الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يونيسكو العمّ سام

صبحي حديدي

2007 / 2 / 6
العولمة وتطورات العالم المعاصر


مباذل الولايات المتحدة الأمريكية لا تقتصر، في المستوى الكوني، على غزو الشعوب عسكرياً، وخرق المواثيق الدولية في غوانتانامو، وابتداع السجون الطائرة والمعتقلات السرّية غير الشرعية، وممارسة العربدة في حروب التبادل، وتخريب النظام الاقتصادي العالمي، وتلويث البيئة عن سابق عمد وتصميم وتعنّت... ثمة، كذلك، مباذل لا تقلّ أذى وتخريباً وصلفاً، تدور في ميادين التربية والعلوم والثقافة، وتحديداً في قلب المنظمة الأممية الأولى التي تتولى الإشراف على هذه القطاعات: منظمة الـ "يونسكو".
وفي عددها لشهر كانون الثاني (يناير) الماضي، نشرت المجلة المالية الفرنسية Capital تقريراً مثيراً عن عجائب بيتر سميث، المندوب الأمريكي لدى المنظمة ونائب المدير العام والمسؤول عن قطاع التعليم، كتبه باتريس بيكار واستند فيه إلى ما يتردد في كواليس المندوبين من أحاديث ـ تدور همساً تارة، وعلانية طوراً ـ حول وقائع المخالفات القانونية والمالية الصارخة التي ارتكبها ويواصل ارتكابها المستر سميث. وهي أحاديث لا تهبط من عدم بل تتكيء على حيثيات قضائية ملموسة، في طليعتها أنّ محكمة الحسابات الفرنسية (التي يترأسها فيليب سيغان، السياسي البارز المتقاعد والزعيم الأسبق لحزب الرئيس الفرنسي الحالي جاك شيراك) تحقق هذه الأيام، وبناء على طلب من المجلس التنفيذي للمنظمة، في عدد من العقود التي تمّ إبرامها مع شركة أمريكية، بقيمة 2,14 مليون دولار أمريكي.
غرابة هذه العقود لا تتوقف عند استئناف الشركة الأمريكية لمقترحات سبق أن تقدّمت بها شركات سابقة في عقود سابقة، أو عند هذا أو ذاك من التفاصيل الإشكالية القابلة للاعتراض أو حتى الرفض المبدئي، بل تكمن كذلك في حقيقة أنّ الشركة ليست لها أيّ مكاتب على الأراضي الفرنسية ـ كما يقتضي العرف السائد ـ ممّا يضخّم كثيراً الميزانية المخصصة للأسفار والتنقلات، ويؤثّر سلباً على حسن إنفاق الميزانية في البنود ذات الجدوى، وفي سلامة التنفيذ عموماً. هذا إذا وضعنا جانباً الاعتراضات الجدّية التي تثيرها الفلسفة الثقافية للشركة الأمريكية، في ما يخصّ سياسات التعليم والتربية في البلدان النامية إجمالاً، وبصدد الثقافات الأخرى التي لا تتماثل بالضرورة، أو لا تتقارب حكماً، مع المفاهيم التربوية والتعليمية الأمريكية ـ الأوروبية.
وخذوا هذا المثال الفاضح: في خريف العام الماضي اقتطع سميث مبلغ 200.000 دولار من ميزانية محو الأمية في فلسطين والعراق وموريتانيا (لاحظوا دلالة هذه البلدان، تحديداً!) لا لكي ينفقها على محو الأمية في اليمن أو السودان أو الصومال، بل لكي يموّل مؤتمراً في نيويورك افتتحته السيدة الأمريكية الأولى، لورا بوش، واستغرق... نصف نهار! وليست هذه الواقعة خالية من السياسة المباشرة، وتقصد السياسة الداخلية في أمريكا أساساً، لأنّ سميث هو أحد أتباع الرئيس الأمريكي جورج بوش (الذي عيّنه في المنصب)، كما كان عضواً في الكونغرس عن الحزب الجمهوري قبل أن يفشل في تجديد ولايته.
ولكي يكتمل المزيد من العناصر التي تضيء خلفيته الثقافية والأكاديمية ثمة هذه الواقعة: قبل تعيينه مندوباً دائماً في الـ "يونيسكو" عمل سميث رئيساً لجامعة مونتيري باي، كاليفورنيا، والتي ذهبت إلى القضاء جرّاء دعوى رفعها ثلاثة من العاملين في الجامعة، اتهموا الإدارة بنقلهم من مناصبهم لأسباب عنصرية. وانتهت القضية إلى تسوية قانونية، سدّدت الجامعة بموجبها تعويضات لرافعي الدعوى، بقيمة 2,5 مليون دولار .
لكنّ الأمريكي سميث ليس أوّل أحزان المنظمة الدولية، ولن يكون آخرها، على صعيد هذا التصادم الثقافي الدائم حول الأولويات والمقاربات والفلسفات. ونتذكّر أنّ فكرة الـ "يونيسكو"، منذ التأسيس في العقود الأولى من القرن الماضي، انطلقت من مفهوم غربي صرف للتربية وللثقافة، قبل أن يُصاغ الميثاق التأسيسي سنة 1945 وتنضمّ إلى المؤتمر التأسيسي دول أخرى غير غربية، بينها الهند والسعودية ومصر والعراق. وعلى نحو ما، ظلّت المنظمة تخضع لضغط المفاهيم الغربية ذاتها حتى عام 1946 حين أصرّ عالم الأحياء البريطاني وأوّل مدير عام للمنظمة، جوليان هكسلي، على صياغة «إيديولوجيا كونية موحّدة» تكون بمثابة الفلسفة العليا للمنظمة، وتُلزم بالتالي جميع الدول الأعضاء. ولكنّ السؤال الذي أثير يومها ما يزال يُثار اليوم أيضاً، بالمشروعية ذاتها، وأشدّ ربما: هل نجحت المنظمة في تجاوز ضغوطات الفكر الواحد، الفكر الغربي تحديداً، وهل من مكان فسيح عادل للقِيَم الأخرى؟
واستطراداً، هل يدور «صراع ثقافات» في الـ "يونسكو" هو الوجهة الأخرى التطبيقية، التربوية والتعليمية والعلمية، لمفهوم "صدام الحضارات" الأشهر؟ تاريخياً، بات من المعروف أنّ ولاية الإسباني فدريكو مايور (1987 ـ 1999) شهدت سلسلة «إصلاحات»، كانت في الواقع سلسلة «مراجعات»، للسياسة التي كان انتهجها السنغالي أحمد مختار أمبو (1974 ـ 1987)، وجلبت على الـ "يونسكو" اتهامات «التسيّس» وشيوع مناخات وُصفت بأنها «عالمثالثية» و«معادية للغرب»، الأمر الذي تسبّب في انسحاب أمريكا ثم بريطانيا وسنغافورة.
ما يفعله المندوب الأمريكي اليوم ليس استئنافاً لأعراف المنظمة الدولية في حقبة ما قبل عثمان أمبو فحسب، بل هو عَوْد إلى طور خاص من الحرب الباردة أشاع فيه العمّ سام أنّ الثقافة الأمريكية هي الثقافة الكونية الأرقى والأكمل، واستطراداً: الأنفع والأجدى، للإنسانية جمعاء. شاءت الإنسانية أم أبت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا