الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترانيم الاستيطان

صبحي حديدي

2007 / 2 / 13
القضية الفلسطينية


عُرف الروائي الأمريكي روبرت ستون بأسلوبية خاصة تمزج، على نحو بارع ومتكامل، بين التشويق البوليسي على طريقة جون لوكاريه، والتأمّل الوجودي العميق على طريقة هرمان ملفيل، والاختراقات الشعورية المذهلة في عبثية الزمن الإنساني على طريقة صموئيل بيكيت. وهو سارد رفيع المراس، وبالغ الحساسية إزاء مصائر الفنّ الروائي في زمننا هذا، زمن التلفزة والفيديو ومسلسلات أوبرا الصابون وقصص الخيال العلمي والرسوم المصوّرة والإنترنيت. وهي مصائر قلقة متلاطمة متقلّبة، في عصر لا يبدو أنه عصر الرواية تماماً، على العكس مما بشّر بعض النقاد العرب الذاهبين بسرعة الصاروخ إلى تنحية الشعر، وتنصيب الرواية ديواناً للعرب.
وهكذا، تناول ستون هموم البشر السياسية والاقتصادية والإيديولوجية (رغم أنه ليس أديباً ملتزماً، ستالينياً أو جدانوفياً أو واقعياً اشتراكياً، وربما لأنه «عَكْس» هذه التسميات مجتمعة!)، في أماكن مثل سايغون وهوليود وسانتياغو وهافانا، وحيثما أُتيح لمزيجه الأسلوبي أن يبني حبكة موفقة اعتماداً على سلسلة وقائع حقيقية. وفي أيامنا هذه، حين تواصل الجرّافات الإسرائيلية الحفر في "باب المغاربة" ومحيط المسجد الأقصى، تراود الخاطر روايته الشهيرة "باب دمشق"، 1998، التي تذهب بالقارىء إلى مدينة القدس المحتلة، وتتوغّل عميقاً في باطنها البشري والديني والرمزي المعقد. ويرسم ستون حبكة عالية الترابط، اعتماداً على مؤامرة إرهابية يحيكها ويشرع في تنفيذها يهود متشددون، يؤمنون أن نسف مسجد عمر كفيل بتحقيق جملة أهداف كبرى: إشعال حرب دينية يهودية ـ إسلامية وإسرائيلية ـ فلسطينية، تمنح القيادة الإسرائيلية فرصة ذهبية لسحق الفلسطينيين وطردهم نهائياً من إسرائيل الكبرى، واستقطاب اليهود أنصاف المتدينين إلى صفّ التشدد، وتوفير الفرصة لإعادة بناء الهيكل، وبالتالي استمالة ملايين الأمريكيين المسيحيين المؤمنين بأن «المجيء الثاني» للمخلّص لن يتحقق إلا إذا قامت ـ ثم بادت! ـ أورشليم الجديدة الثانية.
فلندعْ جانباً التفاصيل البوليسية في الرواية (تتدخل المخابرات الإسرائيلية، الـ «شين بيت»، في الدقيقة القاتلة لإحباط المخطط، لأنها كانت قد اخترقت الخلية الإرهابية منذ طور مبكّر)، وكذلك التأمّل الفلسفي الذي ينساق إليه ستون حين يردّ جذور المؤامرة إلى عقائد صوفية يهودية قديمة، والتأمّل الوجودي الديني والإثني والثقافي الذي يدفعه إلى وضع معظم أبطاله في موقع وسيط (البطل نصف يهودي ـ نصف كاثوليكي، والبطلة يهودية أمريكية سوداء، وثمة جنسيات أوروبية متنوعة، وأمزجة متباينة، وسلوكيات راقية وأخرى وضيعة). المثير في الرواية تلك الإيحاءات المدهشة التي كانت تقود خيوط الحبكة إلى واقع الحال في المجتمع الاسرائيلي آنذاك: ما بعد اغتيال إسحق رابين، أيام بنيامين نتنياهو والائتلاف الليكودي القومي ـ الديني، نفق القدس والنقاش اللاهوتي حول باطن الأرض قبل سطحها، اليوبيل الفضّي للدولة العبرية وانكشاف المزيد من صفحات التاريخ الآخر للإرهاب الصهيوني، وبالطبع...أوج انحطاط العملية السلمية.
لكنّ الرواية كانت، تماماً كما تفعل اليوم أيضاً، تذكّرنا بما نعرفه عن هوس الدولة العبرية بتحويل علم الآثار إلى ديانة ودين، وليس مجرد حفريات في التاريخ الغابر تضيء أو تستكمل حلقات غامضة من السجل الإنساني. وفي كتابه «نبيّ من بين ظهرانينا»، والذي يروي سيرة إيغال يادين المحارب وعالم الآثار و«صانع أسطورة إسرائيل الحديثة» كما يُلقّب، يشير نيل سيبرمان إلى إن التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين كان بمثابة «ترخيص شعري للإستيطان الإسرائيلي المعاصر»، بحيث تنقلب الرُقيمات والألواح المكتشفة إلى ما يشبه ترانيم/عقود ملكية، لعقارات الماضي والحاضر والمستقبل، مقدسة منزّلة مكتوبة بمداد الآلهة. وذات يوم قطع المدير العام للآثار والمتاحف في الدولة العبرية ذلك الشوط القصير الأخير بين الحلم الأقصى والهستيريا القصوى، فاقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو (اليهودي) التالي: منذ الآن سوف نطلق على عصر الحديد اسم «عصر بني إسرائيل»، وعلى العصر الهيلليني اسم «العصر الحشموني»، وعلى العصر الروماني اسم «عصر المشناه»، وعلى البيزنطي اسم «العصر التلمودي»...
والصحافي الأمريكي الشاب كريستوفر لوكاس، بطل رواية «باب دمشق» والنموذج القياسي للبراءة الأمريكية، يعشق زيارة "باب العمود"، في التسمية العربية، وتشدّه إيحاءات "طريق دمشق" بوصفه درب النور الذي سلكه شاول الطرسوسي (اليهودي الفريسي الذي أذاق المسيحيين صنوف العذاب، قبل أن يؤمن ويصبح، بتزكية من برنابا الحواريّ، بولس الرسول وحامل المسيحية إلى أوروبا). لكنّ لوكاس يغادر القدس وهو يدرك أن باطن هذه المدينة أشدّ تعقيداً من أن يحتمل رواية واحدة للحدث الواحد ذاته، وأن مشروعه لكتابة تحقيق عن العنف والأصولية الدينية لن يفلح البتة في الهرب من التنميطات المعتادة.
قبل هذا القرار، كان لوكاس قد زار مدينة غزّة في يوم زيارته متحف "ياد فاشيم"، فاختلطت في ضميره عذابات الهولوكوست بعذابات الفلسطينيين. صديقته سونيا، يهودية الأمّ مسيحية الأب سوداء البشرة، تتوقف أسفل قوس الباب العتيق لتهجس قائلة في وداعه: «وماذا عنّا نحن؟ ماذا نفعل هنا بحقّ الجحيم؟ مَنْ نحن في الأساس»؟ مؤكد أنّ جرّافات "باب المغاربة" لن تمدّ سونيا بأيّة إجابات، حتى إذا انضمّ هذا الزمن الصهيوني إلى عصور حشمونية أو مشنائية أو تلمودية!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا