الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استبدال الخاكي بالزهريّ والسماويّ لن يجمّل صورة النظام

صبحي حديدي

2003 / 7 / 17
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

 

 

 

من أين تبدأ دمشق في تبييض الصفحة مع واشنطن؟

 


 

ليس بالأمر العابر أن يخلع شباب سورية ثياب "التربية العسكرية"، أو "الفتوّة" في التعبير الأكثر شيوعاً، وأن يعودوا إلى ارتداء أزياء موحّدة ذات ألوان أخرى غير الخاكي العسكري التاريخي، بل هي ألوان أكثر إنسانية وبساطة وجمالاً، تنزع عنهم (من حيث المظهر الخارجي في أقلّ تقدير) صفات "جنود" و"شبيبة" و"أشبال" الأسد. لقد احتاج هذا النظام إلى أكثر من 33 سنة لكي يدرك أنّ عسكرة المجتمع على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، والذي كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مولعاً بشخصيته ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)، يمكن أن تسفر عن أيّ ظواهر ونتائج... ما خلا عسكرة المجتمع فعلياً!
كذلك ليس بالأمر العابر أن نقرأ للسيد مهدي دخل الله، رئيس تحرير صحيفة "البعث" الناطقة باسم حزب البعث الحاكم رسمياً في دمشق، وهو يكيل الشتائم للمنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس ("درّة" و"مفخرة" تفكير التيار اليساري في حزب البعث بجناحَيْه، كما يجمع الكثيرون، حيث يتردد على نطاق واسع أنّ المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ شارك في كتابتها)، وذلك بحجة أنّ "الدهر أكل عليها وشرب"! كذلك كان دخل الله حريصاً على التمييز بين "بعث سورية" و"بعث العراق"، فليس كلّ بعث بعثاً أيها السادة في واشنطن، لندن، وإلا ماذا نقول ــ حسب محاججة دخل الله العبقرية! ــ في... "حزب البعث الروسي"!
هذان التطوران، في المستوى التربوي ـ العسكري والمستوى الحزبي ـ العقائدي، يرتديان أهمية خاصة في ما تشهده دمشق اليوم من تفاعلات داخلية وخارجية، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق واشتداد الضغوط التي تمارسها واشنطن على النظام الحاكم. بيد أن جذور الظاهرة ليست حديثة العهد، لأنها إنما تعود إلى عقود خلت، وليس إلى بضع سنوات فقط. ونتذكّر اليوم أنّ حافظ الأسد، وبعد أشهر قليلة من استلامه السلطة في تشرين الأول (أكتوبر) 1970، دشّن سلسلة سياسات "تصحيحية" (ومنها استمدّ تسمية "الحركة التصحيحية" في وصف انقلابه العسكري على رفاقه، من أمثال صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين)، استهدفت تدعيم أركان حكمه ليس على نحو وقائي مرحلي كما خُيّل للبعض آنذاك، بل على نحو منهجي طويل أخذنا نلمس آثاره سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد. بعض تلك التصحيحات شمل إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتبديل بُنية الجيش السوري القيادية وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الصراع)، وبعضها الآخر شمل الحياة السياسية والتربوية، وموقع حزب البعث في المجتمع.
وحين اختتم حزب البعث الحاكم مؤتمره القطري التاسع، في حزيران (يونيو) من العام 2000، كان في الواقع يختتم فصلاً إضافياً في كتاب "الحركة التصحيحية"، وليس أيّ فصل جديد في كتاب الوريث الرئاسي بشار الأسد، الذي كان يعدّ أيّامه الأولى في الحكم. وكان ذلك المؤتمر أشبه بترجيع مكرور لصدى المؤتمرات الحزبية السابقة التي عُقدت في عهد الأسد الأب: تصفيق وتهليل وعبادة فرد، وتقارير زائفة عن الأوضاع التنظيمية والسياسية والإقتصادية، وإعلان العزم على الإصلاح والتجديد وتقديم الدماء الشابة، ثمّ انتخاب قيادة جديدة ذات دماء شابة بالفعل، ولكنها ذات عقول مكبلة طائعة مطيعة، وأيدٍ مغلولة إلى الأعناق، وحناجر لا تتقن سوى الهتاف بحياة القائد: القديم/ الجديد.
والحقّ أنّ أبرز تصحيحات حافظ الأسد السياسة كانت مقاربته الجديدة لمفهوم وطبيعة ودور حزب البعث الحاكم. ذلك لأنّ هذا الحزب لم يكن جماهيرياً في أيّ يوم، ليس بمعنى افتقاره إلى التأييد الشعبي فحسب، بل بمعني بُنيته النخبوية ونظامه الداخلي الذي يجعل التنسيب والإنتساب عملية معقدة أقرب إلى اختبار السَحَرة. وفي أيّام المجموعة القومية ــ ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ ــ كما في أيّام المجموعة القطرية ــ مجموعة حركة 23 شباط (فبراير) 1966 وأنصار صلاح جديد بصفة خاصة ــ ساد اليقين بأن التنسيب الواسع للأعضاء الجدد سوف يؤذي جسم الحزب ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبه الطبقي. ولهذا كان التركيز شديداً على ما عُرف آنذاك بـ "المنبت الطبقي" للمرشح، وجرى تفضيل أبناء الطبقات الكادحة على أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.
تصحيح الأسد تمثّل في فتح باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد أيّاً كان منبتهم الطبقي، بل وجعل الإنتساب إلى الحزب أمراً شبه إلزامي ولا غنى عنه من أجل ضمان دخول المعاهد والجامعات، وضمان الحصول على الوظيفة. وكان الغرض الضمني هو بالضبط ما سعى القوميون والقطريون إلى تفاديه: نقل الخطّ السياسي إلى اليمين ما أمكن، وتمييع التركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب إلى مؤسسة انتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط أعضاء الحزب في تعامل مباشر أو غير مباشر مع الأجهزة الأمنية، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية واجباً تنظيمياً، فدانوا بالطاعة إلى رئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمين فرع الحزب.
التصحيح الثاني المتمّم لهذا التصحيح الحزبي تمثّل في تضخيم دور ما يُسمّي بـ "المنظمات الشعبية"، ومنحها ميزانيات وصلاحيات وإطارات عمل كفيلة بضمان استقلالها عن الحزب الحاكم من جهة، وسهولة خضوعها تالياً لتوجيه الأجهزة الأمنية والعسكرية من جهة ثانية. وهذه المنظمات كانت تعمل في قطاع العمال والفلاحين والحرفيين والمعلمين والطلبة والشبيبة والرياضة، إلى جانب الإتحادات المهنية التي تضمّ المحامين والأطباء والمهندسين والأدباء والفنانين. وكان من الطبيعي تماماً أن تشرف الأجهزة الأمنية على انتخابات هذه المنظمات، وأن يكون التقييم الأمني هو المعيار الأساسي في اختيار المرشحين لقيادة العمل.
ولقد تمّت عمليات عسكرة مباشرة لبعض هذه المنظمات، كما جرى في مطلع الثمانينيات حين تولّى رفعت الأسد ومفارز سرايا الدفاع تدريب الشبيبة على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للإنتساب إلى كليات الطبّ والهندسة (وذات يوم نشر فنان الكاريكاتور السوري علي فرزات رسماً لطالبة تهبط بالمظلة من السماء إلى كلية الطبّ!). كذلك تمّت عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء التدريب العسكري المستمر، والخضوع لمعسكرات صيفية.
التصحيح الثالث كان الأكثر ذكاء ربما، وتمثّل في استحداث منظمة شعبية جديدة باسم "طلائع البعث"، تشرف على التربية السياسية للأطفال في سنّ 6 ـ 11 سنة. ولأنّ الإنتساب إلى هذه المنظمة كان إجبارياً وجزءاً لا يتجزأ من منهاج التعليم في المرحلة الإبتدائية، فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة الكليشيه: "بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ"! وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون مبدأ عبادة الفرد في لاوعيهم الجنينيّ وكأنه مبدأ وطني وتربوي طبيعي تماماً، ويتشرّبون مبدأ قيادة الأسد بوصفه الأب القائد والوحيد القادر على حكم الأهل والمجتمع والوطن.
ولأنّ 49% من سكان سورية كانوا فتياناً أقلّ من 15 سنة، فإنّ منظمة طلائع البعث لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد وحزب واحد ومنظمة واحدة وسياسة واحدة، وزرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية والولاء الأعمي للقائد، وجهدت لكي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكّر يحول بينهم وبين التقاط مرض السياسة حين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى في الدراسة والعمر والوعي. وبهذا المعنى يمكن فهم النظرية التي تقول إنّ شرائح عديدة شابة في المجتمع السوري أصيبت بصدمة حقيقية حين رحل الأسد، لا لشيء إلا لأنها لم تعرف رئيساً سواه، ولم تمتلك فرصة النشوء علي أيّة سياسة أخرى سوي سياسته.
هذه التصحيحات ساهمت في توطيد ثقافة الطاعة وتشكيل شبكات الولاء الفردي. وهكذا أخذت قوّة الحزب الحاكم والمنظمات الشعبية تعتمد على مقدار ما تستطيع تأمينه من منافع ومزايا للأعضاء ـ الزبائن. وحين يهتزّ المعيار بين الولاء والفائدة، فإنّ العضو ـ الزبون سيختار واحداً من اثنين: إمّا البقاء في المنظمة مع فقدان الثقة بها، أو الإنصراف عنها إلى ولاء آخر يستجيب لنزوعات أخرى. وفي أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، حين أخذت ممارسات السلطة التمييزية ترتدي طابعاً صريحاً ــ طائفياً وعشائرياً ومناطقياً ــ اكتشفت السلطة أنّ أعداداً كبيرة من المشاركين في تظاهرات الإحتجاج الشعبي في حماة واللاذقية وحلب ودير الزور كانوا أعضاء في منظمة "اتحاد شبيبة الثورة". كذلك اكتشفت أنّ الكثير من مقاتلي "الإخوان المسلمين" كانوا أعضاء في اتحاد الطلبة أو حزب البعث الحاكم.
وهكذا فإنّ ما يُسمّى بـ "جيل الأسد" لم يكن محصّناً تماماً ضدّ هذا النوع من الشروخات التربوية ـ السياسية ، خصوصاً في المنعطفات الحاسمة (مثل التدخل العسكري السوري في لبنان، الإنفراد عن الصفّ العربي في تأييد إيران ضدّ العراق، ارتكاب مجزرة حماة سنة 1982، المشاركة في "عاصفة الصحراء"، وما إلى ذلك)، حيث كانت بعض الشرائح في هذا الجيل تغرّد خارج السرب. وفي عقد الثمانينيات كانت الأوضاع الإقتصادية والمعاشية المتردية قد مارست أقسى الضغوط على أبناء هذا الجيل، إذ كان المواطن السوري يضطرّ إلى الوقوف في الطابور ساعات معدودة من أجل الحصول على علبة واحدة من المناديل الصحية (الكلينكس)، أو علبة واحدة من السمن النباتي الرديء، أو كيلوغرام واحد من البطاطا أو البندورة أو الخيار. وكان عضو الحزب أو المنظمة الشعبية جزءاً من هذا الشعب الذي يعاني، وكان في الآن ذاته مُطَالباً بالدفاع عن النظام على نحو ببغائي بليد.
وفي غياب الحياة الحزبية والتنظيمية الفعلية، واستمرار وضع الأجهزة الأمنية قبل المجتمع وفوق المواطنين، لكي لا نتحدث عن غياب الحريات الأساسية وقمع المعارضة أياً كانت، كان جيل الأسد يتراخى أكثر فأكثر، ويغرق في ثلاثة أنواع من الحداثة : حداثة الدولة التي تنطلق من أفكار جوفاء حول "التقدّم" و"التنمية" و"التطوير التكنولوجي"؛ وحداثة الإستهلاك التي تنطلق من الصرعات الأوروبية والطراز البوهيمي في العيش؛ وحداثة المزج الشائه بين فكرة التقدّم والإستهلاك، الإنتماء إلى المجتمع والإنعزال عنه في آن معاً.
مشكلة هذه الحداثات الثلاث أنها كانت ترتطم دائماً بآلة القمع، وبالمركزة الشديدة للسلطات، وبالهوّة الشاسعة بين النظام والمجتمع. في عبارة أخرى، كان جيل الأسد ينتمي إلى سياسة الأسد بالمعنى السطحي ـ القسري فقط، وليس بمعنى الإشتراك الديناميكي المباشر الذي يمكن الإعتداد به عند الملمات أو الأزمات. إنه جيل أشبه بالقطيع الهائم على غير هدى تارة، وأشبه بالحمَل الذي قد يضلّ الدرب في أي منعطف تارة أخرى. وهو، استطراداً، ليس الجيل القادر على حمل "أمانة القائد الجديد" في مواجهة المصاعب والأنواء والخطوب، لأنّ تربيته لم تنهض في الأساس على حسّ الإلتزام والطواعية بقدر ما نهضت على الإلزام والقسر.
والحال أنّ تبييض الصفحة مع واشنطن لا يبدأ من المدرسة والفرقة الحزبية، وثقات النظام خير مَن يدرك هذه الحقيقة. وبهذا المعنى فإنّ خلع شبيبة سورية اللون الخاكي واستبداله بألوان زهرية وسماوية ورمادية لن يغيّر صورة النظام العسكرتارية ـ الأمنية ـ الاستبدادية، وكذلك لن يصبح حزب البعث الحاكم حليفاً للحزب الجمهوري الأمريكي لمجرّد أنّ السيد مهدي دخل الله أوسع المنطلقات النظرية سباً وشتماً!

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف مهدت والدة نيكو ويليامز طريقه للنجاح؟


.. لبنانيون محتجزون في قبرص بعد رحلة خطيرة عبر قوارب -الموت-




.. ستارمر: -التغيير يبدأ الآن-.. فأي تغيير سيطال السياسة الخارج


.. أوربان في موسكو.. مهمة شخصية أم أوروبية؟ • فرانس 24




.. ماهو مصير هدنة غزة بعد تعديلات حماس على الصفقة؟ | #الظهيرة