الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المخبول : قصّة قصيرة

عبد الرزاق السويراوي

2007 / 1 / 24
الادب والفن



ذروة الزحام في السوق تخفّ عادة عندما يشارف وقت الظهيرة, مما يعني أنّه سيكون الآن كعادته جالساً في المقهى التي تجاور دكانه تماماً , وهي مقهى ليست بالكبيرة ولكنها تقع عند أوّل المدخل الغربي للسوق.ألصق ظهره المكتنز, بالمسند الخشبي للأريكة التي تصدر أزيزاً واضحا كلما تململ في جلسته أو حرّك عجيزته التي حشرها داخل سروال عريض أسود , فبان أسفل جسده أكثر إمتلاءًا ممّا هو عليه . وكان يمعن النظر في الباحة المستطيلة للسوق , وكذلك بالمارة على قلتّهم , ولم يغفل بالتأكيد عن مراقبة دكانه الملاصق للمقهى , لذا فقد كان يرسل بين لحظة وأخرى , رشقة من نظراته نحو الدكان, لتصطدم بكتل أفخاذ اللحم الحمراء المعلقة على واجهة الدكان الذي طُليت جدرانه بدهان حليبي لمّاع , وقد زاد من لمعانه سقوط الضوء المنبعث من المصباح الكبير المتوهج , وكانت ثمة في السقف مروحة بدت ناعسة في دورانها البطيء فبانت شبه عاجزة عن طرد الذباب المنتشر بكثافة في فضاء الدكان , وعلى الجدران أيضا . إحدى النساء توقفتْ للتو , أمام الدكان , وكان واضحا من خلال تلفّتها , الى أنها تبحث عن القصاب صاحب الدكان , الذي تنبّه لها , فقام بتثاقل وأتجه نحوها , وبعد قليل , عاد ثانية الى مجلسه في المقهى , ولكن بعدما إنصرفت المرأة عنه . المقهى تعجّ بالجلساء وقد أنشغل البعض منهم بالحديث , فيما همّ البعض الآخر بالمغادرة , وقد كان من بينهم , على ما يبدو, مِنْ أصحاب الدكاكين , حيث باشر البعض منهم بغلق دكانه هرباً , أو ربما تجنبا , من حرّ الظهيرة اللاهب , أمّا هو , فكان كالعادة يحبّذ البقاء في السوق بالرغم من إشتداد حرارة الجو عند الظهيرة , وكان إذْ يبقى في دكانه , فأنه يغطّ أحيانا في إغفاءة قصيرة , كان يصفها بأنها تكسر جبروت سلطان النعاس حتى وإنْ كانت لوهلة خاطفة , لكنه في الغالب كان يقضي وقت الظهيرة في المقهى , تماما كما هو الآن يجلس , وقد شرد بذهنه نحو اللاشيء, غير أنّ شروده لم يدم طويلا , إذْ إنتشله من شروده , دخول شاب في باحة السوق وهو يهرول دونما توقف , وهاهو ينعطف يمينا وبموازاة إمتداد الدكاكين داخل السوق , وبعد أنْ أنهى الضلع الأول والثاني من مستطيل الدكاكين , واصل الهرولة لينعطف يسارا ثم ليستكمل دورة كاملة في هرولته حول الدكاكين المحيطة بباحة السوق المستطيلة . كان حليق الشعر , وقد بانت جلدة رأسه ملتمعة وهي تعكس ترشح العرق المتصبب منها , وقد إرتدى حذاءا رياضيا بدا فيه أكثر مرونة في الهرولة , حالة الذهول بدت واضحة على القصاب وهو يتابع بنظراته ذلك الشاب , لكن الذي شدّ إنتباهه أكثر , هي اليد اليمنى للشاب , فقد لاحظ فيه وهو يهرول أنّها كانت مسبلة مع إمتداد جذعه , فبدت دون حراك وكأنها ملتصقة بردفه الأيمن , لكن أصابع كفّه كانت تتحرك على التناوب , مبتدأة بالأبهام وكأنها تتحرك بأيعاز من جهاز آلي . ثم أستمر بالهرولة لدورة أخرى حول باحة السوق , لكنه تعثّر عند كومة صغيرة من النفايات , وكاد يسقط على وجهه لولا تمكّنه بحركة لا تخلو من براعة , من أنْ يستعيد توازنه ليستمر في الهرولة ثم ليقترب من المقهى ويدخلها , وما أن وصل قريبا من الجدار الخلفي داخل المقهى, حتى قفل راجعا من حيث دخل , فلامس قدمي رجل كان يجلس قريبا من واجهة المقهى , وها هو يصبح خارج المقهى تماما , لكنه سرعان ما إرتد اليها ثانية ليرمي بجسده متهالكا فوق الأريكة المقابلة للقصاب , بدا الإعياء عليه واضحا , وكان صدره يعلو ويهبط كمنفاخ حداد . تسمرت نظرات القصاب ثانية على كفه اليمنى وهي تحرك أصابعها على التوالي , لكنه أومأ الى عامل المقهى , فجلب للشاب ماءا وشايا وضعهما قبالته على طاولة صغيرة , فعبّ قدح الماء دفعة واحدة ثم بدأ يرتشف الشاي ولكن على مهل , بينما حدة لهاثه أخذت تخفت شيئا فشيئا . كان القصاب يرقب كلّ ما يقوم به الشاب وقد وجد نفسه منشدّا وبإلحاح لفكرة إستحوذت على تفكيره (... ليتني كنت أعرف ما يعتمل في ذهن هذا المخبول , لو كنت قادرا على الغوص في خلايا دماغه , إذن لإطلعت بالتأكيد على كل خفاياه أو على الأقل لوقفت على أسباب هرولته هذه , ولكن أنّى لي الوصول الى دماغ هذا المخبول ) . ورغم أنه أقنع نفسه بصعوبة الفكرة , لكنه أستسلم ثانية لدغدغة هاجس آخر كان يعلم بإستحالة تحقيقه أيضا ومع ذلك فقد إستساغه تماشيا مع أوهام نفسه ( إذا كنت مصرا على معرفة ما يدور في ذهن هذا الشاب , فليس امامك من طريقة إلاّ ... إلاّ ماذا ؟ ... إلاّ أنْ تتمكن من قطع رأسه لتضعه بطريقة ما , أو وفق أيّة كيفية مناسبة الى جانب رأسك أو .... ولكن كيف سيتم هذا الأمر ؟ هل جننت ؟ ثم هل تحسب أن رأس هذا الشاب هو قطعة غيار يمكن رفعها من مكان وتركيبها في مكان آخر وفقا للمزاج ؟ إنها فكرة لا تقل سفاهة عمّا يحمله هذا المخبول ؟ ) .
كان الشاب بعدما إرتشف شايه على مهل , إخذ يتفحص الوجوه القريبة منه , لتتسمّر نظراته أخيرا نحو جسد القصاب بسرواله الأسود العريض وبسكينته التي دسّها تحت حزامه الجلدي . همس لنفسه ونظراته ما زالت مصوبة باتجاه السكين ( أن هذا الرجل مخبول حتما , مخبول ليس إلاّ , وإنْ لم يكن مخبولا , فما الذي يدفعه الى حمل سكين بهذا الشكل السافر وأمام الناس جميعا ) . ثمّ نهض وانتصب واقفا , لينطلق مهرولا باتجاه بوابة السوق التي دخل منها , لتقذف به خارج السوق . فيما ظلّ القصاب يرقب ذلك بإندهاش وحيرة , غير أنه بدأ يشعر بالنعاس يداهمه بإلحاح وبقوة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا