الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة واللغو

نادر قريط

2007 / 1 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


تنبه المستعرب الألماني شتاينباخ الى الجذر الثلاثي العربي "حكم" وبيّن أن ايتمولوجيا هذا الفعل (اشتقاقه)، يصلنا بمعاني القضاء والعدل والقسط ومنه تحدرت "حكمه" و"حكيم"، أما حكم بمعنى استأثر بالسلطة، أو تجبر، ومنه "حكومة"، فهو تحوّل من المعنى الى ظلاله، ومن الجوهر الى تخومه.

أعترف أن هذه الالتفاتة النبيهة، قد أثارتني بعض الشيء، رغم أني لست فقيها لغوّيا، ولست بصدد كتابة رسالة، تهيم غراما باللغة العربية، وتكشف جوانبها العبقرية، فلاشك أنها لغة فذة وأهم ما أثارني فيها، قدرتها الهائلة على الاختصار، عبر استخدامها لتقنية الضمائر المنفصلة، والمتصلة، والغائبة.... فلا توجد لغة على البسيطة (حسب علمي) تستطيع أن تكثف جملة كاملة، بأحرف قليلة، كضربته، التي تجمع الفعل والفاعل والمفعول....... وكي لا يعتب علي البعض، لاستخدامي فعل ضرب الذي يحرض على القسوة، والعنف والإرهاب!!! أقول "سامحوني" فهي جملة كاملة تضمّ أيضا الفعل والفاعل والمفعول!!

وبعيدا عن الإطراء وتملق اللغة، وعودة الى مقولة شتاينباخ الآنفة الذكر، فالحقيقة أن اللغة العربية، لم تكن لغة المقدس وحسب، وكل كلمة فيها تصل إلى الله (كما يقول جاك بيرك)، الأهم أنها الفن الوحيد تقريبا الذي أتقنه العرب (سيما وأنهم قد ازدروا كل الفنون الأخرى كالنحت، والرسم، والموسيقى والمسرح)، فمع ازدهار الدولة العباسية، ازدهرت صناعة اللغة (البيان، والبلاغة، والعروض والشعر والخطابة والمقامات....) وأصبحت بالتالي، لغة الثقافة الكتابية والدواوين، وموطن الوعي والهوية والوجدان، لكن الأمر البالغ الخطورة، الذي أغفله فقهاء اللغة، هو أن الفصحى كلغة راقية احتجبت دائما في أطر كتابة سلطانية وفقهية ضيقة، في حين اقتصر الناس على تداول اللهجات التي لا تزال محكية حتى يومنا هذا، وإذا أخذنا بالحسبان، أن اللغة وعاء للفكر، وآلية يستحيل التفكير بدونها، نعرف أن الانتقال من العامية إلى الفصحى هو انتقال ماهوي، في نمطية التفكير، وتنازل عن العفوية والتلقائية، والأحاسيس الحية لصالح لغة راقية قادرة على مكيّجة الواقع أو طمسه وحجبه.. فمن الأمور الشاقة مثلا إلقاء نكتة بالفصحى؟؟ لقد أصاب الألماني غونتر لولينغ، عندما اكتشف فقر تراثنا بالآداب الشعبية (باستثناء ألف ليلة وليلة، وهي من التراث الهندي الفارسي) فالتحاء الفصحى، وارتدائها للعمامة قد احدث تحوّلا بنيويا في وظيفتها، من آلية للفكر والمعرفة، إلى آلية للتمويه والفذلكة والفهلوة، عبر استخدامها تقنيات التورية، والمجاز، والمحسنات اللفظية.. لقد أصبحت مباني الكلام، تنوب المباني الحقيقية لحركة التاريخ والمجتمعات أو تكاد تلغيها، مما سبب ما يمكن تسميته "غيبوبة تاريخية"؟ فكلمة: وامعتصماه مثلا ألغت الشروط التاريخية لمعركة المعتصم، وأصبح مجرد السؤال عن القائد البيزنطي الذي هزم في تلك المعركة أمرا تافها لا قيمة له. وكذلك فإن جملا من شاكلة: خلعت صاحبي، أو قميصا ألبسنيه وغيرها من النصوص التقديسية... أصبحت تحول دون المعرفة التاريخية، عبر حشر الواقع المادي في فضاء لغوي وشعري ضبابي (تقنيات التبرير والطمس)..

إن المستعرب المذكور أراد أن يذكرنا بأن "الحكم" فقد جوهره العدلي، القضائي ليصبح تعبيرا عن الاستئثار بالسلطة، والملك العضود. والأمر لم يتوقف عند ذلك بل تجاوزه إلى كافة أقانيم الحياة، فالعقيدة الدينية مثلا: تحولت تاريخيا من كونها تساؤلات وجودية، وعلاقة قدسية ذاتية مع اللامتناهي إلى طقوس لغوية، وتمويه للسلطة، المتنعمة بالطيبات، ووثيقة تعيين وظيفي لطبقة "الإكليروس" التي تأكل خبزها (خمس أجدادها) بعرق غيرها.

وبعيدا عن العموميات (والتعمية)، لابد من الإعتراف أن موروثنا قد خلع على اللغة رداءا من القدسية، وأتخمها بالكثير من المدوّنات الإجترارية، الفارغة... فاذا استثنينا عبقرية الجاحظ وأبي حيّان وبصيرة المعري وروح المتنبي الخالدة وعقل الرازي وابن رشد وابن طفيل وابن خلدون، أقول اذا استثنيا أمثال هذه العقول الحادة، نكون أمام تاريخ مصاب بتخمة لغوية، فماذا يمكننا أن نقول عن "تاريخ دمشق" الذي دوّنه ابن عساكر في 84 مجلد!!
ان هذه التخمة اللغوية، كانت وسيلة للحظوة والسلطة، وهي التي دفعت ما يسمى بالعلماء، أن يدوّنوا تحت مصابيح، دون أن يتساءلوا قط لماذا تنطفئ، إذا حبس الهواء عنها (حتى اكتشف لافوازييه الأوكسجين).. وعلى نهس المنوال، ما نزال نستخدم نفس تقنيات التورية والتمويه والمراوغة، والقفز من المعنى، الى شتات المعنى.... فالإشتراكية والعدالة والدستور والجمهورية والحرية هي ألفاظ تجميلية، لاحتكار السلطة والثروة من قبل بعض الأسر أو القبائل، وتوريثها الى أن يرث الله الأرض وما عليها. والإشتراكية، كلمة نابت عن الفساد والرشوة، ونهب قوت الناس، حتى أصبحت دولنا أشبه بمغارات لصوص، يلتهم فيها الأفاقون والحوّاسون، غنائم الوطن وخيراته، وكذلك الأمر مع مفردة الأمن (عام، مركزي، دولة) التي ابتعدت عن الأمن والأمان لتصبح أداة لترويع الناس،..وكذلك الحال مع الأمر بالمعروف (المتعارف عليه) والذي أصبح رديف التمسك بجاهلية القرون، ومن المضحك المبكي أن تصبح الديمقراطية آخر الضحايا اللغوية، فحيث أنها آلية لحكم الشعب، وصورة لعقد اجتماعي علماني، استطاع أن يطرد المقدس من التاريخ، وأن ينزل المرجعيات من السماء الى صناديق الإقتراع، ليحتكم الناس، بارادتهم الحرة، وبما أنها نظام فصل السلطات، والحريات الفردية وحرية الإعتقاد... إلا أنها سرعان ما تحولت عندنا الى مسوح للطائفية، واحصاء سكاني للملل والنحل، وصكوك غفران توزعها مرجعيات قروسطية...

إن الواقع الراهن يدعونا لضبط ألفاظنا وتعريف المصطلحات التي نتداولها، فنظام الحكم في بلادنا ليس نظاما وليس حكما، والسياسة ليست أكثر من ممارسة لغرائز غير مؤنسنة... أخيرا، وبعيد عزل السلطان عبدالحميد، والإحتفال بدستور 1908 إستغرب أحد الأوروبيين، من هذا الكرنفال ومن الذين هتفوا للدستور!! فالقضية أكثر من نصوص يكتبها (الأصح يترجمها) بعض القانونيين الدارسين في الغرب!! إنه المبادئ العامة للعقد الإجتماعي، والقواعد التي يخطها الجمهور بأظافره ويخضبها بدمائه وعرقه ودموعه..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الأمريكي يعلن إسقاط صاروخين باليستيين من اليمن استهدفا


.. وفا: قصف إسرائيلي مكثف على رفح ودير البلح ومخيم البريج والنص




.. حزب الله يقول إنه استهدف ثكنة إسرائيلية في الجولان بمسيرات


.. الحوثيون يعلنون تنفيذ 6 عمليات بالمسيرات والصواريخ والقوات ا




.. أمر أميري بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصباح ولياً