الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التصورات الطائفية تدمر الدولة السورية
راتب شعبو
2025 / 5 / 10مواضيع وابحاث سياسية

التصورات التي نرى من خلالها حدث ما، تحكم مواقفنا وتحدد سلوكنا تجاهه. وللتصورات قدرة على مقاومة الواقع وإرغامه على التوافق معها عبر آليات نفسية أكثر منها عقلية، مثل انتقاء الوقائع وزيادة أو إنقاص وزن الحقائق بما يناسب التصور ... الخ. على سبيل المثال، التصور بأن الكوارث التي أصابت المسلمين السنة في سوريا منذ انطلاق الثورة في 2011، هي استهداف تمييزي ضد السنة، من قبل نظام سياسي طائفي يقلب الموازين، بطريقة تضرب على العصب، فيضع أبناء الأقلية العلوية في موقع مميز في الدولة، وتسانده الأقليات التي لم تعترض، كما يجب، على السياسة الإجرامية الاستباحية التي مارسها نظام الأسد ضد جمهور الثورة السورية الذي كان في غالبيته الغالبة من السنة، في حين لم يلحق بالأقليات القدر نفسه من الأذى الذي لحق بهؤلاء، نقول إن هذا التصور يجعل من يحمله من المسلمين السنة (نستثني الكرد لأن لهم قضية قومية مستقلة عن الانتماء الديني فلا يتطور لديهم مثل هذا التصور) في موقف شديد العداء ضد الأقليات الدينية، وقد يجعله متساهلاً مع، أو ربما راغباً في، الاقتصاص منهم وصولاً إلى تقبل المجازر بحقهم، حتى لو كان هذا الشخص ذا ثقافة حديثة، وحتى لو كان ذا ميول ضد إسلامية في السياسة.
سيجعلك هذا التصور ترى أن هناك ظلماً كبيراً وقع على السنة في سوريا، فقط لأنهم سنة، على يد الأقليات ذات الامتياز، وسيدو هذا الظلم أكثر ثقلاً إذا ذهب التفكير بك إلى محاكمة تقول إن السنة ليسوا فقط مسلوبي الحق في حكم البلد الذي هم أكثريته السكانية، بل يتعرضون، فوق ذلك، إلى صنوف البطش على يد "أقليات متحالفة". مع تعثر الثورة في سوريا وارتفاع منسوب بطش نظام الأسد إلى حدود غير مسبوقة، تعزز حضور النظرة الطائفية في الإعلام وفي الوسطين الشعبي والعالِم المضاد للنظام السابق. والحق يحتاج المرء إلى قدر جيد من العقل النقدي للتغلب على الغريزة الهوياتية التي تجعله يستسلم لانطباعات سطحية سهلة.
وفوق ذلك، سيبدو الظلم رهيباً أكثر لدى الفئة التي تحمل تصوراً دينياً دنيوياً يرى إلى المسلمين على أنهم السادة الأجدر للعالم، فكيف يكونون إذن محكومين ومظلومين ومبطوش بهم في بلدهم. ويظهر ثقل هذه المفارقة الحادة في اللغة الإبادية الصريحة التي بات سماعها مألوفاً ويمر دون تبعات، اللغة التي تنظر إلى الصراع الجاري على أنه استمرار لصراع مذهبي، ولكنه مفتوح اليوم على إبادة لا محل فيه للهداية.
شيوع هذا التصور الطائفي هو باعتقادنا ما يفسر التأييد الذي تحظى به السلطة الجديدة في دمشق، وضعف الموقف الاحتجاجي منها مع غلبة النزوع التبريري من جانب غالبية المسلمين السنة، بصرف النظر عما تفعله أو لا تفعله هذه السلطة. هناك خشية واضحة لدى المسلمين السنة من سقوط السلطة الجديدة، تشبه خشية العلويين السابقة من سقوط نظام الأسد. وهذه الخشية، يضاف إليها وجود تصور خرافي عن قدرات غامضة يمتلكها العلويون وبقايا النظام، كانت في أصل التلبية الواسعة للنداء إلى النفير في السادس من مارس/آذار الماضي، بطريقة تشبه رد الفعل المناعي على فيروس سبق للجسم أن تلقى لقاحاً ضده، ولكن المستهدف في هذه الحالة ليس سوى الجسم نفسه، ذلك أن التصور الطائفي السائد لدى أهل السلطة وأنصارهم، يحرض في الجسم السوري مرضاً له نفس آليات ما يسمى في اللغة الطبية "أمراض المناعة الذاتية" التي تنهك المريض، حيث تقوم وسائل حماية الجسم بمهاجمة خلايا الجسم نفسه.
في كل حال، يسحق التصور الطائفي كل مقومات التصور الوطني، ويبقى ضيقاً على استيعاب دولة عمومية. حين سيطر التصور الطائفي عند المسيطرين على الدولة السورية من العلويين، برز لديهم الشعور بخصوصية الدولة الذي عبر نفسه في تعبير "نحن الدولة" في مواجهة الأخرين، وقد دفعت ممارسة هذا التصور من موقع قيادة الدولة إلى تحفيز عصبية طائفية علوية تتماهى مع الدولة وتتمسك بها حتى اللحظة الأخيرة رغم كل الموت والبؤس الذي أوصلتهم "دولتهم" إليه.
وبالمقابل دفعت طائفية نظام الأسد إلى تحفيز عصبية سنية مضادة، حين استقر في وعي عموم السنة أنهم في مرتبة أقل في بلدهم، عصبية لم تنفع معها محاولات نظام الأسد اختراق المتن السني وجذبه عن طريق الغزل الديني في بناء المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن وإنشاء قناة تلفزيونية دينية وقبيسيات وتقريب رموز دينية ... الخ، أو الغزل السياسي في المناصب الإدارية أو الاقتصادي في مجالات التجارة والصناعة، الأمر الذي انتهى إلى تحطيم الدولة عقب صراع مدمر أخرج من المجتمع السوري أسوأ نوازعه.
واليوم حين يسيطر التصور الطائفي على الممسكين بمقاليد الحكم في سوريا، ويسيطر لدى السنة شعور التماهي بالدولة كما كان حال العلويين من قبل، تتحول الدولة إلى دولة خاصة وتتحول الطوائف الأخرى إلى محميات وخواصر رخوة تكون الدولة ضعيفة بهم بقدر ضعف تماهيهم بها.
كان أنصار الأسد يعلنون إنهم يدافعون عن الدولة السورية، فيما يحمل العلويون منهم بوجه خاص، دافعاً أعمق هو صد الإسلاميين بوصفهم العدو المباشر لهم. هكذا كانت تتحول الدولة إلى أداة أو حتى ذريعة في صراع مذهبي. يتكرر الحال اليوم مع أنصار السلطة الجديدة، حين يبررون الممارسات العنيفة ضد الأقليات المذهبية بأنها حرص على بناء الدولة. في الحالتين يبرر المناصرون المجازر باسم الدولة. في الحالتين يدافعون عما يدمر الدولة باسم الحرص على الدولة، وهو حرص غير حقيقي، ويضمر نزعة طائفية ربما لا يدركها المناصر. من الطريف اليوم أن عناصر الفصائل التي تسيطر في الدولة، لا يتكلفون عناء تجميل دوافعهم الطائفية، ذلك لأنهم الأقوى على هذا الصعيد، على خلاف العلويين من قبل.
يبقى من الصعب أن يستقر الحال في سوريا على هذه الصورة، لأنه من الصعب أن تلعب العصبية السنية، الدور نفسه الذي لعبته العصبية العلوية في النظام السابق، فالسنة هم أغلبية المجتمع وبيئة التنوع السياسي فيه. فضلاً عن أن أسباب الخوف الأقلوي العلوي غير متوفرة عند الأكثرية السنية. صحيح أن مثل هذا الخوف محسوس اليوم لدى غالبية السنة، ولكنه غير قابل للاستمرار ليكون سنداً دائماً للنظام الذي يتشكل في دمشق.
على هذا سيكون استقرار النظام السياسي في سوريا مرهوناً بمدى ابتعاده عن النزوع الطائفي غير الوطني، أي بمدى قدرته على تحدي نفسه. هذا وحده ما يشكل أرضية لتماهي الجماعات السورية غير السنية، مع الدولة، وأيضاً لرضى الغالبية السنية نفسها واستقرار علاقتها بالدولة الجديدة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. اتصالات مكثفة بين سوريا ومسؤولين أوربيين عقب رفع العقوبات..

.. تعرف على خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب على قطاع غزة

.. الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن بواسطة منظو

.. خارج الصندوق | صراع داخل إسرائيل.. قادة ينفجرون غضبًا ضد نتن

.. بسبب غزة.. أوروبا تعاقب إسرائيل تجاريًا
