الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الصلب: الرئيس العراقي شانقاً ومشنوقاً

فالح عبد الجبار

2007 / 2 / 10
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



ثمة سبل شتى لاسباغ الشرعية على القتل ، نظمت له طقوس جماعية ، وادوات تجمع العلم بالفن، بالتنوع .
ابتدعت الحضارات وسائل شتى: السيف للقطع، الفأس للنطع والمقصلة للبتر وحبل المشنقة للخنق ، وهي أدوات حرب وأسر قديمة قدم الكائن البشري . وهي تستهدف رأس الكائن ، كوى تفكيره واحاسيسه ، ونافذته على العالم . وينبغي اغلاق كل هذه النوافذ دفعة واحدة . لعل ابشع ادوات الموت هي الحرق ( للساحرات والهراطقة )، أو دفن المرء حياً كما فعل بعض الخلفاء بالخصوم، أو الرمي من أكمة صخرية . ثمة طقوس اخرى تُرمى فيها الاضحية البشرية الى الضواري المفترسات ( حلبة صراع الرومان ) ابتدع الفرنسيون المقصلة ، ابتدعها مخترع كان يرمي زعماً الى اختزال الألم الانساني . وابتداع الاميركان الكرسي الكهربائي ، فحولوا اختراع اديسون المنير الى جهاز شواء بشري ، تتفجر فيه الدماء من مسامات المعدوم على الكرسي . ثم ابتدعوا الزرق بالأبر ، أو الانتشاء المميت بالغاز السام . لكن طقس الفناء المنظم هذا، الجماعي بالتعريف، كان دوماً بحاجة الى نظارة . وحيثما ثمة نظارة ، ثمة فرجة ، ثمة إمتاع ، مشهدية منظمة. فها هنا اضحية بشرية معدة للفناء ، وها هنا احياء يحتفون ، على الارجح، بانهم لا يشهدون موتهم الخاص، بل نهاية كائن آخر.
تجتذب هذه الطقوس الدهماء ، وتذكي فيها كل الغرائز الدنيا .
تبدو واقعة اعدام الرئيس العراقي المخلوع بسيطة، مثل اية واقعة اخرى ، رغم حشد المشاعر الجياشة التي اطلقتها ، فرحاً بنهايته ، او أسىً عليها .
تبدو لي " الواقعة " شائكة ، بل مركبة ، تشبه الإله الاغريقي جانوس ، صاحب الوجوه الاربعة ، حارس الابواب والاتجاهات ، سيد الاقنعة ، الناظر في كل حدب وصوب . بدا المشهد تراجيديا وكوميدياً في آن . فالجلادون ، أي منفذو الشنق ، ظهروا بأقنعة سوداء ، على غرار حامل الفأس الكلاسيكي الذي يظهر في افلام هوليود ، عاري الصدر ، مفتول العضل، يضع رأٍس الضحية (مليكا او مليكة ، نبيلاً او نبيلة ) على النطع ، ويعتذر من الضحية ، ثم يهوي بالفأس بلا رأفة .
هذا الجلاد يبدو باعتذاره رجل كياسة ولطف ، وما اعتذاره إلا كنايه عن هذا الادب . ثمة "اسطورة" شائعة في السعودية ان عوائل المحكومين بالاعدام تدفع للسيّاف اعطية كي يشحذ النصل ليبتر ببراعته عنق ابنهم دون كبير إيلام. تشي هذه "الحكمة " بحنو الاهل . أما في العراق فثمة " حكمة " اخرى تشي بحنو الدولة على الجلاد .
يُقال في العراق ان منفذ الاعدام ( الجلاد ) المكلف بوضع الانشوطة حول الرقبة . ثم سحب عتلة بوابة الجحيم ، يكابد مشقة المهنة ويبلغ من الرقة مبلغاً بحيث أن المحكمة تدفع له مخصصات "ربع" ( بطحة ) عرق لكي يكرعها ويخدر حواسه أمام هول ما هو صانع ! لا ادري من اخترع هذه الاسطورة ، غير ان ابناء جيلي سمعوها مراراً . لعل هذا التخيل يحوي بذرة حقيقية: احترام جلال الموت حتى عند الجلاد . ولعل مبتكر الحكاية أراد القول أن القتل بشع ، حتى لو كان مشروعاً. فالحضارة البشرية تسعى ، منذ أن بدأت تسن الشرائع ، الى الخروج من عالم الحيوان، وان يكن بوسائل حيوانية ، حتى الآن .
في مشهد الاعدام العراقي ، كما سجلته العدسات ، بدا المنفذون المقنعون يمارسون الطقس بحرفية عالية، بل بانتشاء . أما النظارة ، وهم كثر ، فقد كانوا اغلبهم هناك للفرجة ، والتشفي ، وهنا ايضاً نجد على غرار افلام هوليود ، اقنعة وغوغاء ، صياحاً وبذاءات، سيان ان تصرخ الدهماء: الموت للملك ، أو أن تهلل وتكبّر ! فالدراما واحدة .
في الحشد ، كان الرئيس – الاضحية هو النجم . بدا ، لحظة دخوله ردهة الاعدام ، شاحباً فبشرته السمراء، زيتية اللون ، لكنها بدت بلون الطباشير . اما عيناه فزائغتان ، تفتقران الى التركيز في النظر . تلك كانت لحظة رهبة ، موجعة ولا ريب.
اعتاد الرئيس ان يرسل أضاحيه الى المشنقة من مكتبه الرئاسي ، بامضاء . ولعله فعل ذلك مئات المرات ، دون ان يدلف قاعة اعدام قط. ها هو اليوم يدخل اول مرة لآخر مرة . بدا انيقاً بمعطفه الكشميري ، الداكن ، وتمالك رباطة جأشه: بعد هنيهات ارتباك كفت عيناه عن التقلب ، وراح يشخص بناظريه الى نقطة وهمية في الفراغ ، في وقفة استعداد عسكري ، في تهيؤ لاستقبال تلك القفزة المميتة .
كان مدركاً ، على ما يبدو ، ان عدسات الكاميرا ، التي عشقها واحتكرها ، مصوبة ، وينبغي أن يكتب النهاية على طريقته . لحظة لفوا على رقبته وشاحاً أسود قبل وضع الانشوطة ، أشحت وجهي عن الشاشة . تعطلت كوامن فضولي بغتة ، بعد أن تعطلت كراهيتي له أصلاً ، منذ القبض عليه، واستحالت نوعاً من ازدراء خاص لا أسم له .
تفقد اجراءات التنفيذ مغزاها بل جوهرها القانوني، حيث تتحول الى هياج دهماء منفلت.
يبدو طقس الموت الشرعي، في نظر مبتكريه، دراما اغريقية جوهرها " التطهير"catharsis فالفكرة في الاساس (كما قال هيجل) هي ان العقوبة"حق المجرم"، فهي، بكلماته ايضاً، اعتراف بآدميته، واقرار بأنه داس على حدود هذه الآدمية. وترسم الحضارة، عادةً، حدود هذا التجاوز وسبل ردعه. وبهذا المعنى فالطقس، على قساوته، برهان على ان قسوة مماثلة قد وقعت، وان التطهير بات ملزماً للممثل والنظارة على حد سواء.
ويشهد طقس النهاية هذا ، عادة، ممثلون عن القضاء، اعترافاً بأن الشرائع المدونة هي اساس هذا التبرير وغايته. بل ان اسر الضحايا تدعى أسوة بأصدقاء المدان، في مسعى مزدوج، لإشباع رغبة الثأر وهي شكل قديم للعدالة غير المقننة، وتوديع الاهل. ولا نجد هذا التوازن الاخلاقي الا في افلام الغرب، وتقاليده. نحن لنا خصوصيتنا. وهذه الخصوصية تكمن في طمس كل مقاصد القانون، واطلاق النوازع السفلى. بتعبير آخر نحن نحبذ استمرار القسوة، من الجلاد الى الضحية، من الدكتاتور الى الدهماء، ومن الدهماء الى دكتاتور جديد.
يرقد الرئيس المخلوع الآن في تلك الحفرة الابدية، حيث اللامبالاة المطلقة بسوءات الكائن البشري، او مزاياه. ها هو ذا يدشن المآل الذي اختاره لكل خصومه. وان التأمل في هذا المصير يبدو لانهائياً في تشعباته.
فوجوه الرئيس لا عدّ لها.
ثمة الرئيس القروي القادم من قرية العوجة، وثمة الرئيس القاتل الذي يطلق النار على الزعيم عبد الكريم قاسم،وثمة الرئيس السفاح الذي يأمر بأبادة قرى كاملة بالغازات، وثمة الرئيس "المناضل" في الحزب السري، وثمة الرئيس القبلي، وثمة الرئيس المحارب، والرئيس العروبي، وثمة الرئيس المخلوع، وثمة الرئيس المدان.
لقد وثق هذه وغيرها من الادوار في معرض خاص، حوى صوره الفوتوغرافية بلباس عسكري، وآخر مدني، بسدارة عراقية وعقال عربي، او "غترة" راعي، او شروال (سروال) كردي، او قبعة صياد الماني، او معطف فرو روسي.
يصور الصديق فاضل العزاوي، في احدى قصائده، دكتاتوراً شغوفاً بالتماثيل الالف التي صنعت له، فيزورها خلسة، ويجلو عنها الغبار، ويمحضها حبه وبركاته، ولما وجد ان هذه التماثيل تحظى برعاية وحب اكبر مما يصيبه، وخزته اشواك الحسد. ولعله حطمها، لينفرد هو دونها بالاضواء.
في كل هذه التلاوين ثمة شيء ثابت: لقد رسم الرئيس المخلوع-الميت، ملامح الدولة والمجتمع على صورته، بقوة الكرباج، وبالذهب الرنان. من قبيلته استمد قطيعاً من الجلادين، لا يختلف في اخلاقه كثيراً عن الدهماء الفجة التي طاردته باللعنات لحظة اعدامه، ومن الفورة النفطية ملأ خزائن المال، ونثرها يميناً وشمالاً.
سيرة المجتمع والدولة في العراق، تشبه سيرة رئيسها العجوز ولكن بالمقلوب.
بدأ الرئيس طفولته قروياً مخلوعاً، يركن الى دفء القرابة في بيت خاله رغم ان النسب الامومي مذل تماماً في عالم الذكور البطرياركي.
في يفاعته تشرب افكار القومية النازية الالمانية من خاله، خير الله طلفاح، نائب الضابط الاحتياط، والمذيع الذي يلقي خطابات نارية نازية، سمجة، ومملة، من اذاعة بغداد في الاربعينات. وفي شبابه انجذب الى البعث، حزباً قومياً، بمسحة ليبرالية.
وفي رجولته اخذ يميل الى اليسار، وراح يرنو الى ستالين والستالينية، فكرة "الاشتراكية" الممركزة التي تحميها دولة عاتية وزعيم معبود.
لكن الدولة العراقية اتخذت، في المحطات الرئيسية، مساراً مقلوباً: ابتدأت بنزعة اشتراكية-ستالينية، لتبتز اليسار العراقي وتغنم تراثه، وتحولت الى قومية معتدلة، وانتهت قبلية، قروية، محافظة. ختم هذا التطور على الدولة والمجتمع بخاتمه. فالدولة فقدت كل مقوماتها المدنية، وتهاوت المؤسسات الواحدة تلو الاخرى. اما المجتمع فان تمزقاته اعادته القهقرى الى دفء القرابة، لائذاً بالجوامع، باحثاً عن حساء الاحسان، ذاهلاً عن وجوده الانساني.
ان كان ثمة ارث لهذه الحقبة، فهو التدمير المنظم لكل ما هو مدني. وما الغرائز الدنيا التي احاطت بصانع هذا الارث لحظة اقصائه عن الوجود سوى نتاج هذا التدمير.
كان ينبغي لمحاكمة الرئيس المخلوع، والحكم عليه، وتنفيذ هذا الحكم ان يجري مجرى مدنياً. وبخلافه فاننا نعود القهقرى نتدحرج مثل حجارة، بلا ذاكرة ، بلا أفق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا