الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة إلى حكومات الوحدة الوطنية: العراق – لبنان – فلسطين نموذجا

سعيد مبشور

2007 / 1 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


دخلت العديد من البلدان العربية، ومنذ مدة ليست باليسيرة، في جدال محتدم حول ضرورة تشكيل حكومات وحدة وطنية، وهو ما يعد مؤشرا واضحا على غياب الوفاق الداخلي أو هشاشته في كثير من بلدان المنطقة، وهكذا شهدت أروقة المشهد السياسي العربي نقاشا متزايدا حول مدى حاجة الدولة العربية في حالتها الراهنة إلى مثل هذه الحكومات، وكذا حول مدى أولوية وملاءمة طروحات الوحدة الوطنية لواقع سياسي لا يختلف اثنان حول مأزوميته وبروز نتوءات الشتات والفرقة فيه.
وإذ تعبر المشاريع المطروحة في أكثر من بلد عربي من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، عن وجود حالة تشرذم حادة في جسد الأمة وهياكلها، تستوجب بإلحاح ضرورة الاحتكام إلى منطق الحوار، والعودة إلى موائد المحاصصة، وطاولات المفاوضات، من أجل إيجاد حلول وإجابات مشتركة تشكل حدا أدنى للتوافق من أجل الخروج من أزمة بنيوية باتت تعصف بالدولة العربية الحديثة، على إثر الإخفاقات المتوالية التي تعرضت لها، بفعل الآثار التي خلفتها فترات الاستعمار المباشر، وضعفها أمام استمرار التدخل والاحتلال الأجنبيين في أطراف كبيرة منها، وفشل مشاريع الوحدة على أسس قومية أو إقليمية، وكذا العجز عن تحقيق أي تقدم قد يجعل من الدول العربية كيانات ذات تأثير أو حضور وازن في دوائر صنع القرار وإدارة التوازنات على المستوى العالمي، فضلا عن قصورها الواضح في امتلاك مشاريع نهضوية متكاملة تمكنها من صياغة واقع ومستقبل ملائمين لطموحات شعوبها ومجتمعاتها ونخبها وقياداتها، إذ أن الدولة العربية في معظم تجاربها لم تكن دولة مشروع بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، وإنما غلب على أدائها الطابع التجريبي والتبعي، مما لم يتوفر معه نموذج دولة عربية واحدة حققت التكامل والنهضة المنشودين ولو في متوسط مستوياته، فبقيت لعقود طويلة شكلا بلا مضمون.
وإذن فمطلب الوحدة الوطنية قد يكون إحدى المداخل الحاسمة من اجل إعادة صياغة مشروع الدولة العربية القطرية، الموحدة سياسيا، والمتماسكة اجتماعيا، والمتنوعة فكريا وثقافيا، ما دامت الوحدة على المستوى القومي أو الإقليمي لم تتجاوز كونها حالة ذهنية ونفسية حالمة، يبدو تحقيقها أقرب إلى الخيال، في ظل تمايز المصالح ومصادر الاستشارة والقرار لدى كل دولة على حدة.
وبذلك يبدو هذا المطلب اليوم أكثر إلحاحا وموضوعية من ذي قبل، خصوصا مع حالة الانقسام والتمزق التي تشهدها معظم المجتمعات العربية، إن بفعل التدخل الأجنبي في إدارة شؤونها، أو بفعل التخلف الذي تكرسه النخب السياسية والفكرية المختلفة المواقع في ممارساتها.
وإذا كان مطمح الوحدة القومية بعيد المنال بسبب الإرث الاستعماري الثقيل، وتباين الأهواء والمصالح، وسلطة الحدود، فإن الوحدة الوطنية كمطلب تاريخي آني إنما تجد سندها في الواقع، إذ أن موضوعها الأساس هو الانتماء إلى البلد الواحد، داخل رقعة جغرافية واحدة، وحيز سيادي واحد، ومن ثم الولاء له، والدفاع عن مصالحه، والمساهمة في بنائه، والسعي إلى رقيه ونهضته.
غير أن ما يحدث في بلدان مثل العراق ولبنان وفلسطين، وهي البلدان الأكثر تضررا من حالة الشرذمة التي يعيشها الصف العربي اليوم، يدعو إلى الوقوف عند دلالات الدعوات المتواصلة داخلها من أجل الوحدة الوطنية، وتشكيل حكومات جامعة في إطارها، دونما التوصل إلى أي تفاهم حاسم وحقيقي حول شكل هذه الوحدة وتضاريسها، مع أنها بلدان تبدو فيها الحاجة ماسة للاعتماد على قدرات أبنائها في حسن إدارة الاختلاف، والبحث عن إمكانيات التلاقي والتكامل، والتوافق على الحد الأدنى الممكن والمطلوب من الضوابط والالتزامات، وقطع الطريق على أية إرادة خارجية تدفع بالوضع إلى المزيد من القتامة واللاتوازن والارتباك، دون الوقوع في مصيدة الاستئثار بالحديث باسم أغلبية موهومة، أو احتكار صفة المواطنية لطائفة أو فريق أو جهة دون غيرها.
إلا أن القوى السياسية والاجتماعية في بلداننا العربية المذكورة، عبرت عن وعي مغاير لحاجتها التاريخية والموضوعية الملحة، ونهجت مسلكيات تؤدي في النهاية إلى نقيضها، ونحت في اتجاه تكريس الضعف والضعة والشتات.
ففي العراق، حلت لغة القتل الطائفية اليومية، محل لغة الحوار والتفاوض والائتلاف، وهو مشهد يشكل الجزء الأساس من مشروع الاحتلال الرامي إلى تقسيم البلاد على أسس إثنية ومذهبية، يسهل معها بعد ذلك التحكم في مقدرات البلاد وخيراتها، والسيطرة على مجاليها الجغرافي والسياسي، ولم تستطع مكونات هذا البلد تجاوز العقلية الطائفية الضيقة، والالتفاف حول مشروع موحد يكون هدفه الرئيس هو دحر الاحتلال وإنهاء الوجود الأجنبي بالمنطقة سواء عن طريق العمل السياسي أو بواسطة الكفاح المسلح.
إن الحالة العراقية الآن، أضحت حالة مركزية في الصراع العربي والإسلامي ضد الوهن الحضاري والتكلس والجمود، وهي اليوم مقدمة المواجهة ضد مشروع شامل، يريد أن يخلق من العراق نموذجا لنظام/فوضى يصلح من منظور صانعيه للتعميم على باقي دول المنطقة، لكن الحقائق على الأرض تؤكد وبجلاء أن هذا المشروع يتكسر على صخرة المقاومة، وهو ما أرغم الإدارة الأمريكية غير ما مرة، على تعديل ما تسميه استراتيجيتها في الحرب من أجل "تحرير" العراق، مما يعد مؤشرا واضحا على ضبابية الرؤية وارتباك الأداء.
وعليه، فإن مدخل حكومة الوحدة الوطنية في العراق، يبدو في واقع الأمر صعب المنال، أمام تدخل أجنبي مباشر في تدبير شؤون البلاد، ورغبة قوى إقليمية مجاورة على رأسها إيران، في اتخاذ العراق خلفية استراتيجية تمكنها من تجذير وجودها الإيديولوجي والسياسي بالمنطقة، وتساعدها على المناورة من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية العليا كقوة ردع إقليمية ودولية.
غير أن هناك تجربة وحدة وطنية شعبية وتنظيمية أخرى، تتنامى في الظل، ويشكلها أولئك الملتفون على شعارات المقاومة واختياراتها الاستراتيجية، وتستمد عناصر شرعيتها بالأساس من استمرار الاحتلال الأجنبي ومشاريعه.
وثمة بلد آخر يقتسم مع العراق خاصية التنوع الطائفي، وهو لبنان، ساحة الكثير من المتناقضات التي ما فتئت تطفو على السطح بفعل المصالح المتداخلة لعدة أطراف في هذا البلد المثخن بجراحات السنين الطوال من الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، ولعل رهان القوة التي تشهده الساحة اللبنانية الآن هو نتيجة مباشرة لمخلفات تلك المرحلة وذلك التضارب في المصالح.
لقد نشأت دعاوى تشكيل حكومة وحدة وطنية لبنانية في ظل تواجد فعلي لحكومة ائتلاف برلماني فرقت بينها وبين معارضيها رغبة بعض الأطراف الخارجية في إعادة اقتسام النفوذ داخل رقعة الفعل السياسي، هذه الأطراف التي تشكل بالفعل جزءا من التكوين السياسي والاجتماعي لهذا البلد، إذ لا يمكن الحديث عن أي تغير في الخارطة اللبنانية دون استحضار الدور المؤثر والفعال للخطين السوري والإيراني في عملية التوازن الداخلي، ناهيك عن الحضور الوازن لأطراف دولية كبرى في هذا الحراك.
وعليه، فمطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية لبنانية، وإن كان حاجة موضوعية راهنة، لرأب الصدع داخل الجسد اللبناني، والخروج بالبلاد من نفق الأزمة الشائك والطويل، وتلافي الوقوع في المحظور، فإن تحقيقه يغدو أكثر صعوبة، بفعل تشابك المصالح، واستحالة الخروج بنتائج من حوار بين أبناء الوطن، تساهم فيه بفعالية، أطراف بعيدة عن الساحة، وغريبة عن الوطن.
أما في فلسطين، فالوضع في هذه الآونة أصعب مما كان عليه من ذي قبل، خصوصا بعد غياب الرمز الوطني الجامع، والذي كان يمثله باقتدار الرئيس المغتال ياسر عرفات، وبعد انتخابات تشريعية صعدت على إثرها إلى واجهة الحكم قوة شعبية ممانعة هي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وبدا لبعض المستفيدين من المرحلة السابقة من تاريخ الكفاح السياسي والشعبي الفلسطيني، وكأن البساط يسحب من تحت أرجلهم، تحت وطأة غضب الشارع من جهة، وتنامي تأثير قوى المقاومة الصاعدة من غبار المعارك إلى دوائر صنع القرار السياسي الفلسطيني، هذا القرار الذي خرج منذ مدة من أجندة الإجماع العربي، عندما تم تجزيء الصراع مع إسرائيل إلى مسارات تفاوضية منفصلة، حولت الصراع العربي الإسرائيلي إلى مشكلات مقسمة، بعضها فلسطيني، وجزأها لبناني، وجزأها الآخر سوري، مع الانسحاب المبكر لدولة عربية رائدة هي مصر من دائرة الصراع، واختيارها أيام السادات التخلي عن أية مسؤولية في إدارة المعركة، ونكوص دول عربية أخرى طالما تحدث مسؤولوها عن "المصير العربي المشترك".
واليوم، والصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة يأخذ أبعادا جديدة، وينحو في اتجاه جعله صراعا داخليا بين فرقاء يصعب الحديث عن امتلاكهم للقرار الوطني الحر والمستقل عن التأثير الخارجي، فإن المطلوب ليس فقط تشكيل حكومة وحدة وطنية، وحتى لا يتحول الحديث عنها إلى ضرب من العبث وفصل من التكرار الممل، وإنما الدفع في اتجاه تغليب المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، كسقف لا تعلوه أية مصلحة أخرى سواء كانت خاصة أو بارتباط مع الفلك الدولي والإقليمي.
إن العراق وفلسطين ولبنان حالات تمثيلية فقط عما يمكن أن تعيشه الدول العربية في حال استفحلت فيها الأزمات، وغابت فيها عناصر الإرادة الوطنية الصادقة من أجل تجاوز حالة الترهل والارتكاس المهيمنة على بنية الدولة والمجتمع على حد سواء.
وهي حالات يجمع بينها الحضور الأجنبي في صياغة واقعها، سواء في شكل استعمار همجي ومباشر كما هو الحال في العراق وفلسطين، أو عن طريق الوصاية غير المباشرة مثلما يحدث في لبنان، وثمة عامل آخر مشترك بين هذه البلدان الثلاث، وهو التواجد الإيراني الكبير في عمق معادلاتها السياسية، وهو ما يجعلها ساحة تجاذب واستقطاب طائفي مستمرين.
كما أن الدولة كبنية متجانسة تبسط سلطتها، وتملك قراراتها، وتمارس سيادتها واختياراتها، غائبة تماما في الأمثلة الثلاثة، حيث الدولة العراقية في شكلها الحالي تتخذ شكلا أقرب إلى الممنوح، ويقدح في شرعيتها وجود الاحتلال في مختلف مراحل تكوينها، وتكريسها للفروق والهوامش الطائفية.
وتعيش الدولة في لبنان على مخلفات الاحتراب الداخلي، وصعوبة إقامة توازن طائفي دقيق يتجاوز عقلية المحاصصة، وتدفع ضريبة وجودها على تخوم المشروع الصهيوني.
أما في فلسطين فإمكانية قيام الدولة المستقلة رهين بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، وتوفر مشروع وطني فلسطيني يعزز من إمكانية قيام دولة قادرة على الحياة في أجواء إقليمية غير مستقرة، وتمارس سيادتها على حدود لا زالت غير معروفة لحد الآن.
ولقد بدا وكأن النقاش حول تشكيل حكومات وحدة وطنية في هذه البلدان، بدأ لكي لا ينتهي، وتسبب في كثير من الخلل والارتباك، وخيم شبح الحرب الأهلية كبديل مخيف عن هذا المطلب السياسي، وظهرت بوادر ما تحدث عنه الوزير والاستراتيجي الإسرائيلي يوسي بيلين في كتابه "ثمن الوحدة" من "أن حكومات الوحدة الوطنية كانت دائما صيغة للشلل، بينما كانت الحكومات ) الضيقة( جريئة وأقدمت على خطوات تاريخية" . )1(

1( - نقلا عن عاطف المسلمي، حكومة الوحدة الإسرائيلية، العدد 15-16 من مجلة مركز التخطيط الفلسطيني يوليو-ديسمبر 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي