الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنري ما تيس

قويدر عكري

2007 / 1 / 11
الادب والفن


من الطبيعة المغربية إلى الفردوس الأرضي

يعتبر هنري ما تيس 1869/1954من رواد الحركة التشكيلية في فرنسا ، فتجربته
تتميز باعتماد الألوان والأشكال كمحاور أساسية لاستكناه المضمون الانفعالي
، وظف اللون بشكل عنيف ومكنه من احتلال مساحة مهمة في اللوحة حيث يقول
"إنني أتنفس عبر اللون". أسس ما تيس مع مجموعة من التشكيليين تيار
"الوحشية" وهو تيار يقوم على تمجيد اللون والثورة على النزعة الأكاديمية.
تختزل المسافة ما بين الواقع والفردوس عند ما تيس في اللون، هذا اليقين
الذي وجد صداه عند الرسامين الفرس وعند العرب نظرا للإغراء الممارس عليه من
قبل العالم العربي طيلة حياته خصوصا تلك الفترات التي قضاها بالمغرب.
إن الصورة التي أنجزها هنري كارتيي سنة 1951تبين الرسام ما تيس كحكيم شرقي
مسن يرتدي قميص حمام وكأنه يرتدي قفطانا،لحيته بيضاء منسقة بعناية، رأسه
مشدود بعمامة،فهذا الفنان كان يؤكد في معظم لقاءاته مع نقاد الفن شغفه
بالشرق "إنني أحببت الشرق حتى الثمالة،وأجد نفسي منجذبا إليه بدون انقطاع"
لكن ماهي درجة هذا الانجذاب،هل هي مثيلة لتلك التي مورست على الرسامين
المستشرقين في القرن التاسع عشر حيث كان العالم الإسلامي نموذجا لفضاء
الانعتاق مادام بمثابة نقطة تقاطع الحقيقة بالوهم؟
إن الإغراء الذي يمارسه الشرق على ماتيس مفعم بالإعجاب الذي يكنه الرسام
للفن الإسلامي، ويمكننا تفسير هذا الإغراء بغائية فلسفية إذا لم تكن روحية
مع بعض الملامح الإسلامية. لقد توفرت لماتيس فرص كثيرة ليتعرف على الفن
الإسلامي منذ بداية القرن وذلك سنة 1900 في أروقة ايران وتركيا بالمعرض
العالمي بباريس الذي أثار فضول الجمهور،وكذلك إبان تظاهرة الفن الإسلامي
التي حصلت سنة1903.عاين ماتيس هذه المعارض بدون شك كما شاهد المنمنمات
الفارسية الأولى ،سنتان من بعد سيتم تدشين جناح واسع بمتحف اللوفر خصص للفن
الإسلامي،لكن لقاءه الحاسم والهام بالفن الشرقي سينطلق سنة 1910لحظة زيارته
للمعرض الفني الإسلامي الذي أقيم بمدينة ميونيخ، مما حثه على تنظيم الكثير
من السفريات نحو إفريقيا الشمالية التي دشنها بالجزائر سنة1906والتي تمخضت
عن مقاربة أولى للواقع الإسلامي كانت غير مقنعة.أربع سنوات من بعد سيرحل
إلى الأندلس للتعرف على إشبيلية،غر ناطة وقرطبة،مدن تتدفق بالذكريات
العربية الموريسكية .خزن ما تيس عل ضوء هذه الرحلات كل الموضوعات التي ستشكل
مادة خام لتغذية تأمله كرسام نذكر منها الخمار الشرقي،الزرابي،الخزف والسجاد
وهي أشياء تؤثث مختلف لوحاته مثال "البصل الوردي"و"إشبيلية".أما
المنعرج الحقيقي في المسيرة التشكيلية عند ماتيس فسيبدأ مع رحلتيه المتتاليتين
للمغرب حيث استمرت الأولى من يناير إلى أبريل1912والثانية من أكتوبر إلى
أبريل1913. أحس ما تيس في المغرب بأنه قد عثر على صورة الشرق التي تشكلت
عنده عبر فنه.
لنرجع القهقرى لنتساءل عن السر الذي كان من وراء ميل ماتيس إلى الفن
الإسلامي وصناعته التقليدية؟ لاشك أن انشغالات الفنان ستنصب على اللون،ففي سنة
1925عندما يتذكر هذه المرحلة يؤكد تزامن شيئين فيقول"إنني كنت أحس بشغف
اللون بأعماقي في هذه اللحظة تمت إقامة المعرض المحمدي الكبير" حوالي
سنة1903سيبدع تيار"الوحشية" وهي أبحاث حول اللون ستعرف أوجها سنة1905بمدينة
"كولييور"،يقول ما تيس "لقد جعل المشرقيون من اللون وسيلة للتعبير"ذلك
أن تغير السلم اللوني- الصبغي خلال هذه الحقبة ليس غريبا عن اهتمامه
بالفنون الإسلامية ،فمن تعارض الأحمر والأخضر ينتقل إلى الانسجام الرمزي للغاية
في الثقافة الإسلامية للأخضر و الأزرق.إلى حدود 1906حصر ما تيس اشتغاله
على محور الأحمر- الأخضر وهو تعارض يبنين بعنف صورة السيدة ما تيس سنة1905
ويشيد بكيفية هادئة ومتوازنة فضاء "النافذة المفتوحة"اللوحة التي أنجزت
نفس السنة بمدينة "الكوليور"،والحالة هذه فإذا كان اللونان المتكاملين
يشكلان لازمة في الفن التشكيلي للقرن 19فإنهما يشكلان حضورا قويا في الفنون
الإسلامية .هكذا نلتقي بانتظام "تناغم التناقضات"كما كتب هذا Eugene
Chevreulفي المنتوجات والزرابي والألبسة وأيضا في الزخرفة المعمارية،وهي
ظاهرة شدت إليها اهتمام المستشرقين،وهي موجودة أيضا كما لاحظ ما تيس في
المنمنمات الفارسية التي غالبا ما تستجيب لوظيفة محددة كالعمل على تعالق شخصين
كما تعكس هذا الآداب الفارسية مع نموذج العاشقين ليلى والمجنون. في "داخل
الكوليور" "القيلولة" الموقعة سنة1905أو 1906لا يتصرف ما تيس بكيفية
مغايرة حيث يجعل في مقابل اللباس الأحمر للشخصية الموجودة على يسار اللوحة
المتكئة على جانب النافذة ،اللباس الأخضر للشخصية الممتدة على السرير في
الجانب الأيمن،فهل هذا التماثل عرضي؟عوض أن نخلص إلى اقتباس ما تيس من
التشكيل الفارسي،فإننا نكتفي بملاحظة وجود تقاطع بينهما في طريقة استخدام
اللون.بالرغم من أن المنمنمةلاتمارس تأثيرا فهي تدعيم لعمل الرسام "إذا كنت
معجبا بالفن الشرقي يقول ما تيس فلأنني وجدت فيه سندا جديدا يعكس كل إمكانية
احساساتي"،لكن لونا ثالثا يقفز في هذه اللوحة،إنه أزرق شفاف ممزوج
بالأخضر ينبعث من الشخصية الناعسة من أجل اكتساح الفضاء الداخلي للغرفة ، في
الوقت الذي يعالق التوتر الذي يخلقه التكامل بين الأحمر والأخضر الوجهين
الاثنين في اللوحة بالإضافة إلى أن انسجام الألوان المجاورة _الأخضر والأزرق
_يعمل على إثارتنا وتطويقنا.
إن التناسب الموحد للأزرق والأخضر الذي أصبح ذو قيمة في تشكيل ما تيس
سنوات 1906/1910هو ما يترجم بدون شك بدقة ما يسميه Pierre Schneiderب: الشر
قانية Orientaliteلمعارضة الاستشراق فالأزرق سواء الحاد أو الفيروزي
الممزوج بأخضر داكن أو فاتح،الذي كان يزين لوحات الفنان في هذه الفترة هو نفسه
اللون الذي كان يمنح الثراء اللوني للرفد الزخرفي للآثار الدينية الإيرانية
وللأعمال الكبرى للمنمنمات الفارسية الكلاسيكية.نستطيع مع ذلك تجاوز
المعاينة البسيطة لنتساءل عن دلالة الألوان ،ألا يجوز نقل الإيحاء الفردوسي
للون أزرق_أخضر في الثقافة الفارسية إلى التشكيل عند ما تيس؟
يرتبط هذا اللون عند ما تيس الذي يبوح بأنه يستحوذ عليه "إحساس يكاد
يكون دينيا للحياة"بقوة بصورة السعادة النعيمية ، فانغماس شخصيات ما تيس في
الأزرق_الأخضر سواء في لوحة "السباحات"لسنة1908أو في لوحة الرقص
لسنة1909يبدو بأنه المقابل لجنات النعيم التي وعد الله بها المؤمنين. بعد إعجابه
بمعرض ميونيخ بزغت"الشرقانية"التي كانت تشف في السلم اللوني _الصبغي
لماتيس خصوصا في الرحلتين المتتابعتين للمغرب.
ما وقعه من رسومات في طنجة يبدو بالفعل شاهدا على اللذة إذا لم تكن على
الغبطة إلى حد انصهار الواحد في الآخر،التجربة الجمالية للفن الإسلامي
والتجربة المعيشية لواقع جغرافي وإنساني ،ذلك أن ماتيس نظر إلى المغرب بواسطة
منظار ملون للمنمنمات الفارسية،وهكذا فإن النبات الذي رسمه في منزل
"بروك"يسبح في الأزرق/الأخضر
وهو تعبير بدون محاكاة الصور التي خلفها الفرس،عن نفس الإحساس الحلولي
أمام الطبيعة لأن اللون يلعب فيها نفس الدور مادام يحول الواقع إلى رؤية
فردوسية وهذا ما صرح به ماتيس لصديقه Von Dongenبقوله"إن الفردوس يسكنني"أما
صديقه السياسي Marcel Sembatفيعترف بدوره بأن ماتيس "حول الطبيعة
المغربية إلى فردوس أرضي".إنها تشكيلة رائعة من الفيروزي والأزرق الحاد لمظاهر
مرصعة جديرة بالخزفيين الفرس تلك التي تحتضن "الزهراء"وهي جاثية على سجاد
الصلاة، أما "المقهى المغربي "أكبر لوحة أنجزها أثناء تواجده بالمغرب
،فينبعث منها لون شرقي ماتيسي أكثر روحية وصفاء وأكثر إثارة للتأمل.أما
الأشخاص الستة الذين يتدرجون إلى الأعلى كما هو الأمر بالنسبة لمنمنمة فارسية
مستغرقون في هذا اللون كما هم مستغرقون في تأملاتهم الخاصة إلى حد فقدان
كل تعبير حيث يتراءون كأشكال بيضوية فارغة ، ويجيب ماتيس على ملاحظة قام
بها Marcel Sembatتتعلق بمعنى الطمس أو المحو قائلا:"لأنني أسير في اتجاه
إحساسي إلى الانخطاف/الافتتان".

إعداد: قويدر عكري. وجدة المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال