الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فشل مهمة لماني وصراحته نذير شؤم للعرب

حمزة الجواهري

2007 / 1 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


تباعدت المسافات بين الأطراف للحد الذي بدا من المستحيل جسرها، لأن الجسور إما أن تقف على دعامات تستند إلى القاع وهذا الأمر ممكن في حال أن تكون المياه ضحلة، لكن لو كانت المياه عميقة جدا، فإن الضفتين يجب أن تكون على مقربة من بعضها، بغير هذا لا يمكن إقامة جسر، فكلما تباعدت الضفاف كلما كبر التحدي، وكلما ازدادت المياه عمقا زاد التحدي أيضا، وفي العراق، فإن الخلافات رغم أنها ضحلة في الواقع، لكن بظل الطائفية المقيتة التي يغذيها العرب فإن الضفاف تتباعد عن بعضها البعض يوميا، وتزداد المياه عمقا يوما بعد آخر!
أحد أهم أسباب تعميق مياه الخلافات وتباعد الضفاف بهذا التسارع المخيف هو المشروع العربي في العراق، والذي تتبناه الجامعة العربية رغم أنها لم تعلن صراحة عن حقيقة النوايا، لكنها كانت أكثر من معلنة من خلال أداء الأطراف العربية التي ما فتئت تعمل على تأجيج الصراع العراقي العراقي، ولم يخفي أيا من تلك الأطراف حقيقة نواياه يوم وضعت الاستراتيجية الجديدة للرئيس بوش على الطاولة قبل إعلانها، ودأب أمينها العام على تغليف الموضوع بعبارات فضفاضة لا تغني ولا تشبع من جوع، وليتها كانت عبارات جميلة، لكنها أيضا كانت مفضوحة بشكل مريب، وهذا دليل وآخر واضح على أن الجامعة العربية عبارة عن كيان يخدم الحكومات على حساب الشعوب، رغم ادعائهم المنافق بأن قلوبهم مع الشعوب.
كانت مهمة مختار لماني سفير الجامعة العربية في العراق هي جسر الهوة بين الأطراف العراقية المتصارعة، وكان الرجل يعتقد، بل كله قناعة، أن المهمة سوف تكون سهلة رغم التحديات التي تحيط بها، لأنه لم يكن منحازا لجهة ما من أطراف النزاع، فقد كان انحيازه للعراق فقط، أي لشعب العراق بكل أطيافه، حتى العراقيين من غير العرب، لكنه اصطدم من اليوم الأول لوجوده في العراق بحقيقة وجود هوة دائمة التوسع ويزداد عمقها يوما بعد آخر بسبب تفشي وباء الطائفية المقيت بين النخب السياسية، هذا الوباء الذي ظل حبيسا عشرات القرون بعقول العامة السذج من الناس وبعض رجال الدين الذين يجدون بالطائفية ومفرداتها البسيطة جدا مورد رزق لهم، لكنه وجد أنها أصبحت لغة العصر العراقي الجديد وأصبح لها قواميس وليس مجرد مفردات، ولها أيضا أبعادا أخطر من ذلك، حيث أنها أصبحت ذات بعد عربي وإقليمي واسع، وقد كرست لها كل الإمكانيات المادية والسياسية والإعلامية وتمترس رجال دين كبار وراء متاريس الطائفية البغيضة، بل وأكثر من ذلك، فقد تمترس معهم ملوك ورؤساء عرب ومسلمون.
كان لماني مؤدبا جدا في رسالته للأمين العام للجامعة العربية التي يطلب فيها التنحي عن منصبه نهاية الشهر القادم حين أشار فيها إلى "غياب تام لأي رؤية عربية متماسكة وجادة في معالجة الموضوع العراقي، بل انعدام حتى الوعي بضرورة تواجد هذه الرؤية بأبعادها السياسية والأمنية وإعادة البناء والاكتفاء لدى البعض من العرب أحيانا بالإنجرار إلى مواقف ترقيعية ومن منطلقات ضيقة لا تضع بالأساس ولا بالضرورة المصلحة العليا للشعب العراقي وإنهاء محنته". وفي الحقيقة، هو أن لماني وجد ما هو أسوأ من ذلك بكثير، فإنه وجد إن العرب لديهم مشروع قاتل ليس للعراق وحسب بل لدول الجامعة العربية والمسلمين جميعا، حيث وجد أن الرؤساء ووزرائهم يحملون بلا حياء مشروعا طائفيا مقيتا يعيد التاريخ للوراء أكثر أربعة عقود، بل يعيد التاريخ للعصور الوسطى، فهم بلا حياء يعلنون انحيازهم لطرف من أطراف النزاع العرقي بحجة واهية وهي وقف المد الإيراني في المنطقة، وهم في الواقع يسوقون مشروعا طائفيا وعنصريا مقيتا على حساب الشعب العراقي بكل أطيافه، لأن الشعب لا علاقة له بالمشاريع السياسية الطائفية ويقف منها بنفس المسافة مهما كان شكلها ولونها، لكنه حين يبدوا منحازا لطرف من أطراف النزاع، عليك أن تنظر بدقة للصورة، فإن المرء بلا شك سوف يرى فوهة البندقية مصوبة نحو الرأس، فالمواقف الطائفية والعنصرية مفروضة على العراقي بقوة السلاح وأساليب الترهيب وسلب الإرادة التي اعتادت عليها الأنظمة العربية حتى أصبحت زادها وزوادها في مواجهة التحديات لأن الكراسي التي يتمسكون بها تقف على رجل واحدة في العموم الغالب.
من خلال ما سمعته عن الرجل أنه كان في كل مرة يلتقي بها مسؤول عربي، يخرج وهو مكدر الخاطر محبطا، وهذا ما يشي بحقيقة أن ما كان يدور بتلك اللقائات مخزيا جدا، ولا يمكن لإنسان عاقل قبوله بأي حال، ولو أردنا استقراء ما كان يدور بلقائاته مع الدبلوماسيين العرب والرؤساء على حد سواء، فلسنا بحاجة لأكثر من الرجوع إلى تصريحاتهم المخجلة في أحسن وصف لها، وبالتأكيد فإن الأحاديث التي تجري وراء الكواليس كانت أكثر صراحة وشفافية ووضوح من تلك التي يدلي بها المسؤولين أمام وسائل الإعلام، فعلى سبيل المثال يصرح رئيس أكبر دولة عربية بأن ولاء الشيعة العرب لإيران! فماذا يقول الصغار بالله عليكم!؟ وقد قالوا أن الشيعة ليسوا عربا، بل هم فرس! وقال آخرون بعضهم هنود! وقد توجت كل تلك الأقاويل بتصريح لرئيس الدولة العربية الأكبر، وهكذا تم كتابة تاريخ جديد للشيعة العراقيين لأنهم شيعة فقط!
في الحقيقة عندما غضب الشيعة في العراق وفي كل مكان من هذا التصريح، لم يسأل احد من الرؤساء، ولا الأمين العام للجامعة العربية عن السبب الذي أغضب هؤلاء الناس، فهل كان غضبهم لأن الفرس أقل من العرب شأنا؟ أم لأن القومية الفارسية مازالت مجوسية كما يدعي البعض؟ في الحقيقة كان لماني قد أدرك بالفعل السبب من وراء غضبهم، حيث ليس من العقول أن يغضب الإنجلوساكسوني حين تقول له أنت إنجلوساكسوني، لكن لو وصفت التركي على سبيل المثال بأنه عربي لاستشاط غضبا ولعن وسب، هذا إذا لم يتحول الموضوع إلى عراك بالأسلحة، السبب من ذلك هو أن التركي يعتز بقوميته، وكذلك العربي والفارسي والإنجلوساكسوني، وغضب الشيعة عموما من وصف الرئيس والجوقة الطائفية العراقية والعربية لهم بأن ولائهم لإيران الفارسية كان يعد بمثابة إهانة لهم بالصميم، وهو دليل أكيد على تمسكهم بقوميتهم العربية إذا كانوا عربا، تمسكهم بقوميتهم الكردية فيما لو كانوا كوردا، وتمسكهم بقوميتهم التركمانية فيما لو كانوا تركمان، لأن الشيعة في العراق من جميع الأعراق.
إن تصريح الرئيس المصري الذي أكده أكثر من مرة، منح الآخرين شجاعة أكبر بالإعلان عن مواقف طائفية مماثلة، لأن إذا كان رئيس أكبر دولة عربية يدلي بمثل هذه التصريحات، فإنه على هذا الأساس يحق لغيره التصريح بما هو أكثر من ذلك وأشد وطأة، فلا يجب الاستغراب من مقالة كتبها مسؤول عربي آخر يهدد بها ويتوعد ويعلن وقوف دولته إلى جانب طرف من أطراف النزاع الطائفي في العراق، ولم يعد غريبا أن تحتضن المكاتب العربية وجامعتها كل الخارجين على القانون في العراق، ولم يعد غريبا أن يصرح رئيس صراحة وقوفه مع مظلومية أهل السنة متناسيا المظالم الأخرى في البلد، وكأن الظلم منصب على فئة واحدة فقط، ولم يعد مخزيا القول إني طائفي، وهكذا تداعت جميع الحواجز الأخلاقية والعرفية بعد تصريح رئيس أكبر دولة عربية، فلم تعد هناك محرمات بأي خطاب للحد الذي دفع بالكثير من رجال الدين العرب إلى الجنوح بعيدا في خطابهم وسلوكهم، ورفع البعض عقيرته من فوق المنبر داعيا لمزيد من العنف المسلح والقتل على الهوية، لم لا وقد أصبح الموضوع حديثا الرؤساء؟
أضف إلى ذلك، يدرك العالم أن العنف في العراق تغذيه أطراف إقليمية معظمها عربية، وهي الأب الشرعي لهذا العنف، وهي من يقدم له كل أنواع الدعم للإرهابيين بشكل معلن، فكيف يمكن لممثل الجامعة العربية أن يجد مقبولية من الأطراف التي مازالت تسيل دمائهم أنهارا في العراق؟ فهل سيطلب من الأم العراقية الثكلى القبول به وبجامعته لأنه ليس طائفيا؟
كان مختار لماني سفير الجامعة العربية في العراق من الناس الذين يدركون هذه الحقيقة، وقد حاول باستماتة تغيير هذا الواقع لكنه وجد أن الحكومات العربية مصرة على تبني هذا الخطاب الذي يؤجج الطائفية ويغضب غالبية أبناء العراق، فكان كمن يمثل الفئة الباغية والماضية في غيها إلى أبعد مدى، هذه العقبة كانت ومازالت من أكبر العقبات التي واجهت الرجل، والتي وجد أنها ستكون السبب بفشل أي مسعى دبلوماسي يمكن أن تتبناه الجامعة العربية مستقبلا، وربما ستكون السبب بخروج العراق من الجامعة التي أصبح العراقيون يسموها "بالكل... العربية"، لذا ورغم أنه استطاع تسويق نفسه، لم يستطيع تسويق مشروعه بين الساسة العراقيين لأنه، رسميا، يمثل هذه الجهة المنحازة، بل والغارقة بأوحال الطائفية المقيتة، كما ولم يستطيع أن يقرب بين القوى المتصارعة، لأنها إما مستفيدة من هذا الموقف العربي، سواء من السنة أو الشيعة، أو رافضة له شكلا ومضمونا، ربما يسأل البعض أن كيف يمكن لبعض الساسة الشيعة في العراق الاستفادة من مواقف الجامعة العربية هذه؟ الجواب بسيط جدا، حيث أن الذين يحملون مشروعا إسلاميا طائفيا يجدون بموقف العرب الذي يؤجج الطائفية نعيمهم وجنتهم المفقودة التي يبحثون عنها، لأن بدون الطائفية لا يمكنهم الصمود أما تحديات المشاريع السياسية الأخرى المطروحة على الساحة السياسية أيضا، وجميع الساسة الطائفيون يدركون هذه الحقيقة لذا نجدهم متمسكين بشعاراتهم بكل قوة ولا يقبلون بديلا عنها، ويستفزون العرب أكثر لمزيد من السقوط بأوحال الطائفية.
لقد حظي الدبلوماسي المغربي بالثقة والمصداقية من كافة الأطراف العراقية، لكنه لم يجد أبدا أن ذلك كاف لمساعدة أهل العراق، حتى بعض الطائفيين منهم، لأن ليس جميعهم يعرفون أبعاد ما هم فاعلون، كما وأن الأغلبية العراقية الصامتة أو التي كممت أفواههم، جميعهم يجدون بهذه المصداقية من الرجل ثمة بصيص ضوء في آخر النفق المظلم، لكن لماني الذي أدرك تماما أن مهمته باتت مستحيلة بسبب الشروع العربي القاتل للعرب والمسلمين قبل العراقيين، تولدت لديه قناعة مطلقة بأنه يقف أمام جدار صلب يريد اختراقه، هو والكثير من أبناء العراق، أو تلك الأغلبية الصامتة. لذا فإن استقالة لماني تعني بلا أدنى شك فشل العرب بإيجاد مشروع بديل عن مشروع تأجيج الصراع الطائفي الدموي في العراق، ذلك المشروع الذي سوف يمتد، إن عاجلا أم آجلا، ليحرق الرجل الباقية من كراسيهم المتهرئة.
يدرك المرء مصداقية الرجل من عبارة وردت برسالته يصف بها شعوره من الأعماق بالإحباط والقهر أمام المعاناة التي كان شاهدا عليها طيلة السنة التي أمضاها في العراق، كما عبر عن هذه الحالة في رسالته، وكذلك عبر عن "أحاسيس متناقضة بين ما يمكن للمرء أن يتمناه للعراق وما يراه فعليا على ارض الواقع".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو