الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلا بطيخ..!

صبحي حديدي

2003 / 7 / 28
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

أنقل عن موقع "أخبار الشرق" على الإنترنت هذا الخبر غير العادي: في إحدى مزارع محافظة درعا، جنوب سورية، تجاوز وزن البطيخة الواحدة 60 كيلوغراماً، أي ما يكفي لإطعام أكثر من 100 شخص. وهذا الصنف من البطيخ منتخب، غير مهجّن وغير معدّل وراثياً، ممّا يعني إمكانية زراعة بذور هذا البطيخ بحيث تنتج نفس الصنف والوزن. والشروط المطلوبة ليست خارقة للمألوف في العديد من مناطق سورية الزراعية: صيف حارّ وجافّ، وتربة غضارية خفيفة، وريّ بالتنقيط.
وبمعزل عن بهجة هذا الخبر بالنسبة إلى مواطن سوريّ مثلي، انتابتني فرحة إضافية خاصة لأنّ المزرعة تقع في محافظة درعا، أو حوران كما نقول شعبياً في سورية. ذلك لأنّ هذه المحافظة الخيّرة ظُلمت مراراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً، رغم أنها بين أبرز أهراء سورية (تماماً مثل منطقة الجزيرة)، ليس في إنتاج الحنطة الحورانية الشهيرة فحسب، بل أيضاً في إنتاج الشعير والزيتون والعنب والخضروات واللوزيات. وكان الشاعر الأردني عرار (1897 ـ 1949) قد امتدح خبزها القمحي في بيت جميل:
     فلا عليكَ إذا أقريتني لبناً             وقلتَ خبزتنا من قمح حوران
والحال أنّ ذكر حوران في الشعر العربي، وفي معظم كتب التراث الأساسية، كثير وافر لأسباب عديدة ذات صلة بموقع المنطقة في التاريخ القديم والوسيط والحديث، وخضوعها لقوي إقليمية كبرى كالأنباط والرومان قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع، وعلاقتها الوثيقة ــ جغرافياً وإنسانياً ــ مع منطقة الجولان الإستراتيجية والعريقة الخصبة بدورها. وفي هذا يقول النابغة:
     بكي حارث الجولان من فقد ربّه        وحوران منه موحش متضائل
وآثار حوران تدلّ على غنى المنطقة بالفعل، وفي رأس تلك الآثار قلعة بصرى التي بناها الأنباط، ثم هدمها الرومان، وأعاد الأنباط بناء مسرحها الكبير، واتخذ الأمويون من مدرجها نواة لبناء القلعة. كذلك احتضنت سهول حوران معركة اليرموك الشهيرة، سنة 636 م، بين المسلمين والروم، وانتهت إلى هزيمة أقوى جيوش العالم آنذاك. ولسوف يطلق هرقل كلمته الجريحة الشهيرة حين غادر المنطقة: "السلام عليك يا سورية، سلاماً لا لقاء بعده، ونِعْمَ البلد أنت للعدوّ وليس للصديق، ولا يدخلك روميٌ بعد الآن إلا خائفاً".
وفضلاً عن الحيف القديم الذي حاق بحوران على أيدي الولاة والحكومات السورية المتلاحقة منذ مطالع القرن الماضي، خضعت حوران في السنوات الأخيرة لظلم خاصّ كان سببه المباشر ذلك الصعود السياسي المفاجىء لأحد أبنائها، الراحل محمود الزعبي، وتولّيه رئاسة مجلس الشعب (4 سنوات) ثمّ رئاسة الوزارة ( 13 سنة). وكما فعل الشارع السوري مع "الحماصنة"، أهل حمص الذين ضربوا الرقم القياسي في بلوغ سدّة الرئاسة السورية، كذلك فعل مع "الحوارنة": تأليف النكات التي تدور حول مسائل شتى، ولكنها في الجوهر لا تبتعد البتة عن الموضوع السياسي.
محتوى الظلم في حكاية النكات هذه أنّ أهل حوران لم يستفيدوا كثيراً، ومعظمهم لم يستفد أبداً ربما، من وجود الزعبي في مجلس الشعب أو رئاسة الوزراء (كما كانت الحال بالنسبة إلى مسؤولين آخرين من أبناء المحافظات التي تُعدّ مدللة وذات حظوة خاصة). ومن جانب آخر، كانت بعض النكات تنصف الحوارنة فتعكس طبيعة المزايا المتواضعة التي يمكن للحورانيّ أن يحلم بالحصول عليها عن طريق "أبو مفلح"، الراحل محمود الزعبي. فعلى سبيل المثال تقول إحدى النكات إنّ أهل حوران بعثوا وفداً من وجهائهم لمقابلة رئيس الوزراء ومطالبته بشيء واحد لا غير: أن يصنع لهم بحراً في حوران. وحين استغرب الراحل وسألهم عن سبب حاجتهم إلى البحر، قال كبير الحوارنة: لكي يُقال إننا من أهل الساحل! وبالطبع، لا تغمز النكتة من قناة الحوارنة بقدر ما تذكّر بأنّ أهل الساحل (اللاذقية وطرطوس، حيث مسقط رأس معظم رجالات السلطة) هم أهل النفوذ والقوّة والجاه.
ولستُ أذكر الراحل الزعبي هنا لهذا السبب السياسي ـ السوسيولوجي وحده، بل أيضاً لأنّ مالك المزرعة التي أنتجت ذلك الصنف الإستثنائي من البطيخ الحوراني يُدعى المهندس محمد الزعبي! الاسم بالاسم يُذكر، في أقلّ تقدير، وليس جميع آل الزعبي (وهم أسرة كبيرة واسعة متشعبة) من نوع الراحل الذي انتحر أو نُحر، الله أعلم. المهمّ في الأمر أنّ رحيله قطع الإسترسال السلس لوقائع ما عُرف آنذاك باسم "حملة مكافحة الفساد"، فأسدل ستاراً ثقيلاً ــ مبكّراً، صاعقاً، مفاجئاً، وعنيفاً ــ على فصول مسرحية تراجيكوميدية أُريد للزعبي أن يكون بطلها.
وفي بلاد الشام نقول "بلا كذا، بلا بطيخ"، دلالة على اليأس من أمر ما أو السخط من عدم تحقّقه أو نفض اليد منه أو استبعاده... وهكذا في وسعنا أن نطري بطيخة حوران الإعجازية التي تطعم 100 آدمي من جهة، وأن نتذكّر من جهة ثانية تعطّل أو تعطيل "حملة مكافحة الفساد" تلك، فنقول: بلا إصلاح، بلا بطيخ!

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف مهدت والدة نيكو ويليامز طريقه للنجاح؟


.. لبنانيون محتجزون في قبرص بعد رحلة خطيرة عبر قوارب -الموت-




.. ستارمر: -التغيير يبدأ الآن-.. فأي تغيير سيطال السياسة الخارج


.. أوربان في موسكو.. مهمة شخصية أم أوروبية؟ • فرانس 24




.. ماهو مصير هدنة غزة بعد تعديلات حماس على الصفقة؟ | #الظهيرة