الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم أمريكي سوري... قصير

صبحي حديدي

2007 / 1 / 30
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


شريط الوقائع يسير هكذا:
ـ في 26 أيلول (سبتمبر) 2002 يصل المواطن الكندي، السوريّ الأصل، ماهر عرار إلى مطار ج. ف. كنيدي في مدينة نيويورك، قادماً من زيورخ وقاصداً مونتريال، فتعتقله السلطات الأمريكية وتبلغه أنه ممنوع من دخول الولايات المتحدة، وتسأله عن البلد الذي يرغب في التوجه إليه، فيردّ: كندا؛
ـ في 4 تشرين الأول (أكتوبر) تزوره مورين غيرفان، الموظفة في القنصلية الكندية، ثمّ تصرّح فيما بعد أنها لم تكن تتخيّل أبداً أنّ السلطات الأمريكية سوف ترحّله إلى أيّ مكان آخر سوى كندا؛
ـ في 8 من الشهر ذاته يُنقل عرار من زنزانته، معصوب العينين، ويجري ترحيله إلى سورية على متن طائرة خاصة، بتهمة القيام بأنشطة إرهابية؛
ـ في يوم 9 تهبط الطائرة في الأردن، ويُنقل عرار على عجل إلى دمشق، برّاً، حيث يُعتقل في واحد من فروع المخابرات العسكرية الأشدّ فاشية وبربرية، فرع فلسطين، حيث يقضي فيه قرابة عشرة أشهر، فيتعرّض للأصناف المعتادة من التعذيب الجسدي والنفسي، ويضطرّ إلى الإقرار ـ مكرهاً، ولكي يتفادى المزيد من التعذيب ـ بأنه تدرّب في أفغانستان؛
ـ في 23 نيسان (أبريل) 2003 يُسمح للسفير الكندي فرانكو بيلاريللا واثنين من أعضاء البرلمان الكندي بزيارة عرار في فرع المخابرات، ولكن بحضور ضبّاط أمن سوريين، مما يجبر المعتقل على عدم كشف أيّ تفصيل حول ظروف اعتقاله؛
ـ تُمنع الزيارات عن عرار حتى تاريخ 14 آب (أغسطس)، حين يزوره القنصل الكندي، ويفلح عرار في إعلامه بتعرّضه للتعذيب؛
ـ في 23 من الشهر ذاته يُنقل عرار، معصوب العينين دائماً، إلى سجن خارج فرع المخابرات؛ وفي 5 تشرين الأول يُعرض على قاضٍ يتلو عليه اعترافاته ويطلب منه التوقيع عليها دون قراءتها، ويُنقل بعدها للقاء رئيس المخابرات العسكرية السورية بحضور عدد من المسؤولين الكنديين، فيُطلق سراحه عندئذ، ويسافر إلى كندا.
تتمة هذا الفيلم، وهو إنتاج مشترك بين السلطات الأمنية الأمريكية والسورية، أنّ عرار اتهم الدرك الملكي الكندي بالتواطؤ في المحنة التي عاشها، وتكاتف معه الرأي العامّ الكندي فاضطرّت الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة برئاسة القاضي دنيس أوكونور. وفي 18 أيلول (سبتمبر) الماضي أصدر القاضي تقريره الذي برّأ فيه عرار من كلّ تهمة تتصل بالإرهاب، وأنحى باللائمة على محققي الدرك الكنديين لأنهم زوّدوا السلطات الأمريكية بأدلة غير دقيقة وغير صحيحة، وأوصى بتعويض عرار مالياً. وفي أعقاب نشر التقرير تقدّم قائد الدرك الكندي، جوليانو زكارديللي، باعتذار رسمي من عرار، ثمّ أتبعه بتقديم استقالته.
من جانبه، توجّه رئيس الوزراء الكندي، ستيفن هاربر، باعتذار رسمي وعلني باسم الحكومة عن أيّ دور للسلطات الكندية في "المحنة الرهيبة" التي عاشها وأفراد أسرته، كما أعلن التوصل مع محامي عرار إلى تسوية تتضمن منحه تعويضاً بقيمة 10,5 ملايين دولار كندي (8.9 ملايين دولار أمريكي). وهكذا، قد يكون هاربر ردّ للديمقراطية الكندية بعض الكرامة، الحقوقية والدستورية والإنسانية والأخلاقية، التي انتهكها رجال الدرك الكندي، الأمر الذي لا يعني البتة أنّ قضية عرار سوف تحصّن هذه الديمقراطية من انتهاكات مماثلة، وربما أشدّ فظاعة، في المستقبل القريب. ذلك لأنّ الطرائق التي تستخدمها الديمقراطيات الغربية في سياق ما يُعرف بـ "الحملة على الإرهاب"، لم تعد تندرج في باب تقنيات التحقيق أو أنساق المكافحة أو أنماط الوقاية، بل صارت فلسفة سياسية وأمنية شاملة كاملة، ولعلها أيضاً متكاملة في ذاتها وبذاتها، خارج نطاق القوانين... أو حتى تستفيق القوانين من سباتها!
الدليل الأبرز على خلاصة كهذه أنّ السلطات الأمريكية لا ترفض الاعتذار عن سلوكها البربري (في ترحيل مواطن إلى نظام دكتاتوري استبدادي استخباراتي 100%، بما يتضمنه ذلك الترحيل من مخاطر جدّية ومباشرة على حياته) فحسب، بل ترفض كذلك إزالة اسم عرار من لوائح المطلوبين والمشبوهين، وهذا ببساطة يعني أنها قد تسلّمه من جديد إلى فرع فلسطين إذا ثقفته ثانية ذات يوم! أيضاً، أعلن السفير الأمريكي في أوتاوا، دافيد ولكنز، أنّ واشنطن سوف تستمرّ في القضية (ضدّ مَن؟ وبالتنسيق مع مَن، سوى المخابرات السورية؟)، مضيفاً أنّ إصرار كندا على شطب اسم عرار من لائحة المراقبة ينمّ عن... "غطرسة"!
والحال أنّ قضية ماهر عرار كانت، للتذكير، بين أوضح وأبكر قضايا التعاون المباشر بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وعدد من أنظمة الاستبداد الشرق ـ أوسطية، وعدد آخر من الديمقراطيات الغربية وأشباه الديمقراطيات في أوروبا الشرقية بصدد "السجون الطائرة" والمعتقلات السرّية. وليس مدهشاً أن تتعنت السلطات الأمريكية في الإقرار بجريمة نكراء، لأنها في الواقع لم تكن محض خطأ فادح، ارتكبتها عن سابق عمد وتصميم، وتوصّلت إلى إدانتها لجنة تحقيق قضائية مستقلة في ديمقراطية جارة للولايات المتحدة.
وأمّا مجرّد التفكير في أنّ السلطات السورية يمكن أن تعتذر لمواطنها ماهر عرار عن عشرة شهور من "المحنة الرهيبة"، فإنه ليس احتمالاً سوريالياً خالصاً فحسب، بل الأرجح أنه نقيض حال تلك السلطات: لعلها تحرق الأرم، اليوم، لأنّ الديمقراطية الكندية البلهاء أضاعت جهد جلاّدي فرع فلسطين، فجعلت جلسات التعذيب تذهب هباء بلا طائل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام