الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتقال الديمقراطي في المغرب أم تحويل الفول إلى بصارة*

يوسف أبو سهى

2007 / 1 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


* "البصارة أو البيصار" وهي حساء أو وجبة غذائية يلجأ إليها الفقراء في المغرب ، وتأتي نتاج لطهي "الفول" أو" الجلبان" اليابس في الماء إلى أن يتحلل و يصبح أقرب من سائل ، ولا يكلف إلا وتوابل وزيت الزيتون تضاف بعد الانتهاء من الطهي ليصبح ذوقها شهيا رفيعا.
أصل حكاية " الفول والبصارة"
هذه حكاية تعود إلى سنوات الجمر أو ما يسمى بسنوات الرصاص، وبالذات بداخل السجن المدني بوجدة .حيث مكث جزء من المعتقلين السياسيين ضحايا انتفاضة يناير 84. وللتذكير فقد شملت الاعتقالات الآلاف من المواطنين على الصعيد الوطني. واستقرت المحاكم في شمال شرق البلاد ،على إدانة ما يقرب من 450 معتقل بالسجن والغرامة الخيالية في بعض الأحيان من بينهم ست طالبات.
وقد خاض هؤلاء المعتقلون في مواجهة الظروف السجنية الحالكة، معارك بطولية من أجل تحسين أوضاعهم، واحتجاجا على عمليات القمع التي يتعرضون لها يوميا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وصلت حد إعادة استنطاق البعض من قبل جهاز الاستخبارات بداخل السجن بسبب بيان صدر عن المعتقلين.
استهدفت تلك النضالات تحقيق مطلبين أساسيين يشكلان مطالب مركزية في الملف ألمطلبي المقدم للإدارة وجهات أخرى من الأجهزة التنفيذية والقضائية كالمحكمة الابتدائية بقيادة "السغروشني" ومحكمة الاستئناف بقيادة الوكيل العام عدلي. وحتى لدى وزارات التعليم والداخلية والعدل وإدارة السجون. و هذين النقطتين هما الحق في التعليم والحق في الإقامة.
أما عن الحق في التعليم، فقد تم حرمان المعتقلين (الطلبة والتلاميذ) من متابعة دراستهم من خلال قرار وزاري انتقامي، وكان الهدف منه، المزيد من تعسير الحياة على المعتقلين، وجعل كوابيس السجن تتضاعف، ليصبح محور المصير بعد الانفراج يشغل التفكير اليومي للسجناء.حيث يدرك هؤلاء أن الحق في التعليم يساوي الحرمان من الحق في الحياة خاصة و أنهم شباب طلاب وتلاميذ قضوا على الأقل عقد ونيف من الزمن في متابعة الدراسة.
ويقصد بالإقامة في تلك المعارك تجميع المعتقلين السياسيين في زنازين خاصة، وفصلهم عن معتقلي الحق العام، وتحسين شروط الحياة المعيشية اليومية والمتمثلة في توقيف الاستفزازات واحترام كرامة المعتقلين والاعتراف بهويتهم كمعتقلي رأي و في تحسين وجبات التغذية والحق في الإعلام والحق في الزيارة المباشرة والتطبيب...
الحق في الإقامة يقصد به كرامة المعتقلين في مختلف نواحي إقامتهم ومكوثهم بداخل السجن. ذلك أن الكرامة وحدها تمنح القدرة على التطور الإيجابي، وتسمح بتعامل نفسي سليم مع أوضاع السجن، وتفاعل مع الخارج بمنطق يسمح بمسايرة ما يجري في الحياة اليومية في المجتمع حتى لا تنفلت معطياتها من ذهنية المعتقل. وتوفر الإقامة إمكانية الانشغال بما يسمح بتكوين فكري في مستوى طموح المعتقل السياسي. بدل الانشغال في أمور حياة يومية تنتهي مع انتهاء اليوم.
على أية حال فقد كان المعتقلون يرفضون، الاندماج في هذا الوضع، ويدركون أن إدماجهم بمعتقلي الحق العام يهدف إلى تذويب هويته السياسية، وتحويلهم إلى معتقلين بنفس الخاصيات التي تميز الآخرين، لذلك رفضوا الخضوع لتلك الاستفزازات وقاموا بمعارك نضالية من أجل تحقيق وضع أرقى يمكنهم من رد الاعتبار لكرامتهم ولهويتهم كمعتقلين سياسيين.
وصلت المعارك التي خاضها المعتقلون إلى خمسة عشرة يوما من الإضراب عن الطعام بالنسبة للبعض، وثمانية عشر بالنسبة للبعض الآخر، إضافة إلى معارك يومية وصلت حد العصيان والمواجهة الجسدية المباشرة مع الحراس، واستمرت على أية حال هذه المعارك لمدة، ثلاث سنوات على الأقل.
فقد انطلقت أول معركة بما يقرب من 120 معتقلا لتدوم يومين، وكانت تلك أول تجربة للمعتقلين السياسيين. وكان عنف الإدارة في أحد جوانبه ناتج عن جدة تعاطي المعتقلين مع أوضاع السجن. و مما زاد من حدة عنفها هو أن مديرها لم يعرف في تاريخه كإطار لإدارة السجون، معتقلين سياسيين بهذا الحجم والنوع.
يمكن معرفة طبيعة تعاطي المدير مع معركة المعتقلين هذه، في جوابه على طلب أحد المعتقلين تناول" السكر" كعرف يقدم للمضربين عن الطعام بالقول مستهزئا: " إن أعطيتك السكر فمن الأحسن يا ولدي أن أقدم لك الدجاج". كان واضحا منذ هذا الإضراب أن هذا المدير مصر على المضي إلى أبعد الحدود في تعذيب المعتقلين وتأديبهم حسب فهم التأديب لدى إدارة السجون.
على أية حال فالحديث عن أوضاع الإقامة في هذا السجن وفي ضل المدير المذكور، تتطلب موضوعا مستقلا، نظرا لما فيها من نزع وتجريد لإنسانية المعتقلين. وسنعود لذلك في مقال لنا حول انتفاضة يناير 84. فما يهمنا في سرد هذه الأحداث هو الحكاية التي تبرز في العنوان أعلاه و المثير للسخرية والتي رأينا أنها مفيدة في النظر إلى ما يسمى بالانتقال الديمقراطي في المغرب.
فمن عادة المعتقلين السياسيين كلما انتهوا بمعركة ما، يحاولون تقييم نتائجها ونتائج نضالاتهم بشكل عام. وفي أحد اجتماعات التقييم التي حاولت أن تكون شاملة طرح السؤال حول المكاسب التي تحققت من خلال النضالات السابقة. و تراوحت الأجوبة بين الحديث عن بعض المكاسب و بين نفي مطلق لأي مكسب ناتج عن تلك المعارك البطولية.
كان الهدف من هذا النقاش هو البحث في طبيعة المعركة المقبلة، خاصة و أن الأوضاع لم تعرف تطورا ملموسا في اتجاه النقط المركزية للملف المطلبي.
في هذه الأجواء المتسمة بالجدية في النقاش، بل بصراعات حول ماضي ومستقبل النضال العام الذي يخوضه المعتقلون السياسيون على المستوى الوطني والمحلي، والذي استشهد في سبيله المناضلين الدريدي و بلهواري . راج على هامش النقاش أن أحد الرفاق قال مستهزئا أنه رأى أن مكسبا واحدا ملموسا تحقق من خلال تلك البطولات، والمكسب هو أن الإدارة قامت بتحويل الفول (الحامي والهاري) إلى " بصارة" !!!
وضحكنا حتى بروز النجدين !!!
كانت الملاحظة في محلها، حيث بالفعل قامت الإدارة بتقديم وجبة "البصارة" بدلا عن الفول "الهاري والحامي"، حتى تتمكن من القول أنها استجابت لأحد مطالب المعتقلين وهو تحسين الوجبات الغذائية.
وطبعا في عملية التحويل هذه ستبقى مكونات الفول قائمة في "البصارة"، ولا تتأثر كثيرا بعمليات الطهي، فقط سيتححلل الفول أو يتحول من طور الفول المتماسك العناصر إلى طور السائل المفكك العناصر.
إلا أن "الكوز"( وهو حشرة تقيم بداخل الفول ، وكنا نقول" دودو من عودو "حتى لا نأبها بها ونأكلها ، وفي حالات نادرة ننزعها من الفول) الذي كان بارزا في الفول ، ويعطي صورة حقيقية لمحتواه. أصبح بداخل "البصارة" لا يظهر للعين المجردة إلا في حالة عصيان بعضه عن الذوبان( كما يعصى ذوبان بعض شخصيات زمن الرصاص في الوضع الحالي) وبالتالي فسنلتهمه بدون التفكير في البحث عنه، أما الذوق فسيتغير بفعل إضافة بعض التوابل و زيت الزيتون( الإجراءات والروتوشات السياسية الاجتماعية) الذي سيعطي "البصارة" ذوقا لذيذا يميزها عن " الفول الهاري "الذي كانت قشوره الغليظة و " كوزه العاصي" تفسد شهية تناوله.
إن هذه المقالة لا تهدف تحليل الوضع السياسي الراهن والتحولات التي عرفها المغرب في ما يسمى بالعهد الجديد، فذلك يتطلب تعميق النظر في تلك التطورات. فقط نريد من خلالها الوقوف عند بعض الإشارات التي طبعت مسار المغرب في ظل شعار الانتقال الديمقراطي، لنعرف مدى مطابقة الشعار مع الواقع اليومي للممارسة السياسية للطبقة الحاكمة.
لا نود الخوض في مجال المقارنة بين ما جرى زمن الرصاص و الزمن المدعى بالعهد الجديد، لاعتبار أن ما يجري في الواقع الحالي كفيل بتفنيد ادعاءات حاملي تلك الشعارات بل هم أنفسهم لا يثقون فيها، إلا عندما تقتضي منهم الضرورة الإعلامية أو قل الضرورة الانتهازية لذلك، فعندما يخلون إلى شياطينهم، فقولهم آخر واستراتيجيتهم أخرى.
إن محاولتنا لمعرفة ما استجد في الوضع الجديد، فرضت علينا عناء حفز الذاكرة على التوقف عن حركتها، وإقفال أبوابها ونوافذها حتى لا يتسرب من جوفها موقف متشائم يثير فينا مأساة زمن الرصاص، ويِؤثر في شرط الموضوعية لمقالنا. ومع ذلك لم نجد إلا ظروف أفضل لاشتغال " الكوز" وتحسن موقعه المتسلط داخل بنية الفول، واستعادة قوته وصلابته. .

وعليه، طرح السؤال الجوهري التالي:هل فعلا ما يجري في المغرب هو انتقال ديمقراطي بما يعنيه مرحلة مخاض لتحويل البلاد من وضع لا ديمقراطي إلى وضع ديمقراطي؟ أم هو إعادة إنتاج للبنيات المخزنية ، وترتيب سياسي تحكمت فيه ظرف اقتصادية واجتماعية سياسية محلية و دولية، أي إعادة إنتاج نفس مكونات الوضع السابق ( الفول الحامي والهاري ) إلى الوضع الحالي (البصارة) بما يعنيه ذلك بقاء نفس المكونات( ومنها "الكوز" غير القابل للذوبان) التي تميز بها الوضع السابق.

لقد مضت سنوات على إطلاق شعارات الانتقال الديمقراطي. فمن المفروض أن يعيش المغرب مرحلة الديمقراطية وليس الانتقال الديمقراطي، إذا نظرنا للمدة الزمنية التي تبعدنا عن انطلاق الشعار.ومن المفترض أن تساهم القوى التي قامت بصياغة الشعار والدفاع عنه واتهام من اختلف معها في تقييم المرحلة بالفوضوي و العدمي، من المفترض أن تقوم تلك التيارات بمواجهة معيقات ما سمي بالانتقال الديمقراطي. لكنها انكمشت في ذاتها، وعملت على تبرير ممارسات القمع الذي يتعرض لها الفعل الحقوقي والسياسي والنقابي، معتبرة إياه محاولة للتشويش على عملية البناء الديمقراطي. و كأنها تطلب من الجماهير أن يوقفوا نضالاتهم و يجمدوا أفكارهم ويخنقوا أنفاسهم وإحساسهم بالقمع، لأن المغرب يعيش مرحلة مخاض وولادة عسيرة للديمقراطية.
وإذا حاولنا تلخيص ما يجري و بحثنا في طبيعة الأهداف الاستراتيجية لشعار الانتقال الديمقراطي وآليات تحقيقه في الواقع، لقلنا بدون تردد أنها تستهدف تحقيق ما يلي:
 ضمان الاستقرار والتوازن السياسي في البنية الاجتماعية و جعل أكبر قدر ممكن من الجماهير الشعبية يثق في ما يسمى بالعهد الجديد. يسمح بتجديد المحزن لآليات التحكم المطلق في السلطة السياسية .
 تحقيق استراتيجية النظام في التحكم الأبدي في السلطة السياسية في شروط أفضل، ( بدون السماح بتوسع التناقضات مع أطراف الصراع وذلك باستقطاب أكبر قدر ممكن من التيارات والفعاليات والقوى التي تتوفر فيها شروط الاندماج في استراتيجية النظام وخدمته الأبدية ).
 خلق قوة سياسية يعتمد عليها في تحقيق الأهداف السابقة تجد جذورها في أوساط الشعب وتعتمده كقوة بديلة في مواجهة اليسار الديمقراطي وهي ذات أصول رجعية ضلامية تقليدية ليبرالية انتهازية....
 سرقة شعارات اليسار وتوظيفها في أبشع الأشكال من قبل ثلة من من انتقلوا إلى ضفة المخزن من يساريين سابقين ومثقفين بارعين في التضليل الإيديولوجي، بهدف تضييق الخناق على اليسار و الاستمرار في محاصرته على مختلف المستويات.

الوضع الاجتماعي دليل غياب الارادة في الانتقال الديمقراطي
الوضع الاقتصادي الاجتماعي في المغرب مستمر في أزمته، بل مستمر في المزيد من التأزم من خلال وضع خيرات الوطن في يد أقلية من الكومبرادور وفي جيوب شركات النهب الإمبريالي التي لا تدع فرصة تضيع لتنقض على خيرات البلاد واستغلال العباد وفي خدمة المؤسسات المالية الإمبريالية التي تستنزف الاقتصاد من خلال قروضها المشروطة بالإجهاز على مكتسبات النضال الديمقراطي على المستوى الاجتماعي.
مشاريع ضخمة يطل علينا بها الإعلام المقروء والمسموع، مشاريع تثير انتظار نتائج أثارها على أوضاع الجماهير الشعبية، طرق سيارة على المستوى الوطني، مشاريع سياحية، يقال أنها ستدر أرباحا طائلة على سكان المناطق المجاورة لها والتي عانت لمدة عقود من الزمن من التهميش السياسي الاقتصادي الاجتماعي. و اتفاقيات اقتصادية مع كبار الشركات الإمبريالية وغيرها من المشاريع التي لا تفيد إلا في توسيع رأسمال الكومبرادور والإمبريالية على حساب معانات الجماهير الشعبية ومآسيها.
تطورات العهد الجديد، في المجال الاجتماعي تثير أكثر من تساؤل حول جدية الشعارات المرافقة له. فالزيادة في أسعار مواد الاستهلاك التي تستهدف ذوي الدخل الضعيف ومن ليس لهم دخلا بالمطلق، وتجميد أجور العمال في مختلف القطاعات الصناعية والفلاحية وغيرها، عدم تلبية مطالب الحركات الاحتجاجية في مختلف القطاعات الاجتماعية والعمالية بالخصوص، عدم مراقبة تطبيق قوانين الشغل في مختلف الشركات المحلية والأجنبية وتوسع البطالة بشكل مهول وفي أوساط كانت في عهد ما قبل العهد الجديد لا تطالها إلا نادرا، ناهيك عن السكن والصحة التي تعرف أزمة تجعل المواطن يحن إلى الوضع السابق...
كل ذلك يؤكد أن المغرب الحالي مستمر وبأشد خطورة على الأوضاع التي عرفها مغرب ما قبل الانتقال الديمقراطي، في توسيع رأسمال الفئات المرتبطة بالطبقة الحاكمة وتوسيع رأسمالها وحماية مصالح الإمبريالية الاقتصادية والسياسية وفي المقابل المزيد من الفقر والحرمان من الحق في الشغل والسكن و الصحة وغيرها للأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية.ذلك ما أدى إلى توسع حجم ونوع الاحتجاجات في السنوات الأخيرة، في حين تعاملت معها الطبقة الحاكمة بالقمع الشرس و في أحسن الأحوال بعدم الاكتراث، حتى أن تنبؤات تشير على أن الوضع متجه نحو الانفجار الذي عرفته انتفاضات يونيو 81 ويناير 84 وديسمبر91.
وإذا كانت حركة اليسار استطاعت إلى حد بعيد، استيعاب هذا الوضع وتوجيهه في اتجاه بناء حركة احتجاجية منظمة، غير خاضعة للعفوية، من خلال خلق تنسيقيات مواجهة ارتفاع الأسعار. فان السلطة مازلت غير قادرة على استيعاب مضمون هذه العملية، غير مكترثة بما يمكن أن يؤول إليه الوضع في حالة عجز هذه العملية على تحقيق مطالبها في التراجع عن مخطط رفع الأسعار المستمر.وهذا الأسلوب يؤكد مرة أخرى على طبيعة الممارسة السياسية للطبقة الحاكمة في المرحلة الراهنة تجاه الحركات الاحتجاجية.
تغيير الدستور شرط رئيسي للانتقال الديمقراطي :
يعتبر تغيير الدستور من أهم المطالب الذي شغلت حركة اليسار، ويعد مفتاح لحل العديد من الإشكالات السياسية، وتغييره تغييرا ديمقراطيا على مستوى الإعداد وعلى مستوى المضمون، يشكل المدخل الأساسي والوحيد الذي يعكس الرغبة في الانتقال الديمقراطي أو الانتقال التدريجي و السلمي نحو البناء الديمقراطي.
فصياغته وإعداده تاريخيا تعود إلى بعض الكولنياليين، مهندسي القوانين الأساسية لديمقراطية البلدان المستعمرة. ويقدم للشعب منذ 62 كدستور ممنوح. و شكل موضوع صدام حقيقي بين مكونات اليسار الديمقراطي من جهة والتحالف الطبقي الحاكم من جهة أخرى، بسبب فقدانه لأهم ضوابط النظام الديمقراطي. التي تتجسد في التناوب على السلطة وتداولها، استقلالية السلط الثلاث القضائية، التشريعية و التنفيذية، ضبط دور المؤسسة الملكية السياسي...
و يمكن القول أنه مهما بلغت حدة ونوعية الإصلاحات و الإجراءات السياسية لا يمكنها أن تحقق الطموح الفعلي في الانتقال الديمقراطي إلا بتغيير دستوري حقيقي يضمن كافة حقوق الشعب في التقرير السياسي الاقتصادي الاجتماعي والثقافي. من خلال المشاركة الفعلية للشعب في إعداده وصياغته.
لا تخفي القوى الحاملة لمشروع الانتقال الديمقراطي رأيها في القول بضرورة إصلاح دستوري، رغم أن رأيها هذا لا ينفذ إلى عمق طبيعة التغيير الدستوري المطلوب، حيث لا يتجاوز إعادة إنتاج نفس تجارب الإصلاحات الدستورية السابقة التي لم تمس يوما مضمون الدستور منذ منحه سنة 62، وذلك لا يكفي في تحقيق بناء ديمقراطي يتمكن فيه الشعب من تقرير مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وحسب ما يشاع و ما يتنبأ له البعض من أنه من الممكن أن يتم وضع بعض الإصلاحات ويتم الاستفتاء عليها قبل خوض الانتخابات المقبلة، وليس لتلك الإشاعات من مؤشرات تثبت صحتها تبرز أسلوب الممارسة السياسية للحكم في المرحلة الحالية، وحتى ولو صدقت وتم ذلك فانه منذ الآن يتأكد أنها سوف لن تكون جوهرية في ممارسة السلطة. بمعنى أن جوهر السلطة سيبقى دافئا في جلباب الدستورالقديم/الجديد. وإذا وقع ذلك فإنه العجب الرجب.
الانتخابات مرآت تعكس أسلوب الممارسة الديمقراطية :
أما الانتخابات فلن يتغير دورها وشكلها بالنسبة للطبقة الحاكمة، ولا يمكنها أن تصبح وسيلة يتم من خلالها إشراك المواطنين في صياغة القرار، إلا بتغيير جوهري في الدستور يمكن الشعب من الحق في إدارة المجتمع على كافة المستويات.و تحقيق وعود الشفافية والنزاهة التي طغت على خطاب الطبقة الحاكمة ومديري حملاتها الإيديولوجية.
نظريا، ومن خلال الاجتهادات التي قامت بها أجهزة المخزن المختصة في عملية خنق التعبير الحر، والقائمة على وضع القيود والحدود على الممارسة السياسية، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الانتخابات القادمة ستكون أسوأ من سابقاتها، خاصة في ما يشترطه نمط الاقتراع لعتبة تسد الطريق أمام العديد من القوى السياسية للمشاركة في هذه الانتخابات. بدون الحديث عن ما ستعرفه عملية التسجيل في اللوائح الانتخابية، والتقطيع الانتخابي من أساليب التزوير التي لم تعرف بعد طريقا لمغادرة صناديق الاقتراع.
وعلى مستوى الممارسة لا يظهر تمايزا بين انتخابات العهد السابق، وانتخابات العهد الجديد إلا في شعارات سياسية، أطنبت في اعتبار المرحلة الحالية متميزة بالانتقال الديمقراطي والمصالحة والتي كانت المرحلة السابقة نفسها تدعي ذلك.
ذلك أن التجارب التي عرفها العهد الجديد، أثبتت، أكثر من غيرها أن دار لقمان على حالها، ولا أدل على ذلك من الانتخابات التي عرفتها غرفة المستشارين الأخيرة، رغم ما عرفته من مسرحيات بعدها المتمثلة في محاكمة مستخدمي المال الحرام لبعض الضحايا الأكباش الذين يعلمون بجد وواقعية أن المغرب الذي نعيشه الآن هو الذي كان سابقا ولا شيء استجد يفرض عليهم تغيير سلوكهم. بل أن بعضهم قد يكون مقتنعا بكون ما يمارسه سلوكا طبيعيا في الأحزاب التي ينتمون إليها و بمباركة وربما بإعداد ومشاركة عناصر من قيادتهم.
على أية حال، فليس لنا إلا أن نحترم قرار المتابعات القضائية لهؤلاء، لكن بدون أن ننخدع بكون ذلك يشكل أسلوبا جديدا في الممارسة السياسية للسلطة، وادعاءاتها بالمساهمة في ما يسمى بتخليق الحياة العامة.
إن القوى الانتخابية التي عرفها العهد السابق، هي نفسها التي تهيمن حاليا على المؤسسات التمثيلية، تم تزيينها بمعارضة لا تحمل هذا الهم إلا اسما يزيد ها توسعا في أوساط المواطنين. أما القوى الديمقراطية الحقيقية، والتي قدمت تضحيات جسام من أجل هذا الشعب فهي ما زالت محاصرة حصارا واسعا، مادي و سياسي وإيديولوجي.
وبدون مبالغة نقول أن المغرب في تجاربه الانتخابية التي عرفتها البلاد منذ 62 الانتخابات البلدية، 63 الانتخابات التشريعية إلى حدود الانتخابات الأخيرة، يقدم نموذج للبلدان الأكثر تخلفا في مجال الممارسة الانتخابية، وحديثه عن التحضرو العصرنة وغيرها،حديث انتقائي يظهر فقط عندما يتعلق الأمر بالحاجة إلى مواجهة أوضاع محددة كالاحتجاجات النضالية التي تقوم بها الجماهير من جهة أو في مواجهة بعض الأحداث ذات الطابع العنيف.
احقوق الإنسان إطار لتحقيق الانتقال الديمقراطي :
تشكل حرية الرأي و التعبير جوهر الممارسة الديمقراطية وتعد شرطا أساسيا لتحقيق الثقة بين مكونات المجتمع أو أطراف الصراع بداخله، خاصة في عهد يدعي فيه أصحاب القرار أنهم يتوقون إلى مصالحة مع الذات والمجتمع. إلا أن ما يجري في الواقع، يؤكد أن المغرب لا يخضع لهذه القاعدة في منطق ممارسته السياسية. حيث يشكل نقد الممارسة السياسية والإيديولوجية والاقتصادية التي تعيق البناء الديمقراطي عائقا لا حافزا وحصانة للبناء الديمقراطي في نظر السلطة. في وقت تشكل مواجهة الأساليب العتيقة في الممارسة السياسية والإيديولوجية، أحد المهام الأساسية في أولى حلقات الانتقال الديمقراطي بل في مساره الطويل.
فقد عرف المغرب في سنوات ما يسمى بالعهد الجديد أوضاع تعيده إلى ذاكرة زمن الرصاص، تتمثل في خنق واسع لحرية الرأي و التعبير والرأي. فقد نشرت الصحف أخبار عدة حول عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي التي عرفتها البلاد قبل وبعد 16 ماي الإرهابية. وفي محاولات عديدة قامت السلطات بنفيها ولم تقر ببعضها إلا بعد ثباتها بتوفر معطيات وقوعها.جعلت من البعض يقوم بتبريرها علنية و إدماجها في ما سمي بمواجهة الإرهاب الدولي والمحلي. وبثقة عمياء أو رجفة في القلب أو مصلحة في الكبش قامت زمرة من المثقفين المرتبطين بأحزاب الانتقال الديمقراطي بتبرير الوضع والسكوت عن ممارسات القمع وتهويل المواطنين بدقة المرحلة وبخطورة التهم المنسوبة للمختطفين غير آبهة من كون الأخطر في كل ذلك هو العودة إلى ارتكاب جرائم الانتهاكات الجسيمة، التي نحن الآن نطالب بالتحقيق فيها أو كشف الحقيقة عنها. ونحن نعلم إن انتهينا بملفات الماضي البعيد سنأتي إلى الماضي القريب والحاضر الأقرب.
ان استمرار الاعتقال والاختطاف ينبئ بإمكانية العودة إلى سنوات الجمر التي ابتعدنا عنها لمسافة محدودة. وهذا البعد غير الحاسم يجعلنا ننتظر عودة المواطنين إلى السجون وممارسة الاختطاف والتعذيب على الطريقة المعهودة. ويكفي ذلك أن يتوفر الشرط السياسي ليخرج المخزن من ترسانته القمعية أساليبه المعهودة.
لم يعرف التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان تطورا وأسلوبا يجسد الرغبة في الانتقال الديمقراطي بل بالعكس فقد تعرضت احتجاجات المواطنين حول بعض القضايا الاجتماعية قمعا شرسا انتهى بتعذيب ومحاكمات، ثم متابعات قضائية للعديد من المناضلين الحقوقيين و مناضلي قوى اليسار والجماهير الشعبية بصفة عامة خاصة في بعض الأحداث الاجتماعية العفوية، في مختلف أنحاء الوطن. وقد تميزت بنفس الخاصية التي عرفتها البلاد قبل العهد الجديد حيث الاعتقالات الفردية والجماعية مست مختلف الفئات والمناطق بل تعممت في بعض الحالات، وهكذا فالميزة الوحيدة الممكنة هي أن هذه الممارسات تأتي في ظرف ,أوكلت فيه مهام حقوقية لبعض المؤسسات , ونخص بالذكر هيئة الإنصاف والمصالحة التي تأسست من اجل أداء دور سياسي وإيديولوجي تبين جليا بعد انتهاء أشغالها ، وعجزت حتى عن إنجاز النتائج المتواضعة جدا التي خلصت إليها، وخاصة منها المطالب الاستعجالية الخاصة بجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة.
يشترط الانتقال الديمقراطي في ما يشترط، فتح أبواب واسعة للتعبير تمكن عملية الانتقال من تحقيق شروط متميزة.وفي هذا الإطار تلعب الصحافة دورا أساسيا، تدير فيه الحوار الضروري لعملية الانتقال ومواجهة المعيقات السياسية و الإيديولوجية للبناء الديمقراطي.إلا أن ما عرفه المغرب طوال فترة العهد الجديد، يتميز بحصار خطير على الصحافة، التي لا تقبل الاندماج في عملية التضليل و التضبيع ، وتتعرض للمنع والمحاكمات ذات التهم المختلفة تتمحور حول المس بالمقدسات الوطنية والدينية، وآخر سلوك للطبقة الحاكمة في هذا المجال هو منع مجلة نيشان ومتابعة صحافييها قضائيا بسبب نشرها لملف حول الضحك في المغرب، وليس لنا إلا أن نستغرب لأسلوب التعاطي مع هذا الموضوع خاصة وان المستفيد الأكبر من هذه الحدث هو بعض القوى الماضوية التي ما فتئت تمارس التكفير على كل من يختلف معها ومن يحمل رأيا آخر للممارسة الدينية وعلاقتها بالممارسة السياسية .ويمكن أن نجزم أن هذه الممارسة التي تقوم على إرضاء الضلامية وتخنق حرية الرأي والتعبير فهي من الممارسات التي تعيد إنتاج قنابل 16 ماي الإرهابية، ومن المفروض أن تقوم الدولة بحماية الصحافيين وتخضع للمحاكة هؤلاء التكفيريين الذين يستغلون هذه الظروف لإعداد قواهم والتمكن من تحقيق موقع وسط الجماهير يستخدم فيما بعد للإجهاز على كل فكر متنور و كل مكتسب ديمقراطي.
خـــاتـمـة
و أي خاتمة ممكنة في بلد لا يعرف خواتمه إلا بالمآسي والدماء، وكلما نهضت من داخله شرارة أمل في حياة جديدة، تتسلط عليه نار تمحو آثاره، تشعلها ثلة من ذوي التأثير الفعلي في حركة السلطة، ويهرول ورائها مثقفون مرتزقون يعتمدون قدراتهم على بناء الخطب والشعارات ذات الأبعاد الإيديولوجية القائمة على تزييف حقيقة ما يجري في الواقع.
في بداية العهد الجديد كانت البصارة ساخنة، وكانت ذات ذوق يستقطب إليها المواطنين، وبعد أن تسرب إليها هواء بارد ليكشف عن ثغرات بداخلها، و ظهر "الكوز" على سطحها أسودا وهو في أحسن قواه، ورغم زيت الزيتون التوابل المتنوعة التي أضيفت إليها، فقد أصبحت لا تؤدي وظيفتها في إعطاء ذوق رفيع. وهكذا فالناس رأت أن أول مهمة لتحسين وضع البصارة هي نزع "الكوز" الذي استمر فيها، وإبراز حقيقته في ظروف الفول الحامي والهاري، شرطا أساسيا لكي يكون للبصارة ذوقا يستحق الإثارة.
أخيرا ليس لي إلا أن أحيي الرفيق المبدع لهذه الحكاية التي رأيت أنها صائبة في وصف ما يجري في مغرب الانتقال الديمقراطي. أستسمحه على السرقة الأدبية التي مارستها في توضيف حكاية من إبداعه في موضوع سياسي أكبر حجم من البصارة والفول الهاري الذي كانت في زمن السجن تعد أقصى ما تستطيع تحقيقه إدارة ومن خلالها سلطة الدولة "مالين الوقت" لمضربين عن الطعام كانوا على مقربة من فقدان حياتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسؤول إسرائيلي: حماس -تعرقل- التوصل لاتفاق تهدئة في غزة


.. كيف يمكن تفسير إمكانية تخلي الدوحة عن قيادات حركة حماس في ال




.. حماس: الاحتلال يعرقل التوصل إلى اتفاق بإصراره على استمرار ال


.. النيجر تقترب عسكريا من روسيا وتطلب من القوات الأمريكية مغادر




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال لمسجد نوح في