛ أي الجمع بين النظرية والممارسة، بين الفهم والواقع في الوقت نفسه. لقد حرص أمين نفسه عبر العديد من صفحات مذكراته أن يبرز أهمية الجميع بين المستويين، فسقوط أحدهما سقوط للآخر، وإضعاف أحدهما إضعاف للآخر.

من هنا يمنح أمين حركات المقاومة العالمية أهمية كبيرة في مقاومة الإمبريالية العالمية في كل زمان ومكان. وفي مذكرات سمير أمين مساحة كبيرة يقدر من خلالها أهمية مؤتمر باندونج 1955 لمقاومة التغول الأمريكي والدوجماطيقية السوفييتية في ذلك العصر، وأيضاً مساحة أكبر مصحوبة بالتأييد والمشاركة والمتابعة لأحداث 1968 الطلابية التي بدأت في فرنسا، وامتدت بعد ذلك إلى أوروبا وباقي أرجاء العالم. لقد كانت أحداث 1968 بالنسبة له ثورة في ذاتها ضد الجمود الرأسمالي، وانفتاحاً على مقاومة الدول الأخرى من العالم الثالث. وهو مايراه حول الحركات الحالية المقاومة للعولمة في سياتل وبورتو أليجري وغيرها في أماكن كثيرة في العالم، حيث يؤكد تصاعد هذه الحركات ضعف الرأسمالية الأمريكية وشيخوختها وقرب أفولها.

وفي هذا السياق، يرى أمين أن العالم ليس هو أمريكا وأوروبا فقط، لكنه يشمل العديد من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. تلك الدول التي يجب أن تفكر لنفسها وبنفسها بعيداً عن هيمنة المقررات الرأسمالية وتوابعها المتمثلة في النيوليبرالية المبتذلة وخطط البنك الدولي الأمريكي المصاحبة لها. إن عداء سمير أمين ليس عداءً للرأسمالية والطبعات الناجمة عنها مثل النيوليبرالية فقط، لكنه عداءٌ لكل التوجهات الواحدية في التفكير، بما فيها التوجهات الماركسية الدوجماطيقية. فهو يرى أن هذه التوجهات التي تدعي العلمية ما هى إلا خطابات أيديولوجية عقيمة واحدية التفكير تصب في النهاية في مصلحة مريديها، والمنتفعين منها.

لم تأتي خبرات سمير أمين نظرية مجردة فاقدة لذلك الحس بواقع التنمية في العالم الثالث، فمن خلال عمله في العديد من المؤسسات والمعاهد المختلفة في مصر ومالي وفرنسا والعديد من الدول الأفريقية الأخري، اكتسب مشروعه الفكري واقعيته ومشروعية تحديه للمشروع الرأسمالي العالمي. في هذا السياق، يرى سمير أمين أن التنمية ليست مرادفاً للتوسع الرأسمالي، تستدعي فهمها وتنفيذها في ضوء السياقات المجتمعية التي توجد فيها، فليس هناك من وصفة معينة للتنمية والتخطيط، فلكل بيئة ظروفها، ولكل سياق ملابساته. ورغم ذلك فإنه من الضروري أن تكون التنمية شعبية لمصلحة الشعب بعمومياته، وليس من أجل تحقيق مصالح فئات معينة، كما تؤدي النيوليبرالية على الطريقة الأمريكية البنك دولية المبتذلة.

ورغم تصورات أمين الخاصة بطبيعة التنمية لدول العالم الثالث، فإنه يؤكد على ضرورة خلق جبهة مشتركة للشعوب يمكن من خلالها المطالبة الواسعة بالديمقراطية مع المطالبة بإدارة اجتماعية لمصلحة الطبقات الشعبية. وبدون خلق هذه الجبهة الشعبية الكونية لن يمكن مواجهة الرأسمالية العالمية، وبشكلٍ خاص، البربرية الأمريكية، التي يقول عنها سمير أمين "أنها ليس لديها ما تقدمه للإنسانية سوى استخدام الإرهاب لتبرير عدوانها الإجرامي البربري على شعوب الجنوب". إن الهدف الرئيس هنا لمشروع سمير أمين يتمثل في التأكيد على ألا تستغرقنا الوحدات الصغرى، رغم أهميتها، في التحليلات التنموية، حيث يجب أن تتم هذه التحليلات ضمن السياق العالمي الكوني الذي يستطيع أن يفسر الكثير مما يحدث في العديد من الوحدات الصغري الخاصة بالدول، والمندرجة في إطاره.

تمثل مذكرات سمير أمين، في هذا الوقت بالذات، رداً بليغاً على العديد من المشروعات الأمريكية المبتذلة المطروحة ليس فقط في منطقتنا العربية، ولكن المطروحة في كل أرجاء العالم، عبر الوكلاء التابعين في البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة. لقد أعادت هذه المذكرات إلى الذاكرة أسماء مفكرين عظام قاوموا البربرية الرأسمالية منذ عقود طويلة من الزمن مثل راؤوول بريبيش، حمزة علوي، إسماعيل صبري عبدالله، فؤاد مرسي، أندريه جوندر فرانك، فرناندو كاردوسو، ومحبوب الحق. هذه الأسماء، إضافة إلى سمير أمين خلقت مجالاً حيويا للمقاومة ورفض الإستعلاء والإستغلال، وكان خطابها يتم من خلال حوار إنساني شامل متعدد وعميق، وليس من منطق غير علمي يوقف التاريخ على شاكلة فوكوياما، أو يكرس صراع الحضارات على شاكلة هنتنجتون، أو يمارس هذا القدر الهائل والضخم من الدونية والضحالة الفكرية والتشظي والغوغائية مثلما يفعل الليبراليون العرب الجدد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء سجن المحامية التونسية سنية الدهماني؟ | هاشتاغات مع


.. ا?كثر شيء تحبه بيسان إسماعيل في خطيبها محمود ماهر ????




.. غزة : هل توترت العلاقة بين مصر وإسرائيل ؟ • فرانس 24 / FRANC


.. الأسلحةُ الأميركية إلى إسرائيل.. تَخبّطٌ في العلن ودعمٌ مؤكد




.. غزة.. ماذا بعد؟ | معارك ومواجهات ضارية تخوضها المقاومة ضد قو