الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نساء فوق العادة (خربوشة)

للاإيمان الشباني

2025 / 3 / 6
الادب والفن


خربوشة



خربوشة، هذا الاسم الذي يتردد في الذاكرة الشعبية المغربية، لم يكن مجرد لقب لشيخة تغني العيطة، بل كان رمزًا للمقاومة والنضال، وقصة امرأة لم تخضع لظلم الاستبداد، فاختارت الكلمة الحرة سلاحًا تواجه به الطغيان. في حقبةٍ كان فيها الحكام يفرضون سطوتهم بالقوة، ويتحكمون في مصائر الناس دون حسيبٍ أو رقيب، برزت هذه المرأة القادمة من دواوير قبيلة "أولاد زيد" بعبد، لتكون صوت الشعب الذي لم يكن يجرؤ على رفع صوته، فواجهت القائد عيسى بن عمر، الرجل الذي اشتهر بقسوته وظلمه، بكلمات كانت أقوى من السيف وأبلغ من الرصاص.
في ذلك الزمن، لم يكن للضعفاء صوت، ولم يكن للمعارضة مجالٌ للبقاء، فالسيف كان الحكم، والدماء كانت تسيل في كل مكان، والقائد عيسى بن عمر، الذي عُيّن من طرف السلطان الحسن الأول حاكمًا على منطقة عبدة ودكالة، لم يكن يعرف الرحمة في حكمه، بل استخدم العنف والتنكيل لترهيب القبائل وإخضاعها لسلطته. كانت الضرائب تثقل كاهل الفلاحين، وكانت العقوبات تنزل على من تسوّل له نفسه التمرد، حتى لو كان مجرد اعتراض بسيط. في ظل هذا القهر، لم يكن أحدٌ يجرؤ على الكلام، لكن خربوشة لم تكن كغيرها من النساء، لم تخشَ بطش الحاكم، ولم تسكت عن الظلم، بل رفعت صوتها عاليًا، تفضح استبداده بعيطاتٍ نارية، أيقظت النائمين وألهبت مشاعر المقهورين.
كانت العيطة حينها أكثر من مجرد غناء، كانت وسيلة للتعبير عن الرفض، ولإيصال الرسائل المشفرة التي تحث على المقاومة. لم تكن كلماتها ترفًا أو لهواً، بل كانت نداءً للثورة، فحينما غنت:
"سير آ لعيسى بن عمر، سير أوليدي لله"
"راداك الباشا والكَيّاد، وفين غادي تلقى الفيّة"
لم تكن تغني فقط، بل كانت تصف سقوط هيبة القائد الذي كان يظن نفسه فوق الجميع. كانت القبائل تردد أشعارها، وكان صوتها ينتقل من دوارٍ إلى آخر، يزرع الأمل في قلوب المظلومين، ويثير غضب السلطة التي رأت في أغانيها تحريضًا صريحًا على العصيان.
كانت خربوشة امرأةً بدوية، لكنها امتلكت من الجرأة ما لم يمتلكه رجال عصرها، فلم تخف من عواقب تحديها للقائد، ولم تساوم على مواقفها. تشير بعض الروايات إلى أنها كانت تُنقل بين القبائل، تغني لهم وتحرضهم على عدم الخضوع، وكانت ترى أن من واجبها أن تدافع عن أبناء قبيلتها الذين ذاقوا الأمرّين من بطش عيسى بن عمر. كانت تعرف أن عواقب ما تفعله قد تكون وخيمة، لكنها لم تبالِ، لأنها كانت تؤمن بأن الظلم لا يدوم، وأن الاستبداد لا يمكن أن يستمر للأبد.
لكن القائد لم يكن ليسمح لهذه المرأة بأن تطيح بهيبته بهذه السهولة، فقد أمر باعتقالها وتعذيبها بوحشية. وتقول بعض الروايات إنها تعرضت لأشد أنواع العذاب، حيث تم جلدها وضربها حتى انهارت قواها، لكن رغم الألم، لم تتوسل ولم تطلب الرحمة، بل بقيت شامخة، صامدة أمام جبروته، لم تتراجع عن مواقفها، ولم تطلب الغفران. يُقال إنه أجبرها على الغناء أمامه، وأنه أراد إذلالها، لكن حتى وهي أسيرة، لم تفقد شجاعتها، بل واصلت غناءها، وكأنها تسخر منه أمام الجميع، مما زاد من غضبه وأدى إلى نهايتها المأساوية.
لم يعرف مصير خربوشة بدقة، فهناك من يقول إنها قُتلت بأمر من القائد، وهناك من يروي أنها دُفنت حية، لكن المؤكد أن صوتها لم يمت، فقد بقيت كلماتها حيّة تتناقلها الأجيال، وتحولت قصتها إلى رمز للصمود في وجه الطغيان. لم تكن خربوشة مجرد شيخة، بل كانت ثائرة، ومناضلة لم تحمل السلاح، لكنها حاربت بالكلمة، التي كانت أشد وقعًا من الرصاص.
اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على رحيلها، لا يزال اسمها يتردد في الموروث الشعبي المغربي، وأصبحت أغانيها جزءًا من تاريخ العيطة، ذلك الفن الذي لم يكن مجرد غناء، بل كان مرآة تعكس هموم الناس ومعاناتهم. قصة خربوشة تظل شاهدة على قوة الكلمة، وعلى أن المرأة، مهما كانت بسيطة أو بدوية، يمكنها أن تكون رمزًا للمقاومة، وقادرة على صنع التاريخ، ولو بكلمات موزونة تخرج من قلب صادق لا يخشى الطغاة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة الصينية -غاو ليو- يتحول أنفها للون الأسود بعد سنوات


.. من حبه للحضارة الفرعونية.. درسها! الفنان محمد خميس مع منى ال




.. فضل شاكر .. نقابة الفنانين السوريين تمنح -عضوية الشرف- للفنا


.. انضرب بحب الحضارة الفرعونية!.. سر نجاح فيديوهات الفنان محمد




.. فضل شاكر .. نقابة الفنانين السوريين تمنح -عضوية الشرف- للفنا