الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتبقي طفلة العصافير الموسمية

عفيف إسماعيل

2007 / 2 / 7
الادب والفن


مُسامرة سودانوية*
ما أجملَ الفتى ، خفيفاً ... خفيفاً ، هابطاً في المياهِ ، لا يرى سوى خُصـلةِ الحوريّـةِ
سعدي يوسف

في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم في تلقيد حميد وحميم للتفاكر وتبادل الاراء دعاني أبن مدينتي" الحصاحيصا" الموسيقار الهادى جمعه جابر أحد المؤسسين لمجموعة ساورا الغنائية ، لحضور البروفات التحضيرية تمهيداً لبدء إنطلاقها في افق الغناء السوداني الواسع. بجانب الفكرة الواعية نفسها في استصحاب آخرين يقيمون تجربة ساورا قبل انطلاقها من مواقعهم الابداعية المختلفة، فقد كان الحضور يشمل أطيافاً من الموسيقيين والشعراء، والتشكيليين، والمسرحيين، والنقاد، والعديد من طلاب الجامعات والمعاهد العليا بالخرطوم. كانت هناك اكثر من مفاجأة تنتظرني:

الأولي: تلك الأغنية الساحرة الطازجة الشعر كشأن ساورا مع كل نصوصها الشعرية المعنونة بـ "طفلة العصافير الموسمية" للمسرحي والشاعر مجدي النور الذي رحل عن عالمنا إلي الضفة الأخري في اواخر العام 2006 قبل شهر من عيد ميلاده الاربعين.
الثانية: ان استمع لأجمل صوت غنائي نسائي سوداني من فصيلة "السبرانو" وهو صوت المغنية هناء عبيدي، الذي يمكن ان أغمض عينيا وأسمعه إلي الأبد .
الثالثة: ان تلعن تلك البروفات ميلاد ملحناً ولد عملاقاً وهو الموسيقار عبد الوهاب وردي ، ليس للأمر علاقة بالوراثة الجينية فقط التي لا نقلل من شأنها، بل لأن له خصوصيتة في التلحين وزوايا رؤيتة الموسيقية الواضحة البصمة والتفرد والجمال والخيال بعيدا عن ذاك الأسد فنان أفريقيا الأول محمد وردي.

عند بدأت المجموعة تشدو بأغنية طفل العصافير الموسمية التي جانس فيها الشاعر مجدي النور بين معارفه الدرامية والسردية، والشعرية، إنتابتني حالة تشبه الجذب الصوفي المبين، وطارت بي الاغنية إلي سماوات لم ادركها من قبل، وصرت طليقاً مثل طير تخلص حتي من الفضاء نفسه، وليس امامه جوارح أو فخاخ، حالة من العذوبة والشفافية والإنبهار والسمو والسُكر والإنعتاق والتخلص من الوزن والزمكان، ومن برزخ الما بين، ومن الهموم الآنية والدوران اللهث اليومي لما يسد رمق الحياة، وتناولت في تلك اللحظات بمتعة فائقة وجبة كاملة الدسم من غذاء الروح ما زالت تسندني حتي الآن.

تتبعت بعد ذلك خطوات الشاعر والمسرحي الراحل مجدي النور الفارهة ومساهماته المتعددة في مجالات ابداعية مختلفة أبرزها آثاره المسرحية التي ينطبق عليها قول غبريال غارسيا ماكيز"الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فناً" فمجدي النور المسرحي في اغلب مسرحتها التي كتبها يتجول بين المنسي بين ابصار الآخرين بين اليومي العابر/الهامشي/ الدارج/ ليأسطر اللحظة الساكنة والعادية ويخرجها من كمونها وعاديتها إلي افق السحرية، لتعرض واقع ماساوي يضحكك لحد نهنهات البكاء ، ويعلق بذهنك مثل نصل مازق السؤال الذي سوف تظل تبحث بنهم عن اجابة له، وتشهد بذلك مسرحياته "مستورة" , " عجلة جادين الترزي" .. وغيرها من مسرحياته العديدة التي بعد ان تشاهدها تظل معك تؤرق احلامك بكوابيسها الغرائبية وبواقعيتها المفرطة المغلفة بدقة فنية في اطار فنتازي. فتخرج من عرضه المسرحي كالناجي من أهوال حرب ، وتحاول ان استطعت سبيلا التخلص من كل أوجاع التروما، وتفكر عملياً كيف سوف تغيير وتنقذ ما يمكن انقاذه من بؤس الحياة السودانية الذي اقتطف منه مجدي النور بحساسيتة الخاصة وإيماءاته اللماحة مشهدية كاملة الخراب جعلها تشغلك لدرجة الإنتباه والوسواس ، وجعلنا نري انفسنا في مرايا الواقع بعقولنا وقلوبنا في آن واحد. و تتوقد أذهاننا كمتفرجين فاعلين وطرفاً اصيلاً في عملية انتاجه الابداعية علي حسب منهجه النظري الذي يتبعه ويقف خلف كل اعماله العظيمة، محققاً بذلك احد ضروريات الفن السامية للحياة.

أتذكر، وكأنه بالأمس فقط، في العام 1994 مجدي النور الممثل و تشخيصه المتمكن لشخصية " ذو الكوع الناشفه" في مسرحية " فرسان الرمال" الماخوذة عن رواية للكاتب البرازيلي جورجي أمادو بذات العنوان؟!! في عام تخرجه من كلية الدراما والمسرح تلك المسرحية التي هي مشروع التخرج لرفيقه وزميل دراسته المخرج عبد المنعم إبراهيم "شوف" والتي تعد من ابرز الاعمال في تاريخ كلية الموسيقي والدراما بالخرطوم تميزاً تمثيلاً وإخراجاً وأعداداً مسرحياً!!
وفي نبض القلب والذاكرة أفلام مجدي النور ومسلسلاته القصيرة وأغنياته : طفلة العصافير الموسمية، فاجأني النهار، مشوار............ وابتسامته التي لا تموت هي عنوانه الدائم في كل القلوب وأغنيتة السرمدية!!
سوف تظل سيرته وآثاره الملهمة لكل من يريد ان يسير في طريق المجد والنور اذا امتدت كل ايادي اصدقاؤه واجتمعت بعيداً عن الاشكال البيروقراطية لتنجز لنا وللاجيال القادمة مشروع مطبوعة " الآثار الكاملة للمبدع مجدي النور" كتابته الشعرية والمسرحية وسناريوهات الافلام والمسلسلات ، حتي تخطيطه الأولي لمشاريعه القادمة بخط يده وقصاصات قصائده المنسية وهناك وهناك بطرف الأصدقاء.

كي نسطيع ان نبتلع أهوال هذا الغياب المبكر ولوعته للمبدع مجدي النور1967-2006 الدعوة ايضاً لمجموعة ساورا الغنائية، والموسيقار عبد الوهاب وردي بوصفهما أول من اطلق شعره مغنياً لتبني إنتاج ألبوم غنائي باسم " طفلة العصافير الموسمية)" وتلحين نصوص أخري من شعره. كي يبقي بيننا أحد رسل الحداثة والتجديد والتجريب والتنوير في الثقافة السودانية.
فله المجد..
وله النور..
وسوف تبقي وتتوهج ولا تصدأ وتشتعل فينا مثل لبلاب سماوي إبتسامته و "طفلة العصافير الموسمية " إلي أبد الأبدين.

* مسامرة سودانوية .. عنوان المقال الشهري الذي يكتبه عفيف إسماعيل في صحيفة"المهاجر" التي تصدر عن منظمة "المهاجر الثقافية" باستراليا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا