الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في روايتين لصبري هاشم

منير العبيدي

2007 / 2 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


في تقديمه لأحدى روايات صبري هاشم " حديث الكمأة " كان قيس الزبيدي موفقا في اقتباس مقولة آلن روب غرييه القائلة : "على كل روائي - في كل رواية – أن يخترع شكله الخاص "
إن الشكل الخاص بالرواية الذي أشار إليه الن روب غرييه هو المسار الشخصي لها ، ذاك المسار الذي يفرض نفسه على المؤلف ربما منذ السطور الأولى للعمل كقانون عام مشترك لكل الأشكال الإبداعية بمعنى : أن ما بعد الانغمار في العمل الإبداعي ، ما بعد الشرارة الأولى التي تتحول الى كتابة أو لون وشكل أو تدوينة موسيقية ... نجد أن مسار العمل يقود الكاتب وفق منطقه الخاص بالرغم منه و بمباركة منه . و بالرغم من أن الرسام ، الموسيقار أو الكاتب .. الخ هو في نهاية المطاف خالق العمل ، إلا أن كل عمل ، و ضمن ذلك الرواية ، له مساره الخاص ، سيرته الشخصية التي لا تشابه السير الأخرى حتى ضمن أعمال لنفس المؤلف ، إذ أن الرواية كما كل الأعمال الإبداعية الأخرى تفرض منطقها الخاص ، أكاد أقول منذ البداية . و يبدو أن من مهمات الكاتب و المبدع بشكل عام إدراك الملامح الخاصة بهذا العمل و ذاك و شروط تطوره الخاصة التي لا تتطابق مع شروط تطور عمل آخر له . عليه أن يقتنص و يوظف هذا المسار الخاص الذي لا يكون بكليته خاضعا للوعي والتخطيط . إن قدرا من المطاوعة و المسايرة لمسار النص لهو أمر ضروري لكل كاتب و مبدع .
فشروط العمل الإبداعي ، الشروط التي تسبق الشروع ، فريدةٌ من نوعها و تبدأ بفترة تطول كثيرا أو قليلا مستبقة المباشرة به : تهويمات ضبابية ، إيحاءات ، صور، قلق ، عدم استقرار ..الخ تسبقه و تهيئ له ، إنها لا تقوم على الفراغ ، كما قد يرغب متفحص أن يفسر كلامي ، بل إنها بقدر ما تقوم على تراكم طويل و تحضيرات لولادة لا تشابه الولادات الأخرى حتى لو كانت من نفس الرحم .
الوصف
على أن الاقتباس الذي اعتمده قيس الزبيدي هنا ليس صحيحا بشكله العام فحسب بل إنه صحيحٌ بشكله الخاص و في سياقه ، أي في التقديم لرواية لصبري هاشم . فصبري هاشم اخترع في رواياته شكله الخاص القائم على العديد من الملامح التي سنعرض لها ، و ضمن أشياء أخرى : على انقطاعات في السرد و التتابع الدرامي من اجل الوصف و المزيد من الوصف للأشياء و الأشخاص ، و كذلك على نصٍ بشاعرية عالية و أبيات من قصائد مبثوثة في مسار الرواية هنا و هناك . و إذ نجد أن الوصف في الرواية ليس بالأمر الجديد عموما إلا انه لديه هنا يأخذ حيزا كبيرا و طويلا و يتحول هنا و هناك الى مناشدة شعرية . و في روايته الخلاسيون يتغير الإيقاع السردي و يدخل عوالم جديد و أشكالا إيقاعية جديدة ما أن يلجأ الكاتب الى الوصف مضفيا على مسار الرواية تنوعا كاسرا للرتابة .
فحين يذهب جابرُ الصغير ليستعيرَ لأبيه ربطة عنق من خليل كي يحضر الجنازة يرى خليلا مُرخيا ساقي امرأته على كتفيه .... لم يطرق الباب و يقسم أن لا يطرقه ، كما يقول ، حتى لو ذهب أبوه إلى الجنازة بدون ربطة عنق حتى تتم الطقوس . يقوم بعدها بعدّ الداخلاتِ الى المأتم بغزل صبي لم ينضج بعد ... و بعد أن يُشار إليه بأن يقوم بدور القاسم يسأل عمن تقوم بدور سكينة فيُقال له : سهام الخلاسية . ثم يتنادى الرجال : " أن أبعدوا جابر المسحورَ عن صبيتنا لقد أفسد ما في نفوسهم " يلجأ الى بيت خالته التي تمنحه قدرا من الحنو فيجد عندها حليمة العذارية ... في هذه اللحظة يتوقف عنده الزمن و يأبى أن يكون وجودُ حليمة مجردَ لحظة عابرة ، مجردَ وجود مادي ملموس مهما كان ساميا ، يتوقف عنده السرد و التتابع لصالح ما هو أجدر بذلك ، لنقرأ : " كانت أجملَ ما يكون و أطرى ما يكون و أنفسَ ما يكون ، امرأة يافعة جُبلت من زبدة ممزوجة بالطيب ، شعر نُسجَ من حرير ، فمٌ عقيقي ، شفتان ناريتان زُمّتا على هيئة كرزة ، عينان زمردتان تسبحان في قاربي جمّار ، بطن ضامر على قامة رهيفة ، حليمة طل الصباح ، فارقها زوج قبل حين . .... " ص 15
في مواقع أخرى يأخذ الوصف شكل مناشدة أو مناجاة ... ففي صورة مرسومة بعناية نجد أن النخل قد ثمل بعد أن استوحش و ضاق ذرعا بتيجانه فعب جرعة من مجده التليد ، نجد الراوي الذي هو جابر المسحور نفسه بضمير المتكلم مرة كما في عدة مواقع و نجده الشخصَ الثالثَ مرة أخرى و في مواقع أخرى كراوية ما يخاطب سهام الخلاسية إذ هي : " انسياب الخمرة في ربيع العيون ، هي الدرة التي انكشفت أسرارها و ضيعت مغاليقها ، و هي المهرة التي انتظرت فارسا يتدلى من الثريا و يمتطيها " . وهي بدورها تخاطبه : " انتظرتك يا إله الغواية تستدرجني إلى رحم المعصية ندور في أفلاكه . فلولاك لهلكت نظارتي و اعتصرتني غربة و لولاك لهجت ظبائي من جدب فأنت ضعفي و قوتي ..... و يستمر هذا الشكل من الحوار مغطيا صفحة أو نحوها .
هذه الصيغة سنجدها في مواقع كثيرة أخرى .
لا يمكن للحدث ، للسرد ، للتتابع الدرامي إلا أن يكون ضمن إطار المكان والزمان . ليس بوسعه أن يستغني عنهما ، ليس بوسعه أن يكون معلقا في اللامكان أو اللازمان ، و لذلك يحتاج الى الوصف لكي يجعل الحدث في إطاره زمانا و مكانا . على أن التبرير العام بحتمية الوصف وضرورته ، بحتمية الإحاطة بجو الحدث السردي و ظروفه لا يحل إشكالا لاحقا ملازما : أي وصف نقصد ؟ ما هو الحيز الضروري الذي يجب أن يشغله ؟ ما الوصف الجدير بتغطية العديد من الصفحات و ما هي المناشدات و الحوارات و المنولوجات التي تستحق تدبيج العديد من الصفحات ؟ هذه بالتأكيد مهمة الكاتب الذي يجب أن يكون مقنعا انه بعمله هذا يكمل الصورة و انه بدون ذلك ستكون الصورة ناقصة . أن يكون مقنعا ليس نقديا أو في تبرير لاحق بعد إنجاز العمل ، و إنما المقصود أن يكون مقنعا إبداعيا في إطار العمل نفسه بخلق توازن بين المسارين السردي و الوصفي و ما يستلزمانه من صور شعرية .
خصائص لغوية
و في سياق نفس الاقتباس الذي استهل به قيس الزبيدي تقديمه لرواية " حديث الكمأة " أي سياق اكتشاف الشكل الخاص بكل رواية سنعمل في مسار الروايتين ( الخلاسيون و حديث الكمأة ) على أن نتتبع بعضَ الخصائص اللغوية لصبري هاشم . من اللازم أن أقول إن صبري هاشم يهتم بلغته كثيرا و ربما يراجع ما يكتبه مرات عديدة و يُجري عليه تعديلات و يعيد تقديم و تأخير بعض الكلمات أو الجمل . هذا ما توصلتُ إليه من خلال قراءتي لهاتين الروايتين . و من المنطقي التوصل الى أن صبري هاشم كان قد تابع نفس النهج ، أي المراجعة و التدقيق اللغوي في كل أعماله ، فهذه الخاصية ، أي التدقيق في العمل ، هي صفة يختص بها بعض الكتاب وليس كلهم .
و يتجلى بعض هذه الخصائص اللغوية فيما يلي :
1ـ تأخير الفاعل و تقديم الجار و المجرور أو المفعول به عليه من أجل تفعيل الإيقاع و الخروج عن الرتابة و من أجل بناء جملة شعرية تتوافق أحيانا مع كلاسيكيات الشعر العربي .
تسمح اللغة العربية بهذا اذا ما قورنت بلغات أخرى بحكم مرونتها و بحكم إنها تطورت و تكيفت من اجل ملائمة الإيقاع الشعري تاريخيا ، فهي لغة شعر أولا و كانت أكثر من أية لغة أخرى ذات مهمات بلاغية ، و أمثلة تأخير الفاعل و تقديم المفعول به ، مثلا ، كثيرة التردد في اللغة الشعرية القديمة مثل قول طرفة بن العبد تحذيرا لخؤولة له اغتصبوا حقا لأمه :

قد يبعث الأمرَ العظيمَ صغيرُه حتى تظل له الدماء تصبب

و في مثل هذه الحالات و تبعا لها ، ألزم صبري هاشم نفسه بما لا إلزام ، عادةً ، فيه . أي تحريك آخر الكلمات حين يكون ثمة ما يدفع الى الالتباس في تحديد الفاعل أو غيره . سنلاحظ ذلك على أوضح ما يكون في حديث الكمأة على خلاف الخلاسيون. و لكننا مع ذلك سنستشهد أولا بما ورد في الخلاسيون من أمثلة تأخير الفاعل بشكل مقصود ، ثم نعرج على بعضه في حديث الكمأة :
" لن تصبح الجزيرة سجنا آمنا و لو ازدحمت بأشلائنا الأرض و بأرواحنا السماوات " الخلاسيون ص 28
" مأتما لصبايا أفسدت بيوضهن الحاجة ، لعذراوات فضت غلالاتهن الفجيعة " الخلاسيون 52
لكنه هنا في هذه الجملة ، و لكي يخرج من الرتابة و يمنع التكرار الإيقاعي الممل يكمل بخلاف ذلك أي بتأخير المفعول به هذه المرة و تقديم الفاعل كما هو مألوف :
" لحاملات أجهض الخوف بطونهن "
ثم نستمر
" إلى وجه اليم سيغادر رتل ، كان نسيما فتمايل النخل " ص 124

ثم في حديث الكمأة سيتوسع هذا النوع من البناء اللغوي فيُظهر ، إضافة الى خاصية تأخير الفاعل ، خصائصَ أخرى و تعقيدا بنائيا متقدما :
" ربما ظلّت تبحث عن عشبة أضاعتها ، على مشارف البادية ، قافلة " ص 33 حديث الكمأة
و لو أنه قال افتراضا : " ربما ظلت قافلة تبحث عن عشبة أضاعتها على مشارف البادية " لما كان للجملة عندها نفس الإيقاع و لكانت جملة مطروقة .
فإضافة الى احتلال الفاعل " قافلة " آخر موقع في الجملة هنا ، نجد أيضا جملةً اعتراضية محصورةً بين فارزتين وُضعت بعناية و إدراك لكي تتوسط الجملة الكاملة . و بذا تكون الجملة قد رُكّبت من جملتين .
و بالرغم من الجملة التالية قائمة على تأخير الفعل و ليس الفاعل هذه المرة إلا أنها تشترك مع الجملة السابقة في البناء القائم على الجملة الاعتراضية الهادف إلى مراعاة الإيقاع :
" خولة ، و نحن في الأصيل ندخل ، تأتي " ص61 حديث الكمأة
و تواصلا مع تأخير الفاعل نواصل القراءة :
" نحن من بلدة يحرس الليلَ همسُ نمائها و على أبوابها تاريخ يهلل " ص 69 . هنا يُكسر الإيقاع مرة بتأخير الفاعل " همسُ نمائها " ومرة بتأخير الفعل " يهلل " و تقديم الجار و المجرور .
و تواصلا مع ما قبلها و تطويرا له تصل الجملة الى أقصى تركيبها لديه في حديث الكمأة في النموذج التالي
" نحن من بلدة أسهر الأمصارَ شدوُ شاديها و لها في الكلام قريحة تطرب .... تشفي عن الأهل غريبا ورودها ، ويسكت صيحةَ المدارِ صهيلُ خيلها "
لنلاحظ تحريك آخر الكلمات ، و الذي نقلته كما ورد في النص ، حيثما رأى الكاتب ذلك ضروريا . من الممكن أن يُكتب الكثير عن هذه الجملة الأخيرة و خصوصا في الدخول في التفاصيل الإعرابية و عندها ربما سيكون الموضوع مملا للقارئ ، و لكني أشدد فقط على ما قاله الكاتب في وسط الجملة : " و لها في الكلام قريحة تطرب ".
بهذه الإضافة كان الكاتب موفقا جدا في إحداث إيقاع مدروس و ناجح ، و بها يتضح اهتمامه بموسيقى اللغة .
و أخيرا ، وفي سياق التركيب اللغوي ليس بوسعي أن أتجاهل الجملة التالية :
" أعتقيني يا أرض الكمأة فأنا لا أعلم كيف ستكون ، إذا جفت الرؤية ، الحدقاتُ..... " هنا التركيبة متأتية من تأخير اسم كان " الحدقاتُ " و التي تنطوي على احتمالين : أن تكون " كانت " فعلا ماضيا تاما و ليس ناقصا أو أنها فعلٌ ماضٍ ناقص خبرها محذوف جوازا . الأول هو الأقوى ، كما أرى .
2ـ تقديم المفعول به على الفعل :
" و ظلت تجمع الرحيق من تويجات سكرى . تويجا تُقبل ، و آخر تدلل " . هذا على سبيل المثال و ليس الحصر .
3ـ تقديم الجار و المجرور على الفعل
" لم تمض ساعة حتى الى حينا صاروا... و الى جوارنا سكنوا " ص 35 حديث الكمأة
" إلى الباب طرتُ ، كأن يدا انتزعتني من فضاء بهي " ص 39
لا يحرك كتّاب الرواية العربية في الغالب أواخر الكلمات ، فيما تُظهر كتابات صبري هاشم العكس ، أي إنها تظهر قدرة لغوية ـ نحوية ـ تأسست عليها مرونة لغوية ، فلا مرونة لغوية بدون قدرة لغوية ، فالتعامل مع أمور كهذه يعكس معرفة بخفاياها ما جعلها مألوفة سهلة الانقياد .
اغفل نقاد كتبوا عن صبري هاشم هذه الخاصية ـ أي تمكنه من قواعد اللغة العربية ـ و بالتالي قدرته على التصرف بها ، في الوقت الذي حفلت الكتابات عنه بأخطاء لغوية لا تغتفر .
وخلاصة متابعة البناء اللغوي لروايتين نلاحظ بوضوح التطور اللغوي لصبري هاشم تأسيسا على المقارنة بين روايتين و استنادا الى اكتساب صوره الفنية المزيد من التركيب و المزيد من التعقيد . و تعكس المقارنة جدلية العلاقة بين اغتناء الصور و اللغة المناسبة لها ، فلغة جديدة إستلزمتها و طالبت بها صورة أكثر تركيبا و ثراء تقوم هي بدورها برفع الوعي بكافة أشكاله و ضمن ذلك الوعي الجمالي .
خصائص أخرى
من أجل تحليل أشمل لأعمال صبري هاشم نحتاج الى تأشير ملامح أخرى من خصائصه الأسلوبية و صوره و رؤاه . فالبنية الفنية و الأسلوبُ العام للرواية و الصورة التي ترسمها لغة الكاتب ، إضافة الى ما تناولناه في بعضٍِ من ملامح نهجه اللغوي و توظيف تمكنه من قواعد اللغة ، هذا كله ليس كافيا بحد ذاته ، إن ذلك كله لا يستنفذ كامل البناء الفني و القائم ، ضمن أشياء أخرى ، على شاعرية النص المنثور أو النصوص الشعرية الصريحة ، و يقوم على اعتماد ملامح أسلوبية أخرى مثل السجع : و هو شكل من أشكال الإيقاع اللغوي يقوم على إنهاء الجمل بالكلمات التي تنتهي بحروف متشابهة وبه يصل أسلوبه في بعض المواقع الى ما يشبه أدبَ العصر الإسلامي الوسيط و أسلوب " ألف ليلة و ليلة " ففي الخلاسيون نجد أمثلة منها ما يلي :
ـ " يا أيتها الريق إذا الريق نشف ، يا أيتها الكبد إذا الكبد تلف ، و يا أيتها الرأي إذا الرأي سخف " الخلاسيون ص 79
ـ " ما بين البصرة و برلين فرسخ طويل ، في ليلهما وجه جميل ، في ما بينهما كلام نبيل " ص 98 الخلاسيون .
هذا على سبيل المثال لا الحصر .
على أن أسلوب الكاتب يتماثل بحدود معينة مع أدب العصر الإسلامي الوسيط و " ألف ليلة و ليلة " ليس في اعتماد السجع فقط و إنما ، أحيانا ، في طرق التعبير عموما وعن المشاعر بشكل خاص و ما عرف فيما بعد في المصطلح النقدي الأدبي والسينمائي و التشكيلي المعاصر بـ " فرط العاطفة " ( over sentimental) و الإكثار من مفردات التعبير عن العاطفة و التشديد عليها . ففي الخلاسيون ص 118 يذهب جابر المسحور الى مطعم في برلين كان قد تعرف فيه على النادل التي تخدم فيه و هي امرأة جملية يكتب :
" و لج المطعم ....فأختلجت كرزة الحسن حيرة . نطقت في إثر تنهيدة : ما الذي أتى بك صبحا ؟ .. رد منكسرا : جئت مودعا . كالطلقة أزت صرخة طاشت و انغرست في نحره ، فتعلق خيط الكلام ببلعة . تاهت ، داخت ، حشرجت ، و نسف الحديث من أصله . ارتمت على كتفه زمنا ، ثم أفاقت : فكر مليا يا جابر " .
و في " حديث الكمأة " و حين يلتقي بخولة و أمها شمس واقفاتٍ أمام الباب ينوين الدخول يصعقه جمال " شمس " أم خولة التي يحبها و سيتزوجها فيقول :
" اهتز وجودي ، تزلزل صباي ، ارتجفتُ ، أخذتني إغماءة ، صحوت ، تلعثمت إزاء سحر سماوي ، طوحت بي الكلمات بعيدا " . حديث الكمأة ص 40 .
يخلق صبري هاشم رغم ذلك صورا معاصرة و يكتب رواية في هذا الزمان و لهذا الزمان . كتبت جيرترود شتاين مرة عن فن سلفادور دالي : أن مفرداته التشكيلية كلاسيكية ، لكن رؤاه معاصرة . و لو أخذنا أي مفردة بصرية منفردة من إحدى لوحات دالي سنجد أنها رسمت بعناية و دقة تماثل الدقة التي رسمت بها رسومات عصر النهضة و لكننا اذا انظرنا الى مجمل اللوحة و أجوائها الغرائبية وجدنا إنها غير ذات صلة بالماضي أبدا رغم انتماء المفردة التشكيلية إليه ، و مجمل اللوحة لا ينتمي إلا لوقتنا الراهن و زماننا المعاصر ، يكاد هذا ينطبق على صبري هاشم .
* * * *
على هامش كتابات العديد من الكتاب في مجال الرواية والقصة يثار دائما ، كما فعل قيس الزبيدي ، موضوع الحدود بين الأشكال أو الأجناس الأدبية . ليس من الصعب في هذا السياق ملاحظة أن هذه الحدود الصارمة هي ، تاريخيا ، مرحلة من مراحل تطور الرواية و هي ملازمة لتاريخ تطور كل الأعمال الإبداعية ، فيها يكون الوليد الجديد حساسا لكل " الأجسام الغريبة " لحماية نوعه و تثبيت ملامحه . على أننا لن نختلف على أن الحدود بين الأشكال الإبداعية و خصوصا المدونة و التي تعتمد الكلمة لا أقول إنها ، بمرور الوقت ، ألغيت أو أزيحت ، و لكنها بدون شك أصبحت متحركة ، مرنة و قابلة للتحريك كما أصبحت الأشكال الإبداعية أكثر تداخلا و تزايد تأثير بعضها على البعض الآخر.
في كلاسيكيات المعرفة بكل حقولها كانت الحدود بين الأشكال المعرفية اصطلاحية . فلا يمكن وضع حدٍ صلب غير قابل للاجتياز بين الفيزياء و الرياضيات مثلا . فلا ندري ، حين ندرس ظاهرة ما ، متى انتهى فعل قوانين الفيزياء و بدأ فعل قوانين الكيمياء أو الرياضيات ، فتخصيص العلوم هو تجريد معرفي بشري يهدف الى شكل من أشكال التخصيص الذي يساعد على الاستيعاب و هو نوع من أنواع التجريد الضروري و إسقاط ذهنيٌ على الظواهر من أجل فهم أحسن ، لكنه قطعا ليس واقعيا ، فالطبيعة مثلا لا تعمل وفق قوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات بل إنها تعمل بكل القوانين المكتشفة و التي عرفتها البشرية و بتلك القوانين غير المكتشفة بشكل متداخل و متآصر .
و بالرغم من أن قوانين العمل الإبداعي ذات خصوصية قائمة بذاتها إلا أن من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الخصوصية تجعل العمل الإبداعي مستقلا بالمعني المطلق للكلمة عن مجمل المعارف البشرية و من ضمنها العلوم . على أن من الجازم أن الحدود بين الأشكال الإبداعية متحركة مرنة و قابلة للاجتياز ، كما ذكرنا ، و أن المزاوجة المقصودة هو حق مطلق لكل كاتب أو مبدع .
لا ينبغي لهذا أن يلغي الخصائص الخاصة بكل شكل إبداعي و خصوصا تحديد العلاقة بين الرواية والقصة . فضمن كل الأشكال الإبداعية و ضمن التقارب العام بينها يوجد تقارب خاص و آصرة وثيقة بين الأشكال التي تعتمد الكتابة أو الرواية الشفهية أقصد : الرواية ، القصة ، القصيدة ، و كل أشكال النثر . قدمت قصيدة النثر شكلا ثوريا في المزواجة بين النثر و الشعر متخطية الحساسية و العزلة التي تحصن الأشكال الإبداعية نفسها بها ، كما فعل الرسم الحديث الشيء نفسه في استيعابه تقنيات السينما و الفيديو .. الخ . و هذا الشكلان الإبداعيان أي الشعر و الرسم كانا سباقين للتحرش بالإطار الضيق للشكل الإبداعي الذي يقرر الجنس و يرسم حدوده و أسقطا عنه هالة القداسة ، بل إن الرسم بالغ بالتغريب و أعتمد موادا لا صلة لها البتة بقماش اللوحة و الألوان حتى كاد يغادر نفسه و نوعه ، على أن من الصحيح ضمن هذا كله و ضمن " فوضى" التداخل و التشابك استيعاب الشكل الجديد للخصوصية ، وليس استعمالها لمزيد من التشويش و فقدان البوصلة . تحتاج الرواية الى تخطيط ستراتيجي يغطي مساحة واسعة من الزمان والمكان أو انعكاساتها على الورق . بالرغم من أن هناك قصة طويلة و رواية قصيرة فلا أجد أن أحدا سيجادل في أن الرواية أطول من القصة و تغطي مساحة أوسع اذا ما أبعدنا الاستثناءات المربكة . و بتلك النقطة يحتاج الكاتب الى مقدرة شاملة على إيجاد إيقاع يوحد مسار الرواية التي تسير أحيانا ـ و خصوصا في العراق الذي يفتقر الى تقاليد روائية ـ الى التفكك . إن ضرورة المراجعة العامة و المتكررة التي يلجأ إلى مثلها ماركيز مثلا ، كما ذكر هو نفسه في " رائحة الجوافة " من اجل تحقيق نسيج موحد للرواية و تجنب تفككها كالفسيفساء تكاد تكون قانونا عاما.
من الطبيعي أن تتراكم ضمن كل شكل إبداعي عناصر من "خارجه" على اعتبار أن مصدر العمل الإبداعي هو الحياة و الواقع و منهما يتغذى ، و كلما ازداد الواقع تعقيدا و تركيبا و تغريبا ازدادت الأشكال الإبداعية أيضا تعقيدا و تركيبا و تغريبا و الداعون الى نقاء النوع هم الداعون الى انفصال الإبداع عن الحياة . و تتراكم عناصر التغيير الى الحد الذي تدفع الشكل الإبداعي أحيانا الى مغادرة نوعه و الدخول في مرحلة نوعية جديدة ، و مهما كان النوع فإن ما هو مهم هو العمل الإبداعي نفسه بغض النظر عن اسمه و نوعه و مجال تبويبه. إن الجنس البشري معنيٌ بالإبداع تحت أي مسمى كان . فإذا ما ولد في العائلة طفل و احتار الجميع بتسميته و بقي بدون اسم ، فإن ذلك لا يعني إن الطفل غير موجود . علينا أن نهتم بالولادة أولا ثم بالتسمية ثانيا و في التاريخ نشأت مدارس عديدة و اكتسبت ملامحَها النهائية قبل أن يتم تسميتها . فتسمية " الانطباعية " قد نشأت بعد أن رسم مونية لوحة "انطباع " في سبعينات القرن التاسع عشر على نهر التايمز، وكانت الانطباعية قد نشأت و تطورت قبل ذلك بما يقارب العشرين عاما ، إنها موجودة قبل الاسم . و علينا أن نسأل أنفسنا ماذا لو أن مونيه لم يرسم لوحة انطباع ؟ لا شك أنه سيظهر عندئذ اسم آخر .عدا عن أن هذا الاسم لم يكن دقيقا أو علميا و أثار تحفظات العديد من المؤرخين و النقاد لأنه لا يمثل محتوى هذه المدرسة الفنية الناشئة ، و انه نشأ بحكم مصادفة . و لكنه اكتسب رسوخا و دلالة و إقرارا جمعيا ، وهذا هو المهم ، على محتوى بعينه دون الرجوع الى نشأة الاسم .
الاسم هو إذن : اتفاق اجتماعي على أن صوتا منطوقا أو رمزا مكتوبا أو كلاهما يدلان على شيء معين ، فلو أن المجتمع اتفق على أن اسم المنضدة هو : " س " لأصبحت " س " تدل على المنضدة . ولكن المجتمع لا يتفق بسهولة و لا عبثا على رمز دال إلا تحت ظروف معينة .
كثافة القصة و القصيدة تجعل القصائد و القصص الطويلة استثناءا فالكثافة هي ضغط المساحة و إعطاء دفقٍ إبداعي في زمن قصير يشبه الومضة ، قصيرة و مشبعة ، هذه الكثافة ثقيلة على الرواية اذا ما أديمت ، و ستخلق لا محالة مشاكل تتعلق بإدامة الشد الدرامي و اختبارا عسيرا لصبر أفضل القراء .
و اذا ما كان البعض يرى أن المتعة ليست وظيفة العمل الإبداعي أو إنها على الأقل ليست ضمن أهداف الكاتب و لا ينبغي أن تكون ، فلا مفر عندئذ من اعتبار المتعة التي تحققها الأشكال الإبداعية جميعها ( ناتجا عرضيا ) لم يضعه الكاتب حين يشرع بالكتابة كهدف ، على أن القبول الجمعي بالعمل الإبداعي متعلق بقدر كبير بهذا الأمر .
ليس لدي ما يمنع من الاستمرار في فرضية أن الرواية مرتبطة الى حد كبير بالاستقرار الاجتماعي و السياسي ، و العكس بالعكس . تعكس تقاليد الإشكال الإبداعية الكثيفة و القصيرة في العراق الأوضاع السياسية و الاجتماعية غير المستقرة ، فلا يمكن في وضع مضطرب التخطيط لعمل إبداعي يتطلب وقتا طويلا لإنجازه ، و لا يلغي الاغتراب و مغادرة الوطن عدم الاستقرار هذا ، فحين يغادر المبدع وطنه غير المستقر سيجد أن الشعور بعدم الاستقرار قد صار صفة ملازمة يحملها معه في حله و ترحاله . و بذا فان تقاليد الشعر و القصة أكثر بروزا في المنجز الإبداعي العراقي و بقيت الرواية الى حد كبير تحمل صفات القصة .
و مع ذلك أجدني لا أتفق مع الرأي الذي يرى أن تكنيك القصة مضر بالرواية في مطلق الأحوال ، والتعميم ليس صحيحا من الأدق اعتماد تحليل نقدي لكل عمل منفرد لمعرفة فيما اذا كان تكنيك القصة قد اضر بالرواية هنا أو خدمها هناك ، فالتعميمات تساعد الذين لا يرغبون ببذل أي مجهود حقيقي في تحليل النص . يكتب ميلان كونديرا ، وخصوصا في روايته " الخلود " فصولا يمكن أن تكون قصصا قصيرة ، ما يمنعها من ذلك قدرته المدهشة على الربط بين حوادث و وقائع وقعت في أزمنة و أمكنة مختلفة و لولا هذه المهارة لتفكك العمل . في كل شكل إبداعي سنجد وحدات منفصلة أو تكاد ، تستطيع أن تكون لوحدها وحدات إبداعية تحت أي مسمى كانت فالمقطوعات الموسيقية و السمفونيات تتكون من حركات أو وحدات موسيقية قائمة بذاتها و يفصل بينها فاصل زمني قصير على أنها تُوحّد في الغالب بروحية فنية واحدة أو بواسطة اللحن الأساسي الذي يتكرر في جميع الوحدات بطريقة أو بأخرى ، و في دروس تعليم الرسم غالبا ما يُلاحظ أن بعض الدارسين يرسمون وحدات و عناصر منجزة بشكل رائع اذا ما أخذت منفصلة و لكن من الملاحظ أيضا إنهم ليسوا قادرين بعد على الوصول الى ربط عناصر اللوحة بنسيج واحد و هذه هي أصعب مراحل العمل الإبداعي تشبه من بعض الوجوه توحيد نص طويل بنسيج واحد و منعه من التفكك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إمام وحاخام في مواجهة الإنقسام والتوترات في برلين | الأخبار


.. صناع الشهرة - كيف تجعل يوتيوب مصدر دخلك الأساسي؟ | حلقة 9




.. فيضانات البرازيل تشرد آلاف السكان وتعزل العديد من البلدات عن


.. تواصل فرز الأصوات بعد انتهاء التصويت في انتخابات تشاد




.. مدير CIA يصل القاهرة لإجراء مزيد من المحادثات بشأن غزة