الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عباس بين قبلة أولمرت وتقطيبة الأسد: العبرة في طهران

صبحي حديدي

2007 / 1 / 27
القضية الفلسطينية


"قبلة الموت" هي التسمية التي شاء يوري أفنيري ـ الكاتب الإسرائيلي المعروف، أحد أنزه يهود العالم القلائل الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني بلا هوادة، وأوّل إسرائيلي يلتقي علانية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ـ اختيارها لتوصيف ما طبعه رئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت على خدّي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أثناء استقبال الأخير في الدارة الرسمية لرئيس الحكومة الإسرائيلية. أكثر من هذا، يضيف أفنيري: "منذ أن عانق يهوذا الإسخريوطي يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس مثل هذه القبلة"!
أليس هذا الرجل، محمود عباس، هو نفسه الذي قاطعه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، ثم اقتفى أثره خليفته أولمرت، طيلة سنوات؟ كيف حدث الآن أن الأخير لا يقبّله على الخدّين فحسب، ثمّ يقدّمه إلى زوجته باشاً هاشاً، بل كذلك يخاطبه بصفة Mr. President (هذه الصفة التي حُرم منها الراحل عرفات رسمياً، وعن سابق عمد وتصميم، في العرف الإسرائيلي والأمريكي ومعظم البروتوكول الغربي)؟ وهل كان عباس يدرك، هو الذي وقّع اتفاقيات أوسلو نيابة عن الفريق الفلسطيني، أنه هو ـ وليس سيّده عرفات ـ الذي سيحظى بلقب الرئاسة بعد عمر طويل، وبعد قبلة حارّة على كلّ خدّ؟
لكنّ مصيبة عباس لم تكن تقتصر على القبلة في حدّ ذاتها، بل في كيفية تسويقها إلى شارع فلسطيني لا بدّ أنه ضرب كفاً بكفّ وهو يرى إلى رئيسه يتعشى طلق المحيا هناك، ثمّ يرى ـ أو ينتظر غداً وبعد غد وكلّ يوم أن يعيش ـ المزيد من جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي الفاشية المنفلتة من كلّ عقال. ولهذا كان عباس ينتظر من أولمرت هِبَة كبرى دراماتيكية تنقذ مشهد القبلة من إسفافه السياسي والإنساني، كأن يعلن أولمرت صرف رقم عالٍ من ملايين الدولارات التي تخصّ السلطة الوطنية الفلسطينية وتحتجزها إسرائيل، أو أن يعد ـ أو حتى يأمر فوراً، من طاولة العشاء! ـ إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين والأسرى الفلسطينيين في سجون الدولة العبرية، أو ـ في أضعف الإيمان ـ أن يقرّر تخفيف معاناة الفلسطينيين اليومية على حواجز الطرق...
بالطبع، لم يقدّم أولمرت سوى خُمْس المبالغ التي تحتجزها إسرائيل، وبدا أنّ فحوى العشاء الدافىء (الذي تمّ، للإيضاح، بناء على رغبة أمريكية وفي سبيل تحسين أوراق عبّاس أمام "حماس"، في مرحلة بالغة الحرج للرئاسة، سياسياً وأمنياً) كان حُسن إخراج العشاء أمام عدسات العالم، بما فيها ـ وعلى رأسها غالباً ـ تلك التي ستنقل المشهد إلى بيوت الفلسطينيين. المفارقة، كما للمرء أن ينتظر منطقياً، أنّ المشهد في تفاصيله البصرية الوردية كان يؤدّي إلى نتيجة معاكسة، أي تحسين أوراق "حماس" وليس الرئاسة الفلسطينية، فكيف إذا تمخّض عن حفنة دولارات من مال الفلسطينيين... ليس أكثر!
ومن جانب آخر، أيعقل أن يكون هذا الرجل (الذي اكتفى من الغنيمة بقبلتين وخُمْس أموال الشعب الفلسطيني المحتجزة) هو نفسه الذي انقلب قبل أسابيع معدودات إلى بطل في أعين واشنطن وتل أبيب ولندن وبرلين ومعظم عواصم الغربية، فضلاً عن القاهرة وعمّان، لأنه أعلن العزم على تنفيذ هزّة أرضية ماحقة في فلسطين، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة؟ ألم تنهمر عليه مدائح أفيال حركة "فتح"، مثل تماسيح الأمن في السلطة، وقطط الفساد السمينة، ورهط المتباكين على رواتب الفلسطينيين، ونادبي "هذا الحصار العبثي" الذي يفرضه العالم ضدّ الشعب الفلسطيني؟ ألم يتسابق بعض العباقرة العاطلين عن العمل الآن، بعد اندحارهم في الانتخابات الماضية، إلى التبشير باستطلاعات رأي تفيد أنّ "فتح" عائدة بقوّة إلى الرئاسة والمجلس التشريعي (وحتى في انتخابات المعلّمين!)، وحماس آيلة إلى مزبلة التاريخ؟
صحيح أنّ الإعلان كان بمثابة مناورة تكتيكية مكشوفة، حسيرة النظر سياسياً وغير دستورية وغير متاحة بالمعنى العملي والإجرائي المحض، لكي لا نقول: عطنة الرائحة، وتعيد الشارع الفلسطيني إلى ذات الأجواء الفاسدة الفاضحة التي سبقت الانتخابات الماضية ومنحت "حماس" أغلبية كاسحة (لم يكن بغير دلالة أنّ عباس أعلن القرار ـ الهزّة محاطاً باثنين من بارونات السلطة الفلسطينية الأشدّ مقتاً من الشارع الفلسطيني: ياسر عبد ربه، ونبيل عمرو). غير أنّ الإعلان كان تكتيك عباس الأحدث، وربما شبه الوحيد آنذاك، من أجل تعويم سلطة الرئاسة الفلسطينية بعد أن انحدرت وانحطّت وأصابها الشلل، أو الارتهان لسياسات التوتير والشحن والتسخين التي يقودها بعض بارونات "فتح" في الأجهزة الأمنية بصفة خاصة.
وضمن هذا المعنى ذاته، على وجه التقريب، يمكن أن تُقرأ خطوة عباس في زيارة العاصمة السورية دمشق، رغم أنّ الدولة العبرية (بلسان أولمرت شخصياً) والولايات المتحدة (في تعليق غير دبلوماسي، وربما غير مهذّب كذلك، صدر عن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس) أعربتا عن معارضتهما للزيارة. وأيضاً، كان عباس نفسه يعرف أنّ زيارته لن تكون ناجحة في الشقّ الذي يخصّ اجتماعه مع خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، وتحديداً في الشطر الذي يخصّ الاتفاق على حكومة وحدة وطنية (أي، في عبارة اخرى: إنقاذ ماء وجه الرئاسة في تكتيك اللجوء إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، وإبقاء العاصفة حبيسة الفنجان إياه!).
وسوى وفاة عرفات، أي انزياح "الرجل غير المرغوب به" في دمشق كما سار التعبير السوري الرسمي منذ عام 1982، ما الذي تجدّد في الموقف السوري تجاه السطة الوطنية الفلسطينية، أو منظمة التحرير، أو حتى ما تبقى من مفردات "القضية الفلسطينية" عموماً؟ وهل تبدّلت استراتيجية السلام التي يعتمدها النظام السوري في حواره ــ المباشر أو غير المباشر، السرّي أو العلني ــ مع الدولة العبرية والإدارة الأمريكية؟ ألا تنهض أحجار الأساس في تلك الاستراتيجية على توظيف الأوراق الخارجية، أينما وكيفما جرى اقتناصها وتجميعها في قبضة النظام الحاكم، لصالح منجاة النظام وأمن بيت السلطة، أوّلاً وثانياً وعاشراً؟
الحال أنه كان يتوجّب أن تنحني منظمة التحرير مرّة وإلى الأبد، ليس قبل أو أثناء أو بعد مؤتمر مدريد كما يظنّ البعض؛ وليس سنة 1994، حين قصد عرفات دمشق معزّياً بوفاة نجل الرئيس السوري البكر، باسل الأسد؛ وليس أثناء زيارة عرفات الفريدة إلى بلدة القرداحة (مسقط رأس الأسد) صيف 1996، حيث حمل في جعبته مقترحات إسرائيلية لاستئناف التفاوض، وتقصّد أن يضمّ الوفد الفلسطيني الوجوه التي يمكن أن ترضي دمشق (فاروق القدومي وزهدي النشاشيبي)... بل منذ عام 1964، أي منذ انطلاقة "فتح" والعمليات الفدائية الأبكر.
وثمة إغراء دائم، ليس بعيداً عن إغواء وضع وقائع الماضي في سياقات الحاضر، أن يعيد المرء استذكار واقعتين حاسمتين في تاريخ هذه العلاقة. في سنة 1964 قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال ياسر عرفات، بتهمة "التحضير لأعمال تخريبية"، وذلك بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق سراحه بعد ساعات، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأنّ عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على موافقة رسمية بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب "فتح" في سورية. وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل ذلك إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين كانت قد بدأت مطلع ربيع ذلك العام.
ولقد تبيّن فيما بعد أنّ الآمر الحقيقي لمذكّرة الاعتقال كان الرجل القويّ في الجيش، وصاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء حافظ سليمان الأسد! كان اللواء سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم في احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ "فتح" بحرّية التدريب على الأراضي السورية. في المقابل، كان الأسد يمثّل مطامحه الشخصية في السيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه هو المرجعية العليا التي يتوجب على "فتح" أن تعود إليها.
وتلك الحادثة سوف تسجّل بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات وخصمه العربيّ الأكثر شراسة، حافظ الأسد. الأخير ظلّ مصرّاً على تحويل جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، و"فتح" بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والاستراتيجية على حدّ سواء. والأوّل ظلّ مصرّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الفلسطيني تالياً، في حال من الاستقلال التامّ عن مختلف الأنظمة العربية، وعن صراعاتها الداخلية أو الإقليمية. وهذا ما جعل الواقعة الثانية مجرّد تتمة منطقية للواقعة الأولى. ففي 24 حزيران 1983 قرّر الأسد طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه شخصاً غير مرغوب به، وجرى تأخير موعد إقلاع طائرة الخطوط التونسية المعتادة لكي يستقلها عرفات وحفنة من مرافقيه، مطروداً رسمياً. ويروي ألان هارت، في كتابه "عرفات"، أنّ جورج حبش كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه احتضنه قائلاً: "يا الله يا أبو عمّار! إذا كنتَ أنت تغادر الشام هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن"!
لكنّ إحياء سلطة الرئاسة الفلسطينية، وليس تكفينها على أيّ نحو، هو الذي جعل محمود عباس يزور دمشق قبل أيام، ساعياً كذلك إلى بيع الزيارة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية وقطر، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق. والمشهد المسرحي الذي جرى قبيل انعقاد اللقاء الفاشل، بين امتناع عبّاس ومشعل كلّ على طريقته، ووساطات وليد المعلّم (وليس بشار الأسد شخصياً... لاحظوا هذه التفصيل الطريف!)، كان مجرّد تدريب على المشهد المسرحي الأهمّ الذي سيُنفّذ في زمن قصير لاحق: اجتماع رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي أكبر لاريجاني، مع الفصائل الفلسطينية المقيمة في سورية، وهندسة سلسلة من الإيحاءات المدروسة التي كانت ترسل إشارتين: أنّ طهران طرف أوّل، قبل دمشق أحياناً، في ما يخصّ الفصائل الفلسطينية الإسلامية على الأقلّ؛ وثانياً، أنّ طهران طرف أوّل، قبل دمشق حتماً، في أيّ ترتيبات ذات طابع عريض يشمل قوى إقليمية عربية وغير عربية، من غزّة إلى بيروت إلى بغداد إلى الرياض، وتنخرط فيه واشنطن وتل أبيب على أيّ نحو.
وبين قبلة أولمرت الإسخريوطية وقبلة بشار الأسد الأخوية (التي اقترنت، مع ذلك، بتقطيبة صارمة تدلّ على أنّ الذي بين الرئيسين ليس أخوياً تماماً بل هو إلى ما صنع الحدّاد أقرب!)، كان عباس يدرك أنّ المشهد لم ينقلب إلى معطيات ملموسة تنتشل الرئاسة الفلسطينية من حال الانحطاط، وكان النقيض هو الذي جرى ويجري: تعويم "حماس" أكثر فأكثر في ناظر الشارع الفلسطيني والإسلامي عموماً، وتعويم محمد دحلان بوصفه بارون "فتح" الأمني ـ العسكرتاري وبارومتر الرضا أو السخط في رئاسة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي!
وبالطبع: أنّ العبرة في طهران، عبر بوّابة غزّة... قبل دمشق!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا