الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- على حافة الرحيل - قصة قصيرة -

ايناس البدران

2007 / 1 / 20
الادب والفن


(يا الهي اغفر لي اخطائي الصغيرة بحقك، فقد غفرت لهم اخطاءهم الكبيرة بحقي . )
الوقت يدنو من الغروب ، والسماء تنذر بعاصفة خريفية حين اقبل عليها رجل اربعيني وسألها بأدب الجلوس على المصطبة المتهالكة . ردت بأقتضاب :
- تفضل . ثم انكمشت لاشعوريا كأنما لتفسح له مجالا قربها بعدها عاودت أناملها حركتها الآلية في حياكة بلوزة رجالية زرقاء بلون البحر الذي تحبه اكثر من اي شيء ، كانت النظرة الاولى كافية لطبع هيئة الرجل في ذاكرتها ، ولتكوين انطباع جيد عنه ، وهمست في سرها :
-انه وسيم بلا شك .. وسيم ودمث الخلق .
الاقدام تندفع امامها ما بين غدو ورواح .. لتعفر وجه الارصفة ، متعبة احيانا متعجلة اخرى كأسراب طيور حائمة لا تلوي على شيء .
تدريجيا اختبأت الشمس خلف كثبان كامدة من غيوم واشتد وقع الريح فأرتعشت داخل ثيابها الكئيبة كورقة صفراء .. لاح لها وجه قطتها فتساءلت مع نفسها عمن سيطعمها بعد ان غادرت غرفتها المستأجرة الى غير رجعة ، وعمن سيسقي اصص نباتاتها الظلية التي انفقت عليها الكثير من الجهد والمال .
رمقها الرجل الاربعيني بنظرة ودود اعادت الصفاء لعينيها ، وسألها وهو يشير الى صحيفة يومية مطوية :
- هل استطيع ؟ ردت دون تفكير :
- تفضل .. خجلت من اخباره انها وجدتها محشورة بين الواح المصطبة المتهالكة . قلب الرجل الصحيفة ثم وهو يعيد طيها تمتم بلا اهتمام :
- هذه صحيفة البارحة .. استشعرت حرجا وهي ترد :
- آه .. اجل .
كانت ترقب شمسها الاخيرة في تلك المدينة الباردة اللامبالية تتابع الغيوم الرمادية في انكفاءاتها وهي تعيد تشكيلاتها بطريقة فجة حين استحالت الريح مقشة هائلة ترفع الاتربة والاوراق الحائلة لتلقي بها في وجوه المارة .
الوجوه بدت لها باهتة بلا ملامح متشابهة الى حد يدعو الى الدهشة !
تتفوه كلها بذات العبارات الرخيصة المنمق منها والبذيء .. وتتناقل الرحيل فايروسا في صمت مريب .
بهتت المرئيات من حولها ، بات كل شيء يكرر نفسه على نحو ما بلا هدف بلا لون كل شيء .. عدا وجه الرجل الاربعيني الجالس الى جانبها . بعدها بدأت السماء تنث ابرا كالثلج تخترق ثيابها الصوفية لتنغرز في اللحم .. وضعت خيوط التريكو جانبا لتفتح مظلة سوداء اكتشفت لسوء الحظ انها ملأى بالشقوق .
اقترب طفل رث الثياب ، رمقها بعينين بريئتين وهو يرتجف من البرد .. دعته للجلوس الى جانبها وحاولت بمظلتها درء حبات المطر عنه .
اللوحة اكتملت لعائلة صغيرة من رجل اربعيني دمث وامرأة في منتصف العمر على شيء من الجاذبية وطفل .. يد الحنين تهزها الى شيء افتقدته طويلا ، احساس يحمل معاني دافئة متباينة تنبعث من رحم ماض عذب . كان ذلك قبل ان تدهمها الازمات على نحو مفاجيء ، قبل اختفاء الوجه الحبيب الملاحق في غياهب مظلمة اسلمته الى نوبات ضياع وغضب هستيري ، ثم النقل الى المجهول الذي خيرت بينه وبين الطرد من وظيفتها .
شعرت في تلك الايام ان انهار صبرها تتصحر ، وهي قابعة في زنازين الانتظار ، ترقب فراديس لاتطال ، تتهجأ ما بين السطور من شفرات ، شفرات تتوهج قليلا لتحرقها المسافة العالقة ما بين ارض وسماء .
الصور تتداخل فوق بعضها على شاشة الذاكرة ليظل وجه الرجل الاربعيني الذي لبس على حين غرة وجه الحبيب بشكل يدعو الى البكاء . يوم دعاها لتعيش لحظة صدق شفيفة ، صدق الفراشات وهي تمارس طقسها الأزلي ما بين نور ونار .
مازال الوجه يعدو صهيلا في دمها ، يحملها اليه مد آت من اعماق الروح لتعود اصفى من غموض البحر ! البحر الذي عشقت انفاسه تحتويها ، وهو يشرب صمته ظمأ لايرتوي كلما حلقت موجاته كأجنحة نسر لتهبط وجدا عند اعتاب الرمال الدافئة ، مثيرة رغوة من زبد ورذاذا مفضض .
واليوم تحاول ان تنسى عمرا انغرز حصاه في وحل واقع مرير .. ووجوها احترفت الكذب الجميل الذي ينطلي ولا ينطلي .. ان تحصي عدد الذين احبوها بصدق دون ان تخطيء في عد .. الاصفار.
يوم صارحها في سورة غضب ، انه لايستحقها ، وانه لايصلح للزواج !
لم تكن حينها تعلم انه هناك من يصلح ولايصلح ، تنهدت بعمق ، لحسن الحظ انه لم يكن كريما جدا معها والا لضاعت تماما .
انكمشت قرب حقيبتها الكبيرة تودع بعينين غلفهما حزن شفيف حياة مضت ، بأنتظار قطار يحملها الى بداية لاتحفل بالنهايات . اجل في تلك الايام شعرت انها تموت على نحو ما ، كانت محاولاتها الاخيرة كحقن جسد محتضر بالكافور ، اذ يجلس احدهما حذو الآخر لساعات لايجد ما يقوله .
كابدت بعدها طويلا لأنتزاع مخدر ادمانه من دمها ، وفي يوم انتهى الالم ولم تعد تشعر بشيء .
تمنت لو كان وجهه آخر شيء تراه ، لو تحتضن لحظة جمعتهما في حدقات العيون حتى آخر العمر ، الوجه الحبيب يرمقها يغمرها طمأنينية يحتضن الطفل ، يربت على كتفه ، لا تدري لماذا شعرت حينها انها تسامح الدنيا بأسرها ، تسامح ابوابا اوصدت دونها بأشد ما يكون قسوة .. تغفر لوجوه سرقتها منها ، اختلست حبات السكر من ثمالة ايامها وتسامح زمنا احال خصلات من شعرها الفاحم رمادا ، جعلها تستبدل الاشراقة الرائقة بحفنة تجاعيد .
اجل بأمكانها ان تتغاضى عن دوي يصم الآذان ما بين انفجار وآخر .. وتغض الطرف عن اطلال حلت محل مدينة كانت حاضرة يوما .. عن كثبان مقفرة تنكرت بزي المقبرة .. عن نيران التمست دفأها مرتجفة الاوصال فكانت عليها بردا بلا سلام .. عن جدران احتمت بها فمالت وهوت عليها .. ان تغفر لقديسين بشروا بتعاليم استحال تطبيقها في عالم لايتسم بالكمال .. عن احلام تساقطت ما بين حلم وحلم مع اجنحة العصافير في وضح نهار كالليل .
اغمضت جفنيها تحتضن بهما دمعا انثال رغما عنها ، وفي لمحة بصر كان الطفل قد اختفى ، والرجل انسل بهدوء بعد ان سلم عليها بأدب ليبتلعه الزحام ، أما هي فبقيت على حافة الرحيل تحيك خيوطا زرقاء بأنتظار عودتهما .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي